وجهة نظر

عنف المتخيل وعبق التاريخ في رواية قصر الإلهام

شكلت رواية “قصر الإلهام” الصادرة حديثا عن مطابع الرباط نت في طبعتها الأولى 2014 للمؤلف محمد العربي الجباري مفاجأة الموسم في الأوساط الأدبية والروائية بالمغرب باعتبار أن مؤلفها –وهو الآتي من تخصص آخر غير الأدب- نشر له لأول مرة رواية، وبالتالي فإن اسمه غير متداول بشكل كبير في الأوساط الروائية.

إن الدخول إلى عالم الرواية هو انفتاح على عالم جديد، ولهذا فإن عالم الرواية يستقطب جمهورا هائلا من مختلف الشرائح لأن هؤلاء بالفعل يرغبون في قراءة ذواتهم من خلال قراءة الرواية التي تتحول في بعض الأحيان إلى رواية تفاصيل واقعية الحياة الشخصية.. وفي بعض الأحيان إلى مرآة ينظر فيها القارئ إلى ذاته بنقاء.. الرواية في نظري كالمرأة الجميلة التي تملك جاذبية إضافة إلى جمالها، الجميع يتمنى قراءتها، ولكنها لا تنجذب إلا لعاشق… وهنا محاولة عاشقة لمشاغبة الرواية في كينونتها ومدى موافقتها للشرط الروائي.

من هنا تأتي قراءتي لهذه الرواية “قصر الإلهام”، وهي قراءة لا أدعي أنها تستمد معطياتها من حقول معرفية أو مناهج نقدية، وإنما هي قراءة ذاتية انطباعية عاشقة، تستقي نسغها من الذوق وحب الجمال.

لقد صرفتني قراءة رواية محمد العربي الجباري عن التحليل والتعليل، وأشعرتني بأنني أجالس شخوصها، أضحك وأبكي وأفرح وأتألم معهم، وأشعرتني بأنني أمشي في شوارع مدينتها زقاقا زقاقا وحيا حيا، وحينما قرأت هذه الرواية لأول مرة تملكني شعور ملتبس، فمن جهة استمتعت بأجوائها وانسيابيتها وبردها الاعتبار للحكي، ومن جهة ثانية تولد لدي ما يشبه الاقتناع بأن هذا العمل الأدبي قد كتب منذ مدة أو كان من المفترض أن يكتب منذ مدة.

إن رواية قصر الإلهام مسكونة بهاجس التواصل والإيصال وتخترقها رغبة عميقة في البوح والاعتراف، وتوازي هذه الرغبة الأولى رغبة مماثلة موضوعها هو ضمان أن يصبح هذا البوح معمما وأن يصل إلى كل من يهمهم الأمر، لقد توغل الكاتب خلال 256 ص في حياة أسرة من الأسر المغربية النازحة من الأندلس، وأرخ لأحداث وتاريخ أعرق مدينة في المغرب وأقدمها، المدينة التي جمعت بين الأصالة المغربية والحضارة الأندلسية وسحر المشرق ونفحات أرض الحجاز. والمدن مثل البشر، تولد فتنمو وتكبر، وقد تتألق أو تخبو وتنطفئ، والمدن سجلات وذاكرات تحفظ تاريخ الأمم وجغرافيات العمران، وهذا ما تؤكده على الأقل بعض الكتابات القيمة التي أنجزت حول بعض المدن المغربية العريقة والتي كان لها الأثر البالغ في التاريخ والجغرافيا وفي الاجتماع والسياسة والآداب كتطوان وسبتة وشفشاون وطنجة وفاس ومراكش.. لكن مما يؤسف له أن تستثنى من هذا الاهتمام مدينة من المدن المغربية الشمالية العريقة ألا وهي مدينة القصر الكبير أو قصر كتامة أو قصر دنهاجة أو قصر عبد الكريم.

صحيح أن هناك كتابات كثيرة أرخت لهذه المدينة، لكنها كتابات لا تمس جوهرها وذاكرتها وحكمة أشيائها وفضائها. وبسبب هذا الحيف والفراغ الذي أصاب هذه المدينة انتفض واحد من أبنائها البررة وقرر كتابة رواية تتخذ من القصر الكبير مسرحا لأحداثها من خلال تتبع حياة أسرة من أسرها العريقة وهي أسرة سي الغالي، جامعا من المعلومات والحقائق والوقائع التاريخية التي تخص المدينة وما علق بصدره وذاكرته ومذاكراته منذ ستينيات القرن 19م عندما هاجر جدا والده لأمه من تطوان إلى مدينة القصر الكبير تحت ضغط الحرب المغربية الإسبانية 1859-1860م (حرب تطوان).

إن هذا العمل الإبداعي يروم التعمق في تاريخ مدينة لعبت أدوارا طلائعية في الحقب التاريخية للمغرب حيث كانت فاعلة ومنفعلة ومؤثرة ومتأثرة بكل مجريات الحياة السياسية والاجتماعية والعلمية والثقافية، ومحاولة الكاتب تقريب ذلك كله إلى القارئ العربي بصفة عامة والقارئ المغربي بالأخص وخصوصا الأجيال التي لم تعايش تلك الأحداث. يتعلق الأمر إذن برواية لروائي عشق مدينته وأسرته حتى النخاع، فكانت دوافعه متعددة منها المشاعر الإنسانية وحميمية الانتماء، كلها حفزت الكاتب على استحضار هذا الفضاء وعقد الصلة بينه وبين الرواية منذ بدايتها مرورا بمتوالياتها السردية وصولا إلى نهايتها.

إن الموضوعة الأساس التي حركت آليات الكتابة وإنتاج المعنى في هذه الرواية الرائعة تصب فيما يعرف نقديا بالرواية التاريخية التي يلتقي فيها السرد الروائي بالسرد التاريخي حيث يبدو فيها التاريخ الواقعي شفافا خلف لعبة السرد، ويبدو أن الكاتب محمد العربي حاول في عمله أن يقلص المسافة الفنية بين السرد التاريخي والتخييل السردي مع ما استتبع ذلك من مراعاة الصنعة الروائية ومتطلباتها.

وقد فرضت المادة التاريخية المختلفة والمتنوعة، الحرب الأهلية الإسبانية 1936، وفاة الملك محمد الخامس 1961، فيضانات القصر الكبير 1963، المحاولات الانقلابية 1971،1972، الإنزال الوهابي بالقصر الكبير، حدث المسيرة الخضراء 1975، وغيرها، فرضت هذه المادة على الكاتب أن يبحث عن شكل تخييلي يعطي للزمن التاريخي بعدا فنيا يبعده عن جفاف التاريخ الحدثي ويرتبط به في نفس الوقت بمسافة فنية يخلقها ذلك الصوغ الحكائي والسردي الذي يقول أو يحيل على ما يحيل عليه الحدث التاريخي، ولكن قد يتجاوزه ويغنيه ويسائله في نفس الوقت. صحيح أن الروائي قد اتخذ من التاريخ مادة له، ولكنه لم ينقل التاريخ بحرفيته بقدر ما أعطى رؤيته الخاصة للتعبير عن موقفه من المجتمع ومن الفترة متخذا من التاريخ ذريعة له.

هل يمكن اعتبار هذه الرواية سيرة غيرية؟ وحتى سيرة ذاتية؟ مع العلم أن المؤلف نفسه سماها في تمهيده بالسيرة الروائية (ص7). حتى وإن قلت ذلك فلن أكون سوى شرطي أو متلصص على الكاتب وأنا لا أرغب في أن أكون لا هذا ولا ذاك ولا أريد أن ألصق السارد مبارك والبطل سي الغالي الظرفي بشخصية الكاتب. وحتى وإن فعلت ذلك –وأنا العارف بخبايا وأسرار ما جرى والمرتبط بشخصيات الرواية من قريب أو بعيد- فما جدواه؟ إذن لأتجنب هذه النظرة الماكرة ولأبحث عما تعطيه ذات الكاتب في هندسة الرواية أو بالأحرى في الكيفية التي يستفيد فيها المؤلف مما علق بذاكرته عن شخصية أبيه وأمه وإخوانه وأخواته. ولعل الكتابة من هذا المنطلق الذاتي أعطت للغة الرواية انسيابها وتدفقها الشعري.

تتجه رواية “قصر الإلهام” في اتجاه رواية البطل الواحد هو سي الغالي الظرفي بدءا من ولادته مرورا بدراسته وأخذه العلم بمدينته وبجامع القرويين بفاس مرورا بتقلده لمناصب الفتيا والخطابة والعدالة وزواجه، وصولا إلى مرضه فوفاته. تقدم الرواية هذا البطل الواحد بكل جوانب حياته، بكل أعماقه، بكل الأحلام التي ارتعش بها وجوده، بكل إنجازاته “وبطولاته” العلمية والدينية.

“بدأ الموظف الجديد في سلك التدريس والعدالة والإمامة يحصل على أجر منتظم متعدد المصادر، كما يبدو بفضل علمه وقلمه، كما كان يحلو للسي الغالي أن يقول، فبدا مهندما بأجمل ما كان شائعا ارتداؤه كلباس آنئذ من الكس والسلهام من نوع البزيوي الرفيع والرزة وساعة صدرية التي لا تفارقه وهي من النوع السويسري الجيد تنسدل من بين ثنايا فرجياته أو منصورياته، ويضعها في جيب البدعية كانت تساعده على ضبط أوقاته في العمل أو الصلاة أو التدريس فكانت أنسه ودليله الزمني…”(ص114).

كان هم السارد مبارك أن يجعلنا نتعرف تماما على كل جوانب حياة البطل الذي يعتبر هو الشخصية المحورية التي تدور حولها الأحداث، فلهذا لم يقدم لنا السارد من جوانب حياة الشخصيات الأخرى كوالديه وإخوانه وزوجاته وأولاده وأصدقائه وزملائه… إلا بالقدر الذي تخدم به هذه الشخصيات البطل الرئيس وتساهم في تعميق معرفتنا به. وعبر هذا السرد المونولوجي المباشر انبثقت أحلام السارد في مشاهدها الرمزية ودلالاتها الواقعية والنفسية لتكسير نمطية السرد. وهكذا تشكل الحركة الداخلية لأسرة سي الغالي الإطار الذي تتحرك داخله الرواية ككل حيث تشكل حركة المجتمع داخلها وحيث يسهل رصد توازيات بينها وبين حركة المجتمع ككل.

يصف السارد هذا التلاحم بين ذات البطل وحركة المجتمع قائلا:

“لنعد بذاكرة سي الغالي إلى اللحظات الأولى التي أعلن فيها الاستقلال سنة 1956 وكيف بدأ المغرب ملكا وشعبا عندما انجلى ليل الاستعمار وانقشعت ظلماته وانتهت خطوبه التي قضت مضاجع المغاربة طيلة ما يربو على 44 سنة وهو يحكي لأبنائه وأحفاده معا في ثمانينيات القرن 20، كان بصدد وصف حالة من الحنين الغامض والممتع من ذكريات مغرب الاستقلال، فرح عارم ووطنية صادقة، وانطلاق جامع لبناء المغرب الجديد..” (ص152).

تحفل الرواية بالعديد من الإشارات التاريخية التي سلطت الضوء بكيفية موجزة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على بعض ميادين الحياة بمدينة القصر الكبير باعتبارها ثغرا من ثغور المقاومة للوجود الأجنبي في منطقة الشمال، وبوصفها موضع كثير من الرباطات والجوامع والزوايا التي تؤم للتعليم أو التحصيل. وتمس الجانب الطبيعي (الطقس الحار- الفيضانات..) والجانب الاقتصادي والتجاري خصوصا ما يتعلق بأهمية موقعها كنقطة مركزية على الطريق التجاري المحوري الرابط بين شمال البلاد وجنوبها ومحطة رئيسية للقوافل التجارية، والجانب العسكري حيث تجعل الرواية من موقع قصر الإلهام مركزا عسكريا استراتيجيا للقيام بالجهاد ضد النصارى بالشمال أو لمواجهة قبائل الجبل.

ورغم الأجواء التاريخية والاجتماعية والجوية القاتمة التي تهيمن على بعض مفاصل الرواية؛ الطلاق- الفيضانات- الأوبئة- الموت.. إلا أن هناك احتفاء بالإبداع وبالمبدعين وبالشعر والموسيقى والفن والرياضة، ففي المجال الأدبي برز الرعيل الأول من الأدباء مطلع الستينات من القرن الماضي مثل العالم سي عبد السلام الجباري وسي جعفر الناصري وسي المهدي الطود وسي محمد الخباز وسي محمد السفياني وسي أخريف في القصة وسي محمد الخمار الكنوني في الشعر والشاعر سي سعد الدين الطود وغيرهم.

– على سبيل الختم:

استطاعت رواية “قصر الإلهام”، بالرغم من قصرها النسبي أن تحقق بعض شروط الرواية التاريخية، باستثناء واقعية الأحداث التي تم تغليفها بالتخييل غير المبالغ فيه، فبقدر ما نحس فيها بمتعة القراءة والخيال بقدر ما تصطدمنا بواقع مغربي قريب.. ونجد الروائي وبذكاء جميل وظف معادلة جديدة في مجال الكتابة الروائية وهي المزج بين عنف الخيال وعبق التاريخ من خلال سرد هو أقرب إلى السيرة الروائية منه إلى الرواية.

والرواية في مجملها ناعمة ومألوفة يتسلل منها الفرح وبعض الألم وشيء من الوهم وكثير من التاريخ والحقيقة.

فهل آن الأوان للحديث عن مرحلة روائية جديدة بالمغرب هي امتداد وتطوير للمسار الروائي الحافل بجمالياته وتجاربه الجريئة؟

* دكتور وأديب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *