وجهة نظر

عجائبية السرد في رواية “حبس قارة”

رواية “حبس قارة” هي العمل الخامس الذي ينضم للمتن الروائي للأكاديمي والكاتب سعيد بنسعيد العلوي بعد رواية “مسك الليل” و”الخديعة” و”ثورة المريدين” و”سبع ليال وثمانية أيام”، ولإن كانت رواية حبس قارة تشبه سابقاتها من حيث تواجد “أنا” الراوي وحضورها القوي، فإن هذه الرواية تتميز بكونها تجمع بين السيرة الذاتية وسيرة شخوص آخرين ضمن أحداث ومدارات فجائية تنسج منها الخيوط الدرامية للعمل الذي يراوح فيه الحكي بين “”أنا” الراوي (عبد الجبار) و”أنا” الشخصية الرئيسة: الرسام أوجين دولاكروا، وعلى هذا النحو يتنقل الراوي في سرده للأحداث عبر الأزمنة والفضاءات والشخوص.

يمتد زمن الرواية عبر إحداثيين: الإحداثي (س) يعود من الحاضر إلى الماضي، والإحداثي (ص) يمضي من الحاضر إلى المستقبل. بموازاة ذلك هناك الحضور الكثيف للزمن الدوري (زمن الأثقال) الذي تمثله مدينة وليلي أو “قصر فرعون” كما يسميها السكان المحليون، وكذا حبس قارة “سجن العفاريت العُصاة”. وهناك الزمن المتوسط الذي تدور فيه الأحداث الماضية أو المسترجعة، ثم الزمن القصير وهو يمثل الأحداث بآنيتها اليومية السريعة والمتلاحقة، وإن كانت “أياماً يكون منها في زمن قصير جداً ما ليس يحدث في المعتاد في مدد طويلة….” بينما يستحضر الحكي الذي يرواح بين هذا وذاك، عبر تقنية الاسترجاع flash back سيراً وأحداثا شتى منها غرائب الواقع و عجائب المتخيل.

أما بالنسبة للفضاءات التي تسكنها الرواية فهي مدن طنجة ومكناس وزرهون(الملاحظ أن هذه الأخيرة حاضرة في روايات أخرى؛ أهو الحنين إلى مهد الطفولة ومرتع الصبى؟ أم هو “العود الأبدي” بمفهوم نيتشه؟). ومن فضاء لآخر “أبواب تفتح خلفها أبواب أخرى، ونور باطن يشع خلف كل باب، يزداد التماعاً كلما أشرعت أبواب أخرى”.

تحفل الرواية كذلك بعجائبية الشخوص التي يصورها الكاتب وكأنها خارجة لتوها من حلم أو من إحدى الملاحم الإغريقية، تاركاً القارئ يقرأ نفسيتها ودواخلها، فإلى جانب شخصية السلطان المولى إسماعيل الذي “كان يسجن من عصى الأمر من العفاريت السليمانية فلا يخرجون إلاّ بأمره»، سنتعرف على أوجين دولاكروا الذي يكتشف هذه العوالم بدهشة خصبة، خلاقة، وكأنه في حلم يأبي أن يصحو منه، والخال سيدي بوبكر الذي تنتابه “الجذبة” فينطق عن الهوى ويهدي كأن به مساً من جنون، وشخصية المدد الحاضر الغائب مثل تمثال شامخ في جلبابه الصوفي، وغوردن سميث، هذا الإنجليزي الغامض الذي جاء يستطلع الأمكنة في آثار وليلي ومحيطها تمهيدا لإنتاج فيلم سينمائي، والاشتباه في علاقته بسرقة تمثال باخوس، والكوخو الشيطان، حارس “حبس قارة” الماسك بعلبة الأسرار، فارس الميدان في اختراق أحشاء المدينة، السجان الذي يتحول إلى سجين في لحظة تعطش لجرعة “ماحيا”، بالإضافة لبروفيلات وشخوص آخرين.

رواية صيغت بعناية وخُصت بقدر من الإتقان والحرفية، كونها حافلة بأنماط من السرد ومقامات الخطاب يتآلف فيها الواقعي بالأسطوري والمألوف بالعجائبي. أما صيغة الحكي فقد تدبرها الكاتب بتصريف الأحداث والوقائع وكأنه يكتب سيناريو لفيلم، أو كأنه يقوم بتوضيب شريط سينمائي متعهداً أياه بالتركيب والتقطيع والتقديم والتأخير مع ما يستدعيه ذلك من تخييل سردي يشد إليه انتباه القارئ ويغمر مخياله، ليزداد شغفاً بفنية العمل الروائي.

ينبغي أن نشيد كذلك باللغة المنتقاة التي صيغت بها الرواية، والتنويه بما حفلت به من شاعرية وأسطرة وعجائبية تناسب العوالم الفنتازية الساحرة التي عمل الكاتب على إبداعها من خلال لوحات وصفية لتأثيث عمله، وكأن يديه لمست ريشة دولاكروا وألوانه؛ فقد دأب على كسر الحواجز بين الأنواع الأدبية واختار التعدد الأسلوبي الذي يجعل السرد ينحو منحى “التهجين”، إذ يتنقل بين مدارات كتابية متنوعة، مما يجعلنا نقف على الحكي التاريخي كبؤرة مهيمنة مجاوراً للمذكرات(السيرة الذاتية) ولنبذة من قصص اللغز ( حكاية اختفاء تمثال باخوس من وليلي)، ولعل هذا ما يزيد الرواية تشويقاً وخصوصية بالإضافة إلى الجمالية الشعرية والرشاقة الأسلوبية اللتين تشكلان عنصري فرادة الرواية وتميزها.

في خلفية هذا العالم الاحتفالي البهيج لوحتان متناظرتان لأوجين دولاكروا الأولى للسلطان عبد الرحمن بن هشام في أبهى حلته وكامل عدته وحاشيته وهو يمتطي صهوة جواده ليستقبل في محفل مهيب، مبعوث فرنسا الكونت مورناي ورفاقه بمكناس. والثانية هي لوحة لفتاة تتقدم الجموع، شقراء جميلة ذات عينين ساحرتين، إنها “الحرية تقود الشعب”. وكل لوحة من اللوحتين تمثل تاريخا قائم الذات…
وصدى صوت آت من بعيد، إنه عبد الحميد (تلويحة لتكريم صديق الدراسة في الكلية ورفيق العمل في التدريس الفنان الراحل عبد الحميد المودن) يقول وكأنه يقرأ الغيب، أو كأنه ينظر للبعيد، فيراه حاضرا ماثلاً للأعين : “أرى يا عبد الجبار أن دولاكروا- أحببت أم كرهت- هو قدرك الذي لا تملك أن تفلت منه.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *