وجهة نظر

هكذا تحدث طه عبد الرحمن عن التطبيع

لا شك أننا تعودنا سماع وجهات النظر في العالم الإسلامي من خلال ما تبثه القنوات الفضائية أو ما تجود به مواقع التواصل الاجتماعي، بل إن صياغة وجهات النظر والآراء تخضع لتأثير هذه الوسائل الحديثة، حتى صارت المنظمات السياسية والمدنية تترجم الأفكار الأكثر انتشارا واجتناب مخالفتها، مما جعل مستوى الثقافة عند المسلم -عموما- في تناقص ينبؤ بالخراب بعدما فقد البوصلة وحُسن التوجيه، لأنه لم يعد أمر تأسيس وبناء الثقافة بالشكل الذي ينبغي أن تكون عليه، أو على الأقل، كيف كانت عليه من قبل.

وقد نتقبل تأثر العامة بما عمت به البلوى، لكن ليس من المنطقي إطلاقا الرضى بالمستوى الثقافي الذي صار عليه معظم قادة ومناضلي المنظمات، لاسيما السياسية منها، لأن الأصل فيها هو امتلاكها لرؤية واضحة المعالم، مع العمل على تحقيقها من خلال البرامج والمخططات، كما هو الأمر عند غيرنا في العالم الغربي. بيد أن الانغماس في خلافات واختلافات يستحي المرء ذكرها، أوقعتنا في هزيمة نفسية خطيرة، ومرد هذا كله راجع بالأساس إلى عدم الاهتمام والاغتراف من نظريات أهل الفكر والفلسفة. وهذا يخالف منهج من قلدنا عند تأسيس هذه المنظمات السياسية، حيث نجد الفاعل السياسي، عندهم، مهتم بنظريات فلاسفة بلده، بل في محاولة دائما قدر المستطاع لتنزيل أفكارهم بعناية مركزة، مما جعل السياسة ذات معنى وشجع على المنافسة لتحقيق أحلامهم، ولو لم تحضى بالقبول بعض الأحيان عند ظهورها.

وعليه، فإن معالجة قضية التطبيع، بعدما أصبح الكل يتحدث عنها إثر إعلان المغرب استئناف فتح العلاقة مع الكيان الإسرائيلي مجددا، أصبحت واجبة. ولهذا، ارتئينا تناولها استنادا على الفلسفة الائتمانية التي يقودها الفيلسوف د. طه عبد الرحمن، وذلك من خلال ما قرره في كتابه القيم ” ثغور المرابطة”، حتى نساهم في عرض أفكار لم تلقى من الاهتمام ما يليق بها، لاسيما أنها من إنتاج فيلسوف إسلامي متميز، يكاد اسمه لم يُذكر عند مناقشة ما ألمّ بنا، لأن الأصل عند احتدام الصراع والخلاف يُرجع إلى أهل الفلسفة والفكر، وليس إلى أصحاب السياسة والمصالح؛ وبالتالي، ستكون هذه المساهمة عبارة عن محاولة تقريب القارئ من وجهة نظر لفيلسوف إسلامي كبير، وذلك بشكل مختصر ومتصرف فيه حتى تُناسب المقام، وتُشجع القارئ كي يطالع بنفسه على المقاربة التي تميز بها هذا الفيلسوف الكبير د. طه عبد الرحمن، خصوصا في كتابه القيم “ثغور المرابطة: مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية”.

لقد طبق الفيلسوف طه عبد الرحمن المقاربة الائتمانية على القضية الفلسطينية عند تناولها، حيث قرر، في البداية، أن الكيان الإسرائيلي ألحق أذى لا وصف له للإنسان الفلسطيني الذي يمتاز بخصوصية ليست لسواه، إذ أرضه ملتقى العوالم (الشاهدي منها والغيبي)، وإرثه ملتقى الأبعاد (الزمي منها والسرمدي). وعليه فإن إدراك حقيقة الإنسان الفلسطيني لا يمكن أن يتم إلا بمقاربة تصل العالم الشاهدي لأرضه بعالمها الغيبي، كما تصل البعد الزمني لإرثه ببعده السرمدي. وللتذكير، فإن المقاربة الائتمانية تأخذ بمبدأ أساسي وهو أن لكل شيء بعدين، أحدهما الصورة، وهي المظهر الخارجي؛ والثاني، الروح، وهي الجوهر الداخلي. ومفاد هذا، أن الإيذاء الإسرائيلي يقوم في إيذاء الفلسطينيين من جانبين، أحدهما: إيذاء الأرض التي بارك فيها ربهم، أي أن روح هذا الإيذاء يتمثل في إيذاء الذي بارك فيها، أي ” إيذاء الإله”؛ والثاني، إيذاء الإرث الفطري، أي أن روح هذا الإيذاء يتمثل في إيذاء الذي أنتج هذا الإرث، أي إيذاء الإنسان.

وهكذا، فإن الحديث عن التطبيع، يقتضي معرفة حقيقة القضية الفلسطينية حتى نتمكن من تخطي جميع الإشكالات ونتجنب الوقوع في الأخطاء ومسايرة ما يُنشر من مغالطات على مختلف القنوات. وللخروج من التيه الذي خيم على الساحة، حيث أمسى مناقشة أمر التطبيع يأخذ مسارا غير المسار الصحيح، ويكاد منح حق الصهاينة في تأسيس الدولة والتطبيع معهم تحصيل حاصل ويستحق الدفاع عليه، لاسيما بعد انسياق مؤسسات وشخصيات عامة مع تيار التطبيع والجمع بين المتناقضات، كالقول بحق الكيان الاسرائيلي في الدولة والدفاع عن القضية الفلسطينية في آن واحد.

ولهذا نجد الفيلسوف طه عبد الرحمن يؤكد على مسألة الإيذاء التي اتخذت شكلين حسب ما أشرنا إليه في الفقرة الرابعة: إيذاء الإله وإيذاء الإنسان.

إيذاء الإله

إن الأصل الذي اعتمده فيلسوفنا في استعمال هذه العبارة هو الآية القرآنية:”إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا”، سورة الأحزاب 57. وبالتالي، فإن إيذاء الإله، عند الاسرائيليين قديم وتاريخهم الطويل في ذلك شاهد عليهم، وهذا ما لا يحتاج بيانه لكثرة القصص، حيث تفننوا في نقض المواثيق والعهود. لكن أفحش وجوه الإيذاء، حسب ما قرره الفيلسوف طه، هو منازعتهم الإله في صفة عظمى من صفاته وهي “المالك”، وبما أن الإسرائيليين أبوا إلا أن يكونوا هم المالكون وغيرهم هم المملوكون، اتبعوا كل الأساليب التي في مُكنتهم، لا يبالون إن هضموا حقا أو تعدوا قانونا أو نكثوا عهدا أو خالفوا وعدا، بل لا ينفكون يبحثون عن مسوغات التمسك بهذه الوسائل والأساليب التملكية، على ظلمها وخبثها، مستشعرين أنهم يضاهون الإله في التصرف في ملكه كيف يشاء.

وبهذا نجدهم يبنون أساليبهم ووسائلهم في منازعة المالكية الإلهية على المبدأ الذي تحدث عنه الفيلسوف طه، وهو: ” كل ما يمكن احتلاله من أملاك غيرهم، فهو، بالضرورة، مِلك لهم”، وعليه، أعطى فيلسوفنا حدا لهذا الاحتلال للأرض حيث أطلق عليه إسم ” الإحلال” وهو: “احتلال الأرض، منازعة للمالكية الإلهية”، متبعين في ذلك وسائلهم الإحلالية المتعددة، وأخطرها التي سماها فيلسوفنا ” الإحلال المقدس” الذي يقوم في التسلط على الأماكن المقدسة، منضبطا بالمبدأ التالي: “على قدر قدسية المكان المحتل، يكون الشعور بالملكية”؛ ولن يستقر لهم قرار، حتى يعرضوا المسجد الأقصى بكامله للدمار، ليتأتى لهم، حينها، أن يقيموا مكانه رمز الملكية عندهم، أي هيكلا يضاهون به الإله في الاتصاف بالملك.

وعليه، جعل الفيلسوف طه من خصوصيات الدولة التي أنشأها الإسرائيليون الاشتراك في التمليك، حيث أن عقولهم وقلوبهم تكيّفت بوصف المِلكية إلى حد أنها لا تتعامل مع أي شأن، كائنا ما كان، إلا كشيء يُمتلك. لذا، فإن حقيقتها أقرب إلى كونها مؤسسة أعمال منها إلى كونها مؤسسة أحكام، بل تٌعتبر النموذج الأمثل لطغيان روح التملك، لأن القصد الأول من وراء إنشائها الاستعداد لمزيد الامتلاك بطريق الإحلال.

إيذاء الإنسان

إذا كان الإسرائيليون قد آذوا الإله في أخص صفاته، فبأن يؤذوا الإنسان في أخص صفاته من باب أولى؛ وبما أن أخص ما يُميز الإنسان هو فطرته، والتي بها يصنع تراثه الأصيل، بل إن الفطرة عبارة عن الذاكرة التي تحفظ القيم والمعاني الأصلية المبثوثة في روح الإنسان منذ خَلقه، نازلة من الروح منزلة الجوهر؛ وبما أن إيذاء الإله اتخذ صورة الاحتلال، لزم أن يكون إيذاؤهم للإنسان عبارة عن احتلال فطرته، والذي سماه طه عبد الرحمن الإحلال، وهو: عبارة عن إفساد الفطرة لدى الإنسان الفلسطيني بما يجعله يتلقى بالقبول مفاسد احتلال أرضه، اغتصابا وتهجيرا وتشريدا وتدميرا وتجريفا وتقطيعا، واتخذ له تعريفا وفق الفلسفة الاىتمانية: “الحلول هو احتلال الفطرة المؤصَّلة، جلبا للقبول بتدنيس الأرض المقدسة”.

وعليه، فإن الفيلسوف طه جعل إفساد الفطرة يختلف باختلاف درجتي الحلول، وهما:

أحدهما، حلول جزئي ويتمثل في قلب القيم، حيث أن إحدى درجات إفساد الفطرة هو فصل الإنسان عن بعض القيم الفطرية بما يخدم أغراض الساعي إلى هذا الإفساد، وبما أن أذى الإسرائيليين بلغ غاية التعارض مع القيم الأصلية، جعلهم يعبثون بقدرة الإنسان الواقع تحت احتلالهم وحمله على الانتقال من القيم الفطرية إلى أضدادها، حتى يرى الحق الذي معه باطلا، ويرى الباطل الذي معهم حقا، ومتى تمكنوا من ترسيخ هذه القيم الأضداد في نفس الإنسان الفلسطيني، أحدثوا فيها أنواعا ثلاثة من الإفساد: الأول، إفساد الذاكرة، والذي يؤدي إلى اختلال علاقة الفلسطيني بماضيه؛ الثاني، إفساد الثقة بالذات، والذي يؤدي إلى اختلال علاقة الفلسطيني بحاضره؛ والثالث، إفساد التوجه، والذي يؤدي إلى اختلال علاقة الفلسطيني بمستقبله. وعليه، متى اختلت علاقة الفلسطيني بالزمان في أبعاده الثلاثة، اختلت كذلك علاقته بالمكان، حيث إضعاف تعلقه بالزمان يكون طريقا سهلا لإضعاف تعلقه بالمكان، ولهذا نرى إجراءات النفي والمنع من دخول مدينة القدس ومن الصلاة في المسجد الأقصى لمدد مختلفة.

والثاني، حلول كلي ويتمثل في سلب الفطرة، حيث يعتبر نهاية في إفساد الفطرة، باجتثاثها أو استئصالها، ويكون الحلولي آنذاك إنسانا بلا فطرة، قاطعا صلته بعالم الغيب الذي خرج منه، وهذا ما يُعرف باسم “التطبيع” في الخطاب السياسي والقانوني.

التطبيع
بعيدا عن التطرق لأنواع التطبيع باعتبار سعته الجغرافية ولا الغوص في بعض الخبايا والاتفاقيات، فإن “التطبيع هو عبارة عن تضييع ما لا يُضيع من مزايا الإنسانية” حسب ما قرره فيلسوفنا طه، وهذه بعض أشكال التضييع:

تضييع الطبيعة: هو الارتباط بالكيان الإسرائيلي بما يجعل وجوده في فلسطين وجودا مشروعا، حيث توجب هذه المشروعية للكيان أكثر مما يجب لغيره من دول الجوار، بحكم تفوقه في مختلف مجالات الحضارة المعاصرة. وعليه، فإن تسمية التطبيع لهذا الارتباط لا تصح: لكون لفظ التطبيع من الطبيعة وهي الجِبلة؛ وأن مفهوم التطبيع يقوم على افتراض مسبق، وهو أن الارتباط بالكيان الإسرائيلي كان طبيعيا قبل الآن، فيتعين رده إلى سابق عهده، والحال أنه افتراض باطل؛ وأخيرا، فإن التطبيع يمكن إطلاقه على هذا الارتباط، لكن في معنى يضاد المراد منه، وهو أن مفهومه بمعنى إزالة الوصف الطبيعي عن الارتباط بالكيان الإسرائيلي، فيصير قولنا: “الدول العربية المطبعة” مرادفا ل: “الدول العربية التي ارتبطت بالكيان الإسرائيلي بعلاقات غير طبيعية”.

تضييع الروح: بما أن أصل التطبيع هو الحلول الكلي أي احتلال الفطرة؛ وبما أن الفطرة جوهر الروح، وانتزاعها هو انتزاع للجوهر، واجتثاثه شر من اجتثاث البدن، فإن المطبِّع قد آثر موت روحه على موت بدنه؛ والفطرة تتضمن المعاني والقيم التي فطر عليها الإنسان، بيد أن الإرادة الإسرائيلية تأخذ بالقيم المضادة للقيم الفطرية، فإن المطبِّع يستبدل الإرادة الدنيا بفطرته التي هي الأعلى؛ والفطرة منشؤها عالم الحقائق عكس الإرادة الأسرائيلية التي بُنيت على الأساطير والأباطيل، واقتحامها رحاب الفطرة، يضع المطبع في مقام استبدال صحيح الحقائق بفاسد الأوهام؛ والإنسان بفطرته، التي تتضمن القيم الأصلية، يُولِّد قيما أخرى، تسمى قيم الحكمة، بيد أن انتزاع الفطرة من طرف الإرادة الإسرائيلية، يمحو قيم الحكمة، ويكون المطبع قد قضى على نفسه بموتين شنيعين: موت الفطرة وموت الحكمة؛ وبهذا قد يقال أن الإرادة الإسرائيلية تأسست على المعرفة الإسرائيلية واكتسبوا مجموعة من القيم العلمية والتقنية، عكس الفلسطيني أو الإسلامي الذي يشعر بضآلة علمه وفكره، لكن منطق الاحتلال يحرص على أن يمنع المحتل من الوصول إلى المعرفة النافعة، خوفا من أن يطاوله ، يوما ويقوى على تحرير نفسه، بل إنه يعرض هذا المنع نفسه في صورة معرفة أخرى تجعل المحتل ينخدع بها، فيكون المطبع قد أخذ بالمعرفة التي تحجبه عن المعرفة. وخلاصة القول فإن المطبع يستبدل الذي هو شر بالذي هو خير.

تضييع القداسة: لقد أخذ القدوس، سبحانه وتعالى، من الإنسان ميثاق الائتمان على أمور مقدسة، والمطبع يستوي عنده احتلال الإسرائيلي للأرض المقدسة، يل يستوي تسليمها الطوعي له وتسليم سواها، رافعا القدسية عن هذه الأمكنة، مما يوقعه في تدنيس المقدس، واستبدال فطرة التقديس بنزعة التدنيس، ويهون عليه العبث بالكتاب المنزل على قدر ما يطلبه المحتل الإسرائيلي، فيتأول الآيات القرآنية، بل يتجرأ على ما لم يجرؤ عليه أحد، فيصرف بعض أركان الدين كركن الجهاد، متعللا بأن الكيان الإسرائيلي يجنح للسلم. وهكذا، فإن تطاول المطبع على حرمة المنزل يذهب بآخر بقية من منزوع فطرته، ألا وهو العقل. ولا يكتفي بأن يأتي ما أتى، بل يشتغل بترويض نفسه على مزيد من التدنيس والتحريف، حتى يصير بمنزلة الطبع، مما يهون عليه رفع القدسية عن بيت الكعبة كما رفعها عن بيت المقدس، مما يؤول به إلى عدم التوبة من تطبيعه، بل على العكس ترسيخه، حتى يصير له سجية.

تضييع الحياء: إن خلق الحياء في مرتبة الخلق الأول في الفلسفة الائتمانية، ويبعث على اجتناب المنكرات، وعلى رأسها إيذاء الآخرين، وبما أن أصل وجود التطبيع هو فقدان الحياء، فإن المطبع من سماته الوقاحة، ومظاهر تجليها كثيرة، نذكر منها:

النسيان الكلي للنظر الإلهي: حيث يعتبر الأصل في وجود الحياء، بيد أن المطبع لا يكتفي بأن ينزع الحياء من نفسه، بل يسعى إلى أن ينزعه من غيره، فوقاحته ليست من جنس الوقاحة القاصرة، وإنما هي وقاحة متعدية صريحة.

فقدان التمييز الأخلاقي: إن المطبع يفقد ما يُعرف بالضمير أو الواعظ أو الوازع والذي يُمكّن من تمييز الخير عن الشر أو تمييز الحق من الباطل، وذلك بحلول الإرادة الإسرائيلية فيه، فطفق يستبدل بقيمه الأصلية قياما مضادة لا يملك الحكم عليها، وعليه تجد الحاكم المطبع لا يُبدي أي استعداد لأن يتوب من خطيئته، بل يُصر عليها، بيد أنى له أن يعتز بما اقترف، إذ أن قيمه هي أضداد للقيم الفطرية، فعزته إنما هي ذلة، فالمطبع لا يكون إلا ذليلا مذلولا، ولا ينفك يتزلف لمن أذله حتى يبلغ حد إعلان مبايعته.

ممارسة النفاق: معلوم أن النفاق هو إظهار خلاف ما في الباطن لغرض من الأغراض، قد يقع فيه من يقع في وقت أو وضع، لكن المطبع يتميز بكونه يمارس النفاق على أوسع نطاق، ذلك أن ذاته المستلبة تكون بين حالتين: أولاهما، أنها تضاد الذوات التي حافظت على فطرتها في أمته، فيضطر إلى إخفاء استلابه وإظهار عكسه، أي أصالته، بغية سلب الذوات من بني جلدته أو عقيدته فطرتَها على التدريج وفي غفلة من أمرها، لأن نفاق المطبع لأهل الفطرة استدراج خفي لهم ومكر متين بهم.

أما الحالة الثانية، فيُخفي استلابه لإيقانه دونية رتبته رغم أن جنس ذاته من جنس الذات الإسرائيلية، طمعا في الإشفاق عليه لما يلاقيه من عناء في التظاهر بما ليس من قدره ولو أنه أمسى من طبعه، ليكون نفاق المطبع لأهل إسرائيل استعطاف خفي لهم وتقرب مشين منهم.

لكن يبقى الباعث الدفين على النفاق عند المطبع هو الخوف من الناس، عجزا عن المواجهة، وهذا الخوف الذي ولده فيه عدم خوفه من رب الناس، فالجبن هو الذي يدعوه إلى أن يكون ذا وجهين بين الناس، لاقيا كل فئة بما تحب، وهو في كلا الحالتين كاذب، فيلقى أهل الفطرة بظاهر الفطرة، مبطنا خلافها، كما يلقى أهل إسرائيل بظاهر الخضوع للإرادة الإسرائيلية، مبطنا التقصير فيه، بل إن عريض نفاق المطبع إنما هو من وجود شنيع جبنه.

وخلاصة القول، إن المطبع ذات ضائعة ومضيعة، وتضييعها ذو وجهين: تضييع للقيم وتضييع للأمم.

وفي الختام، أتمنى أن يكون التوفيق من نصيبي في محاولتي هذه لعرض بعض ما أصل له فيلسوفنا الكبير د. طه عبد الرحمن، وأعتذر عن الإطالة غير المقصودة، مع دعوتكم التعرف على مشروع الفيلسوف طه عبد الرحمن، والذي اتخذ له اسما هو “الفلسفة الائتمانية”، بدءا من كتابه القيم “العمل الديني وتجديد العقل” وانتهاء بآخر اصداراته قبل أسابيع “المفاهيم الأخلاقية بين الائتمانية والعَلمانية”، وأخص بالذكر كتابين أساسين هما: دين الحياء وثغور المرابطة، لما لهم من صلة بموضوع التطبيع والمشاركة السياسية.

اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *