وجهة نظر

الرقاة والتطبيع: الجني اليهودي وحق الإقامة

يبدو ان التطبيع مع اسرائيل شكل صدمة متعددة الابعاد، تداعياتها ما زلت لم تتوقف بعد، وان الارتدادات التي انتجها قد حركت الكثير من البنيات الساكنة و المحصنة ضد اي تغيير.

من تداعيات الحدث/ التطبيع،ما يرتبط مهنة الرقية الشرعية او التداوي بالقران،من اجل معالجة المرضى و الذين يعيشون اضطرابات سلوكية والتي غالبا ما يتم تفسيرها على انها مس من الجن.

شعبية الرقاة و انتعاش تجارتهم يعكس انها منتوج وظيفي، يؤشر على خصوصية الواقع الاجتماعي الذي يحتضن هذه الظاهرة و ينميها، و غالبا ما ترتبط بأزمة اجتماعية بنيوية تتميز بالهشاشة الاجتماعية.

حجم الانتشار الواسع و الشهرة الكبيرة للرقاة يعكس حجم الازمة داخل المجتمع،والتي تعكس حجم الهشاشة الاجتماعية التي تمس مختلف ابعاد الحياة الاجتماعية و يمكن التوقف على ثلاثة نماذج بمثابة مؤشر على ازمة اجتماعية متعددة الابعاد : الصحة من خلال مثال مكي الصخيرات، الفقر من خلال واقعة جبل السرغينية و ازمة التعليم و الفشل المدرسي من خلال ما سمي بالاستاذ المعجزة.

فالازمة الصحية و حجم الخصاص و صعوبة الولوج الى الخدمات الصحية انتجت لنا ظاهرة “مكي الصخيرات” الشخص الذي تجاوزت شهرته كل الحدود، و أصبح يفكر في انشاء قناة تلفزية خاصة به.

كل الأخبار و الصور و الفيديوهات الموثقة لإنجازاته ربما اشبه بأساطير صعبة التصديق، يروج انصاره و بكل ثقة انه استطاع معالجة مرضى السرطان والعمى والعقم، و كل الأمراض العضوية و النفسية و النفس جسدية.

فالأزمة الخانقة في المجال الصحي و تعقدها و صعوبة وصول المواطنيين الى العلاج نتيجة ارتفاع كلفة العلاج وضعف الخدمات الصحية العمومية،او حتى استحالة العلاج نظرا لطبيعة المرض، كلها اسباب رفعت منسوب اللا -امل و فقدان الثقة في العلاج و العودة للحياة .

هؤلاء المرضى الذين فقدوا للامل في العلاج و المتشبثين باخر أمل للحياة، اوجد لهم المجتمع شخصا يمنحهم حقنة أمل،لذا تمسكوا به من اجل الحياة، والنتيجة ارتفاع عدد زوار المكي، و ضاع صيته ليس لانه يملك كرامات او انه شخص خارق يعالج ما عجز عنه الطب،لكن لان منسوب اللا-امل كان مرتفعا و ضحايا النظام الصحي بالمغرب كان في تزايد .

الامر يتكرر في حالة كنز جبل السرغينية باقليم بولمان فاختلاف مع قصة المكي هو اختلاف وقائع، و ليس اختلاف منطق، حيت سكان مدينة منسيون ، يعيشون الهشاشة و العوز، ربما محصورين بين الامس و اليوم بلا مستقبل ،سكان من شدة واقعهم و قسوته صدقوا خرافة شاب مشكوك في صحته العقلية انه رأى في منامه كنز بجبل السرغينية .

الخروج الجماعي و الكثيف يعني ان هؤلاء الناس تخلوا عن عقولهم لصالح اللامعقول، لكنه لامعقول وظيفي ومريح ، فأمام الازمات اليومية و تعقيداتها يهرب المواطن من الواقع، ومن المنطق و العقل و يفر الى اللامعقول كوسيلة لراحة و التنفيس.

ان واقعة جبل السرغينية لا تفسر بحكاية شاب حلم بكنز فصدقه الناس، وإنما لان الناس كانت لهم قابلية التصديق كآلية للهروب من واقع قاسي، لدرجة أن الناس تحملوا حرارة الشمس القاسية فقط هروبا من حرارة واقع مؤلم .

فالناس هو من صنعوا هدا الشاب لأنهم كانوا محتاجين لمن يخرجهم من واقعهم المؤلم و لو للحظات قليلة ؟؟

اما القصة الثالثة و المتعلقة بشاب أصبح يقدم انه شاب معجزة ، القصة تكشف نفس المنطق الذي تحكم في ميلاد المكي و ميلاد شاب جبل السرغينية انه منطق الأمل .

قصة المهدي المنيار تكشف حالة فشل منظمة التعليم على الأقل أولئك الذين اعتبروا المهدي مخلصا و منقذا ورجل معجزات ، كيف يعقل ان ينجح من حصل من فقد الامل في النجاح .

حين يغيب الأمل في العلاج و التعليم و الشغل و يصبح اللا-امل هو الواقع الوحيد للمواطن البسيط ،فانتظر قصصا أخرى أكثر شعبوية من المكي و المنيار و شاب جبل السرغينية.

الرقاة و المشعوذون و مكي الصخيرات و شاب جبل بولمان، و غيرها من الظواهر الاجتماعية تعكس ان المواطننين يدبرون حالات الخصاص و الحاجة وفق امكانياتهم تصوراتهم الخاصة ، فهم يبحثون عن حلول حتى لو بدت غير عقلانية للاخرين، فانهم تشكل لهم الاداة الوحيدة للنجاة و تجاوز الازمات المعقدة.

اللجوء المكتف الى الرقاة و الى طاردي الجن يكشف بنية اجتماعية لها خصوصياتها ، ان المواطن يدبر ازماته وفق امكانياته تمتلاثه الاجتماعية،اي ان عدم القدرة على الولوج الى الخدمات الصحية الملائمة بسبب كلفتها ،او صعوبة الوصول اليها لسبب من الاسباب، فانه يلجأ الى خدمات من انتاجه و من انتاج بنيته الثقافية و ارصدة رساميله، حيت لا يجد امامه غير باب مفتوح و باقل تكلفة انه باب الرقاة الذين يملكون كل الحلول مهما تعقدت مشاكل الزبائن، و هنا يكمن سر نجاح التجارة اي تقديم جرعة الامل في العلاج و باقل تكلفة ممكنة.

الرقاة يمارسون المهنة باحترافية كبيرة، وهو ما يعني استحالة الشك في ما يقومون به، و ما يطالبون به من خلال الاستثمار في البنية الذهنية و الثقافية و القيمية للمرضى و اصحاب الحاجة، فهم يقدمون وصفات علاجية و اسباب المشكل او المرض، من داخل القناعات و التمتلاث المحمولة لدى المرضى و ربطها بالجانب العقدي و الديني، وهو ما يضفي على مهمتهم طابع من القداسة و عدم التشكيك، مما يجعل المريض و الزبون تحت السلطة الرمزية للراقي من خلال توظيف المقدس ، لذا يسجل ان خطابهم يتشابه لا سيما فيما يتعلق بإرجاع المرض و المس الى جني يهودي كافر و حاقد.

تعقيدات العلاج تزداد حين يكشف الراقي للمريض ان الجن غير مسلم ،و انه جني يهودي عنيد و ماكر و مخادع يشبه اليهود كما تحفظه مخيلة الزبون من صور ذهنية حول شخصية اليهودي، ان الرقاة يعملون بمنطق المماثلة اي اطفاء نفس صفات اليهودي على الجني اليهودي من اجل الرفع من فعالية تصوراتهم .

الامر يوحي للزبون بصعوبة مهمة العلاج،و التي قد تستغرق مدة زمنية طويلة و جهد كبيرا مما يستوجب و تكلفة مالية مرتفعة، فتكلفة تحرير الجسد تختلف باختلاف جنسية الجني ،ان كان الجني مسلما فعملية تحرير الجسد تكون سهلة، غالبا ما تتم في جلسة علاجية واحدة، اما ان كان يهوديا فالعملية معقدة و شاقة. لان الجني لا يعترف بسلطة القران و تربطه علاقة كره بالمواطن و الانسان العربي .

علاج المريض مرتبط بقابليته لتصديق كلام الراقي، وهنا يكمن سر النجاح ان المريض يكون مهيئا لتقبل صعوبة العلاج مادام الجني يهوديا ، واليهود اعداء الله و اعداء رسل الله و اعداء المسلمين.و حتى اثناء المفاوضات معه، فهي شاقة و معقدة شبيهة بالمفاوضات التي يجريها الساسة اليهود ، حيت يصر الجني على الخروج المؤقت و العودة بعد ذلك ،وهو تكتيك يعتمده الراقي لضمان اطول مدة من العلاج و بالتالي الرافع من منسوب الاستفادة المادية.

اغلب الرقاة يعتبرون ان الجني اليهودي ” ميمون” لا يقبل الخروج من الجسد و الاستسلام،و يملك شراسة في البقاء مما يزيد من معاناة المريض.

من التحولات المرتبطة بالتحولات التي عرفتها تفافة الرقية و التداوي بالقران،هو ان الراقي اصبح يضع فاتورة لنوع الخدمات،وحيت يتحدد الثمن بحسب الحالة و تعقيداتها، ولعل اكثرها خطورة وجود جني يهودي بجسد المريض. وهو ما يفرض عقد محاكمة للجن، وهنا يفهم قيمة شمهروش باعتباره قاضي في محكمة الجن.

بالعودة الى واقعة التطبيع مع اسرائيل، و التي سيتضرر منها الرقاة بسبب نسف مشروعية الرقية و طرد الجن اليهودي من جسد المسلم، وهو ما يقود الى تلاشي شرعية السند الذي يجعل الرقية فعلا مقبولا اجتماعيا و نفسيا، ففعالية العلاج كانت تسند الى قيمة و صلابة التصورات الجمعية المحمولة حول خطورة الجن اليهودي و تأثيره على سلوك المريض و على حياته، و تمتل هذه التصورات كمعطى يقيني غير قابل للمناقشة و التعديل و هي تصورات مرتبطة بسياق و طبيعة الخطاب السياسي و الاجتماعي الذي كان يضع اليهود في دائرة الشر المطلق.

التصالح مع الانسان اليهودي و منحه تأشيرة الدخول الى المغرب، و التعامل مع المغاربة يفقد الرقاة سند تجارتهم و يجعل تصوراتهم حول الجني اليهودي بلا سند و بلا قيمة , من خلال استحضار منطق المماثلة الذين كانوا يوظفونه في بناء اوجه التشابه بين الانسان و الجني اليهوديين.

الرقاة كانوا يتصوفون بمنطق برغماتي و بذكاء اجتماعي واضح، من خلال توظيف التمتلات الاجتماعية كسند لانعاش تجارتهم و تسويق فاعليتها.

الاستثمار النفعي و الفعال لتمتلات المرضى لاسيما تلك المرتبطة بالصور الذهنية حول اليهود سواء الانسان او الجن اليهودي، او كما يصعب طرد اليهود من فلسطين فان نفس الصعوبة تتحقق في محاولة طرد الجني اليهودي من جسد المريض المسلم، وهو ما يجعل من العملية معقدة و بالتالي تحتاج الى مقابل مالي مرتفع .

هذه الرؤية التي يعمل بها الرقاة من خلال توظيف التمثلات الاجتماعية حول اليهود، و علاقتهم بالمسلمين تتقاطع مع دراسة سبق ان انجزها الأنثروبولوجي فوستر في دراسته لأدوار السحر و العرافين ،في التشخيص الطبي الشعبي في تفسير المحن في مجتمع. حيت يصبح التحكم في الجن الاداة الفعالة لإيجاد الحلول لكافة المشاكل الاجتماعية سواء العمل – العقم – الزواج – الانتقام – النجاح – التجارة.

بهذا يصبح النجاح في العمل مرتبط بوجود علاقة ايجابية مع الجن،ذلك ان كل فشل او عجز يفسر بسبب جني يهودي حاقد، لا يريد الخير او انه مرسول من طرف شخص يقاسم المريض خصومة قاسية.

وفق نظرية جورج فوستر «الخير المحدود» فان النجاح او الفشل داخل مجتمعات مغلقة يفسر تبعا لامتلاك حظ جيد و علاقة ايجابية مع احد الجن، فالثروات بهذا المجتمع تكون محدودة و محصورة، و بالتالي فان نحاج شخص او فشل شخص اخر يتم تفسيره بوجود قوة سحرية كانت مع الاول و كانت ضد الثاني.

في هذا السياق يفهم الغنى و تحقيق الثروة ليس بسبب امتلاك كفاءة داخلية،وانما بالقدرة على التحكم في الجن و تسخيره لاستخراج المدفونات مثلا او لجلب الحظ او حتى لدفع الضرر.

فعل التطبيع سيغير التصورات التي قوت الاعتقادات في خطورة الجن اليهودي الذي كان خطيرا و شريرا و لا يقبل المساومة، او الحلول الوسطى مثله مثل الانسان اليهودي الذي يقتل الاطفال و يحتل القدس.

التطبيع بلا شك سيغير الكثير من التصورات، من بينها تلك المؤسسة على خطورة الجني الاسرائيلي و اليهودي،وان مفاعيل التطبيع تعني بالضرورة التخلي عن النظرة القديمة و التي صنفت اليهود في دائرة الشر المطلق , ما يجعل ائمة المساجد التوقف عن الدعاء على اليهود بتخريب منازلهم و قتل اطفالهم و ترميل نسائهم . اليهود لم يعدوا اعداء ، بالتالي ووفق منطق المماثلة فان الجن اليهودي اصبح صديقا، وهو سبب كافي لبناء علاقة ايجابية معه، مما يمنحه فرصة الاستراحة او البقاء المؤقت او الطويل باجساد المرضى.

يبدو ان الرقاة و طاردي الجن غير سعداء بهذه التحولات , لان تجارتهم مؤسسة على الاستثمار في تقافة الصراع و العداء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *