وجهة نظر

مارادونا الساحر.. مارادونا المعذب

هذه العبارة، ترسخت بذهني منذ كنت طفلا صغيرا لا أعي جيدا ما يجري حولي. كانت مداركي ضعيفة، وبالكاد كنت أجمع الحروف بعضها ببعض، فأتهجاها لأفهم وأستخرج منها كلمات وجملا مفيدة.

كان بمنزلنا العديد من الكتب، والعديد من الدفاتر، والعديد من الصحف الورقية على اختلاف تسمياتها واختلاف تواريخ إصدارها.

وقد حدث مرة أن وضعت يدي على دفتر من تلك الدفاتر البيضاء المخططة بأسطر متعامدة تشكل مربعات صغيرة، فتحته، فإذا بي أجد كل صفحاته قد ملئت بصور مأخوذة من جرائد ورقية، لشاب قوي البنية، قصير القامة، شعره منسدل على كتفيه، يرتدي بذلة رياضية، في وضعيات مختلفة مع كرة القدم. مرة تكون الكرة موضوعة بمهارة تحت قدمه. ومرة على صدره. وأخرى فوق رأسه. وهكذا..

حينئذ لم أكن أعلم من هو هذا الفتى؟ كنت أدرك جيدا أنه لاعب كرة القدم، وأنه لاعب مشهور، فقط لأن صاحب الدفتر، وهو أخي الأكبر، مهتم به إلى حد كبير.

فمن فرط اهتمامه به، كان يكتب بخط يده، بقلم جاف، تعليقا خاصا تحت كل صورة من صور هذا اللاعب. وكانت العبارة التي أثارتني كثيرا، وظلت راسخة في ذهني، لحد الساعة، كلما شاهدت صاحب الصورة على شاشة التلفاز أو في أي وسيلة إعلامية أخرى، تلك العبارة، التي تقول: “مارادونا الساحر، مارادونا المعذّب”.

صراحة، حينها لم أستوعب جيدا معنى هذه العبارة. فمداركي كانت لا تزال ضعيفة. ف”مارادونا”، لا بد وأنه اسم اللاعب الموجود بداخل الإطار، لكن، ما علاقته بالسحر، وما علاقته بالتعذيب؟ فهل هو ساحر بالمعنى الحرفي للكلمة، أم هو سحر من نوع خاص؟ وماذا يعني معذّبا؟ فهل معذّب بشد الذال وفتحها، أم معذّب بشد الذال وكسرها؟

حينئذ تعذر علي إيجاد أجوبة عن هذه الأسئلة. ولم استطع الاستفسار عنها. ظلت كاللغز عندي. لكن حين مر وقت طويل، فأصبحت مداركي تساعدني على الفهم، استوعبتها وأدركت معانيها.

علمت أنه ساحر في لمس الكرة. وعلمت أنه معذّب بشد الذال وكسرها. وعلمت أيضا أنه أسطورة في كرة القدم، قلما يجود الزمان بعباقرة أمثاله، ليس في مجال الرياضة وحسب ولكن في جميع المجالات.

ولطالما تساءلت، وقد ازداد تساؤلي إلحاحا حينما رحل هذا الساحر عن دنيانا مؤخرا، حول ما إذا كان قد أتى في زمن غير الزمن الذي أتى فيه، حيث لم يكن هناك إعلام بالشكل الموجود عليه اليوم، وحيث لم تكن هناك مؤسسات رياضية في المستوى المطلوب كما هو الحال اليوم، وحيث لم يكن هناك اهتمام بالمواهب كما هو متوفر اليوم.. فلو كان هذا كله متوفرا في زمانه، كان من الممكن أن يرى العالم النسبة المئوية الكبيرة من عبقريته التي تم كبحها ولم تظهر للعلن..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *