وجهة نظر

كيف يتجنب الاسلاميون الفخ في ظل التطبيع؟

الأهداف السياسية المعلنة للتحالف الإسرائيلي الاماراتي السعودي والمصري هو مواجهة الثلاثي السياسي: إيران وتركيا والإخوان المسلمين. وقد يوحي ذلك بأن الأمر يتعلق بالموقف من كل مكون من ذلك الثلاثي كما هو في الواقع، او من أية شكل من أشكال التعاون بينها. في حين أن العناصر الثلاثة هي عناوين محاور استراتيجية إسرائيلية يتم فيها توظيف الدعم الأمريكي الأعمى والدول الموقعة لاتفقات السلام مع إسرائيل. والعنوان الجامع لتلك المحاور هو القضاء على الاسلام الحركي والسياسي بكل عقائده وألوانه السياسية.
إن ما سبق ليس نتيجة تجريد ذهني تغذيه نظرية المؤامرة، بل مجرد تركيز للأدبيات السياسية الكثيفة المعبر عنها رسميا في مختلف المناسبات. ويمكن الاستئناس هنا بما نقله “يوني بن مناحيم”، المسؤول السابق بجهاز الاستخبارات العسكرية-أمان، عن “وزير المخابرات الإسرائيلي “إيلي كوهين” إعلانه أن الولايات المتحدة وإسرائيل تعملان على إنشاء تحالف إقليمي يضم مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة والسودان …”. وكشف أن التحالف الإقليمي له ثلاثة أهداف رئيسية: “التعامل مع الخطر الإيراني، ووقف الاتجاهات التوسعية الإيرانية في الشرق الأوسط، والتصدي لنفوذ محور “الإخوان المسلمين” بقيادة تركيا وقطر في الشرق الأوسط والحرب على الحركات الإسلامية، وإقامة تحالف يشكل جسراً بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، لإعادتها للمفاوضات مع إسرائيل”. وأشار إلى أن “الخطر الذي يتهدد إسرائيل والأنظمة العربية المعتدلة في الشرق الأوسط ينبع من تعاون إيران “الشيعية” مع الإخوان المسلمين “السنية”.(بتصرف عن العربي 21)
وبناء على هذه الصورة، يمكن بسهولة تمييز مختلف الدول المنخرطة في هذه الاستراتيجية التي تستهدف الاسلام الحركي والسياسي في كل أشكاله ومكوناته، سواء بشكل رسمي، من خلال توقيع اتفاقات السلام مع إسرائيل، أو بشكل غير رسمي بالعمل الفعلي على تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمشروع الاسرائيلي الأمريكي في المنطقة. وكذلك تمييز مختلف الفعاليات الحزبية والمدنية والفكرية التي تنخرط في نفس المشروع، بوعي وبدونه أحيانا.

وتعتبر إسرائيل الحركة الاسلامية عدوها الاستراتيجي لاعتبارات تاريخية وإذيلوجية، حيث أن فلسطين بالنسبة لتلك الحركات ليست قضية أرض محتلة وشعب تنتهك حقوقه فقط، بل هي عند أغلبها قضية عقيدة. مما يعني أن أمن إسرائيل على المدى البعيد مرتبط بضعف الاسلام الحركي والسياسي إن لم يكن باستئصاله. ويمكن الإشارة في هذا السياق، وبسرعة، إلى الحضور القوي لللإسلام الحركي والسياسي في صفوف المقاومة الفلسطينية، ودوره الحيوي في إعطاء المقاومة الفلسطينية ثقلا غير مسبوق في معادلة السلام في المنطقة.

وأين يمكن أن نضع الخطوة التطبيعية للمغرب؟

من الخطأ الفظيع وضع تطبيع المغرب في نفس الخانة مع تطبيع الإمارات ومصر فيما يتعلق بالمشروع الاستئصالي الاسرائيلي الأمريكي ضد الإسلام السياسي وضد قضية فلسطين. ويمكن قراءة ذلك في مستويين حيويين:

المستوى الأول: الموقف من الاسلاميين

ونبسطه في نقطتين:
الأولى: المغرب لا يعيش حربا مع الإسلاميين، بل إن جزئا منهم يقود الحكومة لولايتين، ولهم أكبر فريق نيابي في تاريخ المغرب، ويدبر جل المدن الكبرى وعشرات من الجماعات الترابية. ومشاركة الاسلاميين في الحكم استمرت لقرابة عشر سنوات، لم تسجل أي صدام بين الدولة معهم. بل إن رئيس الدولة، جلالة الملك حفظه الله، في رسالته الشفاهية الأخيرة لأعضاء حزب المصباح بمناسبة تعيين الدكتور سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة، أكد رغبته في العمل مع الحزب على أساس ما أبان عنه من وطنية وتفان في خدمة الصالح العام. بل إن محاولة البعض من قبل استثمار الأحداث الارهابية لـ 16 ماي 2003 بالدار البيضاء لحل حزب العدالة والتنمية، جلالة الملك حفظه الله، هو من رفضه ووقف ضده…

الثانية: الأزمة الديبلوماسية الأخيرة التي سجلتها العلاقات المغربية الإماراتية والسعودية بالخصوص، كانت حول رفض المغرب التدخل في شؤونه الداخلية، في محاولات يائسة لتلك الدول لتأليب الدولة والإعلام والرأي العام على إسلامييه المشاركين في الحكم. وقد بلغ الأمر بدولة الإمارات ، بمناسبة يومها الوطني لسنة 2018، أن تورطت في محاولة تشكيل طابور إعلامي يناهض حزب العدالة والتنمية، من خلال محاولة تجنيد 6 مؤسسات إعلامية كبيرة تمت دعوتها لحضور احتفالات ذلك اليوم في الإمارات، للتلاعب بالرأي العام وتأليبه ضد الحزب السياسي الذي يقود الحكومة، بدعوى أنه حزب إخواني! وهو ما رفضته تلك المؤسسات بالطبع، لينكشف الأمر بعد ذلك ويخرج للعلن (لمن أراد تفاصيل القضية فليراجع مقاللنا المعنون بـ” ما حقيقة الذباب الإماراتي بالمغرب؟ وما موقف “جبهة الكذابين”؟، والمنشور في 8 مارس 2019 على موقع العمق). وقد عشنا قبل شهور فقط، كيف تم استغلال ظروف “أزمة كورونا” فينشط “الذباب الالكتروني” للدولتين في نشر الأخبار الزائفة واستفزاز الشعور العام للمغاربة، ونشر الإشاعات، في محاولة للتلاعب بالرأي العام والتحكم فيه.

إن ما سبق يشكل جوهر الاختلاف المغربي مع التحالف الاقليمي الذي تقوده الإمارات والسعودية ضد الاسلاميين، وهو نفسه الموقف الذي يجعل المغرب متمايزا وبعيدا عن المشروع الاسرائيلي الأمريكي الاستئصالي ضد الاسلام السياسي. (في هذا السياق يمكن التذكير بعمليات الاستئصال السياسي والبدني الذي اعتمدته الدولتين بعد موجة “الربيع العربي” في محاربة هؤلاء الاسلاميين على أراضيها، وهو نفسه الموقف الذي يحدد تموقعها في كثير من القضايا الاقليمية وداخل الدول مثل مصر، وليبيا، وتونس، …).

المستوى الثاني: الموقف من القضية الفلسطينية

من حيث الشكل فالمغرب لم يوقع اتفاق سلام مع إسرائيل يهم القضية الفلسطية أيضا، على غرار ما قامت به دول التحالف الاقليمي المشار إليها سابقا، فالاتفاق الثلاثي الذي وقعه المغرب، إلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، وأكده بلاغ الديوان الملكي المعلن يوم 22 دجنبر، بعد توقيع الاتفاق المشار إليه، لا يشير إلى شيء يهم القضية الفلسطينية وبقي في حدود تدابير تطبيعية تتعلق، حسب نفس البلاغ، بـ” الترخيص لشركات الطيران الإسرائيلية بنقل أفراد الجالية اليهودية المغربية والسياح الإسرائيليين إلى المغرب، والاستئناف الكامل للاتصالات والعلاقات الدبلوماسية والرسمية مع إسرائيل على المستوى المناسب، وتشجيع تعاون اقتصادي ثنائي دينامي وخلاق، والعمل من أجل إعادة فتح مكتبي الاتصال في الرباط وتل أبيب”. وفي انتظار الكشف عن فحوى ذلك الاتفاق الثلاثي، نجد أن التزامات المغرب، رغم كونها تطبع مع إسرائيل، إلا أنها في الواقع لا تلزم المغرب بأي موقف يمس القضية الفلسطينية. وهو ما حرص جلالة الملك على تبليغه للرئيس الفلسطيني محمود عباس مباشرة بعد مكالمته مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بتأكيده على أن لا شيء تغير أو سيتغير من موقف المغرب من القضية الفلسطينية، وأن تطبيعه العلاقة مع إسرائيل لم ولن يكون أبدا على حساب تلك القضية.

بالمقابل، إذا رجعنا إلى اتفاقات السلام الموقعة بين “إسرائيل” ومصر، او بين إسرائيل والإمارات أو البحرين، مثلا، نجدها تضع قواعد ملزمة لتلك الدول فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ولنأخذ مثلا من الجيل الجديد من “اتفاقات السلام” مع إسرائيل، ويتعلق بالاتفاق الاماراتي الاسرائيلي والذي يتطابق مع الاتفاق مع البحرين، حيث نقلت عدة وسائل إعلامية عن “قناة كان” العبرية بنود تلك الاتفاقية، وهي:

• إقامة السلام وعلاقات دبلوماسية والتطبيع الكامل بين البلدين.
• يعترف كل جانب بسيادة الطرف الآخر ويحترمها، ويتم تسوية النزاعات بين البلدين بطرق سلمية.
• انشاء سفارات وتبادل السفراء باسرع وقت ممكن.
• التزام البلدين باتخاذ خطوات لمنع أي عمل عدائي من أراضيهما ضد الدولة الأخرى.
• توقيع اتفاقيات تعاون في مجالات عديدة منها: التجارة والاستثمار والطيران والسياحة.

فإذا كان البند الأول شاملا وكافيا في التعبير عن تموقع الدولة الموقعة من القضية الفلسطينية، فإن البند الرابع، بالإضافة إلى أنه يمنع الدولة الموقعة من القيام بأي عمل عدائي ضد إسرائيل، بغض النظر عن أي اعتبار، فهو يلزمها باتخاذ خطوات عملية لمنع أي عمل عدائي من أراضيها ضد إسرائيل. والعمل العدائي هنا شامل قد يؤول ليشمل مسيرات احتجاجية او أعمال فكرية أو أعمال إعلامية، وقد يشمل تيارات فكرية وسياسية تعتبرها إسرائيل عدوة وتمارس أعمالا عدائية ضدها. لذلك ففي هذا البند بالضبط يسكن ما يتعلق بالموقف من “الاسلام السياسي”. وهذا يعززه النهج الفعلي للدولة الموقعة ضد الاسلاميين.

إن اتفاقات السلام مع إسرائيل تتجاوز قضايا التعاون الثنائي في مجالات اقتصادية ودبلوماسية، إلى تحييد تلك الدول فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بل وتجنيدها ضد عدو إسرائيل الاستراتيجي المتمثل في “الاسلام السياسي”. وهذا ما لا نجده في الاتفاق الثلاثي المغربي الأمريكي الاسرائيلي، بتأكيد من رئيس الدولة، جلالة الملك حفظه الله، وبتييد من الواقع المعاش.

وماذا على إسلاميي المغرب أن يفعلوا؟

ما سبق يؤكد أمرا هاما، وهو أن قرار المغرب التطبيع مع إسرائيل من الأوراق الحارقة التي سيعمل كل خصوم الاسلاميين على استثمارها لتحقيق مبتغياتهم المتنوعة والمختلفة. وسنجد على رأس هؤلاء، المنخرطون في المشروع الاستئصالي الإسرائيلي. لكن الأهم من هذا هو أن الإسلاميين أنفسهم قد يرتكبون حماقات سياسية تعجل بتحقيق مبتغيات أعدائهم وخصومهم، فيقعون في “فخ التطبيع” الحقيقي الذي نصب لهم. وتكون نتيجته هو التمكين للتطبيع في الوقت الذي يظنون أن مواقفهم ستحاربه وتقاومه.

بشكل عام، إن أي توتر بين الدولة والإسلاميين بخصوص القضية الفلسطينية، قد يقوي مناصري التطبيع الذين لا تهمهم القضية الفلسطينية، وبالمقابل يضعف الدولة أمامهم ودفعها لمزيد من تأزيم العلاقات بينها وبين الإسلاميين، ودفعها إلى ردود فعل تلحقها بالمشروع الاستئصالي ضد الاسلاميين، وتدفعها للتنصل من التزاماتها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية، وسيفتح ذلك الباب واسعا للابتزاز الأمريكي والاسرائيلي على غرار ما شهدته بعض الدول، وخاصة مصر.

وبشكل خاص، ينبغي أن يدرك أبناء حزب العدالة والتنمية أن وجودهم في الحكومة وفي تدبير الشأن العام، هو أكثر شيء يغيض إسرائيل وحلفائها الاستئصاليين. ذلك أن ذلك الحضورالسياسي المشارك، الذي تحملت الدولة بسببه توتر علاقاتها الدبلوماسية مع دول خليجية لها أهميتها بالنسبة للمغرب، تعتبره تلك الدول محفزا للإسلام السياسي في المنطقة، ويعطيه الأمل، ويمده بمبررات الاستمرار. وفي هذا الاطار، ورغم أنه مثل مستفز عاطفيا، إلا أنه من الناحية السياسية ينبغي أن نقوله بشكل واضح في سياق ما نحن بصدده لتقريب الصورة أكثر، إن إسرائيل لم يسعدها أن يكون الدكتور سعد الدين العثماني موقعا على الاتفاق، لأن المكان الذي تريده له هو أن يكون في السجن، او أن يخرج إلى المعارضة ويصدر بيانات التنديد، ويوقع مكانه السيد أخنوش أو السيد وهبي أو السيد بركة أو السيد بنعبد الله، أو غيرهم.

إن الرسالة التي ستؤلم إسرائيل وحلفائها الاستئصاليين هو تفادي الاسلاميين بشكل عام، أي صدام أو توتر مع الدولة. وبشكل خاص، صمود حزب المصباح في موقعه، وإصراره على الحفاظ عليه، وتفويت الفرصة على المتربصين به، والعمل بجد وقوة لولاية ثالثة بحول الله. وهذا هو الذي يخدم القضية الفلسطينية، ذلك أنه إذا كان الحزب لم يستطع فعل شيء لوقف قرار التطبيع الحالي لاعتبارات مؤسساتية، فإن أمامه مجالات كثيرة سيرتادها التطبيع، وإذا تركوها لغيرهم ممن لا موقف لهم، كان ذلك من أسباب التمكين للتطبيع في مختلف المستويات.

هل يعني هذا أن يرضى الاسلاميون بالتطبيع؟ لا، أبدا. بل ينبغي أن نفرق بين الموقف الرافض للتطبيع وبين الوقوع في فخه وتحقيق أهدافه بردود فعل عاطفية وخاطئة. فعدم وعي الاسلاميين بأبعاد المشروع الاستئصالي الاسرائيلي أو تجاهله، وعدم تمييزهم، وإن هلى مضض، بين التطبيع المغربي “النفعي” والتطبيع على أساس اتفاقات السلام مع إسرائيل المضرة بالقضية الفلسطينية، سيجعل التدابير التطبيعية مع إسرائيل وإن كانت صادمة، هي الشجرة التي تمنعهم من رؤية أن تلك التدابير، على المدى المتوسط والبعيد، ليست سوى الفخ الذي ستحقق من خلاله إسرائيل وحلفائها في الاستئصال، هدفها الاستراتيجي الذي يدور حول إضعاف الوجود الاسلامي الحركي والسياسي أو استئصاله.

إن التميكين للتطبيع في المغرب سيربح أكثر بقدر ما تتوتر العلاقة بين الاسلاميين والدولة، وبقدر ما يبتعد الاسلاميون عن تدبير الشأن العام، وينزووا في المعارضة، او خارج مؤسسات الدولة.

إن الخروج إلى المعارضة لا يخدم القضية الفلسطينية، لأن أقصى ما قد يعطيها بيانات تنديد واستنكار. وإن الذي سيفيد القضية الفلسطينية هو التموقع في مراكز القرار، إن لم يكن لوقف التطبيع، فليكن لمنع توسعه ولإبطائه على أقل تقدير.

إن واجب الوقت يفرض على الاسلاميين في المغرب، كما في كل مكان، أن يبلوروا استراتيجيات ذكية لمواجهة التطبيع. وأن يدركوا أن التطبيع لا يواجه بالمواقف والبلاغات مهما كانت قوية وراديكالية. استراتيجية مواجهة التطبيع تبدأ بتقوية علاقة الاسلاميين بدولهم، وكسب ثقتها، وتقويتها أمام الضغوطات والإغراءات الخارجية القوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *