منتدى العمق

“كواترو مورو” أو العبيد المغاربة.. شاهد على وحشية الحضارة

لطالما لعب البحر الأبيض المتوسط، دوراً حاسما في تماس شعوب أوروبا وشعوب شمال إفريقيا. فلقد كان فضاء حراً، مستقلا غير تابع لأي قوة معينة، وهذا ما مكنه من ربط جسور التواصل بين الحضارتين الأوروبية والشمال إفريقية، لكن هذا الدور الإيجابي سرعان ما انقلب إلى دور سلبي; حيث تحول إلى حاجز طبيعي ضخم يفصل الحضارتين ويرجع ذلك لأسباب تاريخية عدة، أهمها القرصنة البحرية التي ازدهرت بعد سقوط الأندلس وطرد الموريسكيين. هذه الأخيرة تصنف ضمن ما أطلق عليه الكاتب الكبير فيرديناند بروديل “بالحروب الصغيرة” والتي لم تكن حسب عبد المجيد قدوري سوى استمرار لروح الحروب الصليبية لكن هذه المرة في غرب المتوسط.

فأغلب المصادر التاريخية الغربية حاولت ربط القرصنة البحرية بمسلمي شمال إفريقيا و تبرئة ألأوروبيين منها (برنارد لويس، روبرت دافيس،هنتكتون…) بحيث يظهر الأوروبي كالضحية، بينما يظهر المسلم كالجلاد. لكن الوثائق التاريخية والشواهد الميدانية تفند هذا الطرح و لا أدل على ذلك من تمثال “كواترو مورروا” (المغاربة ألأربعة) بمدينة ليڤورنوا الإيطالية الذي يقف كشاهد على حقبة زمنية كان فيها المسلمين أهداف سهلة و مميزة للأوروبيين بصفة عامة، و للطليان بصفة خاصة.

فأول ما يشد انتباه زائري هذه المدينة هو ذاك النصب التذكاري الشامخ قرب الميناء(أنظر الصورة أعلاه) والذي يمثل حسب الدارسين أقدم و أشهر معلمة تاريخية على الإطلاق بالمدينة. ويدكر أن النصب شيد على مرحلتين بأمر من حاكم المدينة “فيرديناندو ميديتشي” تخليداً لروح والده فيرديناندو الاول الملقب ب “كراندوكا” (الحاكم الكبير) و ذلك لمساهمته الفعالة إلى جانب مجموعة فرسان القديس “ستيفانو” في أسر الآلاف من المغاربة خلال القرن السادس عشر.

ففي سنة 1595 طلب الابن “فيرديناندو ميديتشي” من النحات الشهير “جيوفاني برانديني” نحت تمثال لوالده وهو مرتد لزي فرسان سانتو ستيفانو، وهذا ما تم فعلاً بمدينة “كرارا” حيث نحت له تمثال على الرخام الأبيض، و نقل بعدها إلى مدينة ليفورنو سنة 1601. بعد هدا سيأتي دور النحات “پيترو تاكا” الذي أوكل إليه نحت الجزء الأهم، ألا وهو تماثيل الأسرى المسلمين الأربعة. باشر پيترو عمله سنة 1623 و أتمه سنة 1626، ومن أجل إنجاز هذا العمل استعان بأسيرين مغربيين، حيث أوقفهما بشكل مصطنع لأشهر عدة ومقابل هذا نالا حريتهما.

لكن ما يثير انتباه المتتبع لهذا الشأن هو كيفية وضع التماثيل، فتمثال كراندوكا وضع على نصب مرتفع بينما وضعت تماثيل الأسرى الأربعة أسفل منه و هم مشدودين بسلاسل ضخمة ملتوية، اثنان منهم عاريان تماما والأخرين وضعت خرق على خواصرهم. وبالنظر إلى وجوههم يتبين أن النحات أمعن في رسم جهامة على محياهم، ما يعكس ظروف الأسر القاسية و ربما محاولة منه لإدلالهم وفي ذلك إدلال رمزي لانتمائهم الحضاري.

بعيداً عن التقييم الفني لعمل جيوفاني و پيترو، يبقى السبب الذي حفز فيرديناندو الابن لطلب بناء هذا الصرح أكثر أهمية من الصرح نفسه. فغايته العليا كانت هي تخليد دكري والده والاحتفال بنصر فرسان توسكانا على المسلمين في عرض المتوسط. لكن البعد الرمزي للتمثال أكبر من هذا الاحتفاء البسيط، فهو ينم عن رغبة نفسية دفينة خامدة في اللاشعور الأوروبي تريد إظهار المسلم كخصم ضعيف قابل لأن يطوع و يستخدم. وبالتركيز على السياق التاريخي المصاحب لبناء هذا الصرح يتضح أن الأخر الأوروبي فشل فشلا ذريعا في كسر شوكة المسلمين في حوض المتوسط، خاصة بوجود العثمانيين و قراصنة الإيالات الثلاث إضافة إلى قراصنة سلا. و بالتالي فهذا العمل يحاول رسم انتصار تفوق حضاري لم يكتب له أن يكون في أرض الواقع فخُلِدَ في الخيال و في الأعمال الأدبية.

ـــــــــــ

طالب دكتوراه باحث.