وجهة نظر

علاقة الحركة الأمازيغية بإسرائيل: أبعاد ودلالات

تكتسي العلاقات الخارجية للحركات السياسية أهمية خاصة. فمن حيث أطرافها تنبئ هذه العلاقات عن جزء من الأهداف والرهانات السياسية لهذه الحركات، ومن حيث طبيعتها تحيل على خياراتها واستراتيجياتها. من هنا، يغدو استجلاء الدلالات السياسية والأبعاد والتأثيرات الثقافية لعلاقات مكونات من الحركة الأمازيغية المغربية مع بعض الأطراف الدولية حاجة ملحة. وإذا كان جزء من هذه الأهمية ينبع مما أشرنا إليه فإن توسع وامتداد هذه العلاقات إلى كيانات دولية معادية في سياق جيوسياسي تتنازع فيه الأمة مصالح دولية يجعل من رصد دلالاتها وتحليل أبعادها ضرورة فكرية ومن تحديد موقف واضح منها مسؤولية أخلاقية وسياسية ملحة.

واعتبارا للتعقيد الذي يسم هذه العلاقات، وصعوبة الإحاطة بتفاصيلها في مقال واحد، سوف نركز على استجلاء الدلالات السياسية والتأثيرات والأبعاد الثقافية للعلاقات المتزايدة في صفوف نشطاء الحركة الأمازيغية مع كيان الاحتلال الصهيوني، على أن نعود في مناسبة أخرى لباقي العلاقات.

توضيحات لا بد منها:

قبل الغوص في موضوع هذا المقال، نود توضيح ثلاثة أمور ذوي صلة لغايات منهجية. فمن جهة، سوف يتيح لنا هذا التوضيح ابراز الإطار المرجعي الذي يؤطر قراءتنا للارتباطات الخارجية للحركات السياسية الوطنية وضمنها الحركة الأمازيغية؛ ومن جهة ثانية، سوف يتيح لنا ذلك تمييز الحركة الأمازيغية عن القضية الأمازيغية.

يتعلق الأمر الأول بتمييز القضية الأمازيغية عن الحركة الأمازيغية؛ فالقضية الأمازيغية في المغرب وشمال إفريقيا، هي في جوهرها قضية سياسية تتعلق بالتعاطي السياسي مع الحقوق الثقافية والسياسية لفئة عريضة من الناطقين بالأمازيغية في المغرب وشمال افريقيا. وإذا كنا موقنين بالثقل العددي للأمازيغ في هذه البلدان فإن معيار المظلومية لا ينطبق على عدد منهم الذين باتوا يشكلون جزءا من البنية الدولتية، أي جزءا من صناع الظلم الاجتماعي. وانطلاقا من هذا، فالحركة الأمازيغية هي حركة سياسية تروم تقديم إجابات سياسية ونضالية للمظلومية التي تعرضت لها -ولا تزال- هذه الفئات من شعوب هذه البلدان على المستويين السياسي والثقافي؛ وهي في مسعاها ذلك تتوسل “القومية الأمازيغية” إطارا إيديولوجيا والمظلومية خطابا سياسيا. وما يستوقفنا في هذه الحركة أننا لا نكاد نجد لديها اهتماما ذا بال بالحقوق الاقتصادية إلا لماما. ولعل في هذا إشارات تفسر علاقاتها الخارجية.

الأمر الثاني يتعلق بالتمييز بين الثقافة الأمازيغية من جهة، والحركة الأمازيغية من جهة ثانية. فالثقافة الأمازيغية باعتبارها منظومة من القيم المترابطة الفاعلة التي أثرت ولا تزال تؤثر في تصورات وأحكام وتصرفات مجتمعات شمال افريقيا الناطقة باللسان الأمازيغي هي -في حالة المغرب- إحدى مكونات الهوية المغربية التي أنتجت عبر قرون من التفاعل بين الأمازيغ والعرب حضارة متميزة روحها الإسلام وعمادها التعايش. أما الحركة الأمازيغية فهي مثل باقي الحركات السياسية لا تعدو أن تكون تعبيرا سياسيا -من بين تعبيرات أخرى- نشأ في سياق سياسي، ووفق أطر أيديولوجية، وضمن مصالح سياسية وليست بالضرورة محل إجماع من عموم الأمازيغ ؛ ومن ثم فإن مشروعية وجودها وشرعية سلوكها السياسي مرتبطتان بمدى انسجامها مع الإطار الحضاري للأمة كما أن تقييم أدائها يبقى حقا أصيلا -بل واجبا سياسيا- لكل المغاربة.

أما الأمر الثالث الذي نريد توضيحه بين يدي مناقشتنا فيتعلق بالتمييز بين حق الحركات في الاتصال وربط العلاقات مع الأطراف الدولية بشكل معلن، وهو حق لا غبار على شرعيته من الناحية المبدئية من جهة، والآثار السياسية لهذه العلاقات باعتبارها جزءا من المسؤولية السياسية التي تتجاوز مسألة الحق لتستدعي الاعتبارات والمصالح السياسية وأحيانا الحسابات الجيوستراتيجية. وإذا كان من حق مكونات الحركة الأمازيغية أن تتواصل مع الأطراف الدولية وأن تربط معها علاقات علنية فإن من واجبها أن تلتزم في ممارستها لحقها ذاك بالمصالح الاستراتيجية للأمة. وفي كل الأحوال يبقى من حق المواطن المغربي وكذا الفاعلين السياسيين أن يسائلوا هذه العلاقات من حيث طبيعتها وتأثيراتها.

في الدلالات السياسية للعلاقات الأمازيغية الصهيونية.

عرفت علاقات نشطاء من الحركة الأمازيغية بكيان الاحتلال الصهيوني خلال السنوات الأخيرة تناميا خطيرا. وإذا كانت هذه العلاقات تندرج -بالنسبة للصهاينة- ضمن سياسة التطبيع الرامية لتصفية القضية الفلسطينية، فإنها تبقى -من هذه الناحية- مدخلا من بين مداخل أخرى يوظفها هذا الكيان في ترسيخ وجوده وفي تأكيد هيمنته السياسية والاقتصادية في المنطقة. فأية دلالات لتحول علاقات النشطاء الأمازيغ بالاحتلال الصهيوني من السرية إلى الإعلان الصريح؟

لا نهدف من خلال هذه السطور لإبراز تفاصيل العلاقات الصهيونية الأمازيغية؛ فقد باتت أمرا مكشوفا ومعروفا لدى الجميع وشجعها التطبيع الرسمي على المجاهرة. وعليه فإننا نكتفي بالإشارة إلى الزيارات المتتالية لعدد من الرموز السياسية والفنية المحسوبة على الحركة الأمازيغية إلى دولة الاحتلال ومشاركتها في الأنشطة السياسية والثقافية، وما تكشف عن هذه الزيارات من مخططات تنسيق ثقافي وسياسي، وما انكشف من معسكرات تدريب وتثقيف وتصريحات للنشطاء الذين تولوا تحمل وزر هذه العلاقات لنؤكد على أربع رسائل سياسية تبعث بها هذه العلاقات.

على مستوى الأهداف السياسية تشير مجاهرة رموز من الحركة الأمازيغية بتوطيد علاقاتهم مع الكيان الصهيوني إلى الإعلان الصريح عن الانخراط الواعي في المشروع الصهيو-أمريكي. وتأسيسا على ذلك، إذا كانت إسرائيل تروم من علاقاتها بالنشطاء الأمازيغ تعزيز مكانتها السياسية في منطقة “الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” عبر توسيع شبكة “أصدقائها” ضمن أنساقها السياسية كأدرع استراتيجية، فإن استدعاء الخطاب السياسي لأصدقاء إسرائيل في المغرب للتشابه المزعوم بين المظلومية السياسية الأمازيغية في المغرب و”المعاناة اليهودية”، وتأكيدهم تبعا لذلك على الطابع الاستراتيجي للعلاقة مع إسرائيل في تحرير “بلاد تمازغا” مما يسمونه “الهيمنة العربية الإسلامية” له دلالتين سياسيتين: أولا، يعتبر ذلك إعلانا صريحا عن تحرر هؤلاء وتنصلهم من الإطار الحضاري للأمة. وإذا كان هذا الإعلان يظهر رهانات إسرائيل ومدى تقدم أجندتها على هذا المستوى، فإنه يؤكد تخلي أطياف من الحركة الأمازيغية عن تبني القضايا المركزية للأمة؛ وهكذا سيكون تنامي العلاقات الأمازيغية الصهيونية أداة داخلية بيد إسرائيل لإضعاف مركزية فلسطين في الوجدان السياسي المغربي.

ثانيا، يشير التنصل العلني من الالتزام بالقضايا المركزية للأمة في مواجهة الكيان الصهيوني وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والاستعاضة عن ذلك باستدعاء “المعاناة اليهودية” من أجل تأكيد الطابع التحرري للمسألة الأمازيغية إلى سعي حثيث للانتقال بالحركة الأمازيغية من حركة سياسية حقوقية هدفها الدفاع عن الحقوق السياسية والثقافية الأمازيغية إلى حركة “تحرر قومي” مطلبها استعادة الحق في الأرض وإعادة بناء الهوية الشعبية والدولتية على أساس قومي إثني. ولعل تزايد انخراط نشطاء الحركة الأمازيغية خاصة أصدقاء إسرائيل منهم في الأنشطة المتنامية لما يسمى الشعوب الأصلية مؤشر على هذا التحول. فهل سنشهد قريبا تحولا للحركة إلى حركة قومية إقصائية؟

على مستوى الخيارات والاستراتيجية السياسية، تبعث العلاقات الأمازيغية الصهيونية برسالتين اثنتين أيضا. فمن جهة الكيان الإسرائيلي يشير ذلك إلى أن هذه الدولة السرطانية لا تكتفي في التمكين لمشروعها بالعمل على تعزيز علاقاتها الدبلوماسية مع الأنظمة الحاكمة في المنطقة وإنما تزاوج ذلك بتوظيف القضايا السياسية الوطنية لا سيما المظلومية السياسية وكذا الثقافية للأمازيغ في استراتيجية ماكرة. ولعل تمركز نشاط أصدقاء اسرائيل في المغرب العميق على حد تعبير بول باسكون خير دليل على هذا الرهان. وارتباطا بهذه الرسالة نرى لزاما استدعاء خطورة التأثيرات المستقبلية والحتمية لهذه الاستراتيجية على الوئام الاجتماعي وعلى الوحدة السياسية للوطن. ولا نكون مبالغين إذ ننبه إلى خطورة هكذا خيارات على الوحدة الوطنية في ظل تنامي التجارب المماثلة لا سيما إذا استحضرنا نتائج هذه الاستراتيجية الصهيونية كما مورست في تجربة جنوب السودان وكما تجري ممارستها في كردستان العراق وفي جنوب شرق تركيا أيضا.

علاوة على ما أشرنا إليه من القبول الواعي بالدور الوظيفي في الاستراتيجية الصهيو-أمريكية، وبالنظر لطبيعة المشروع الصهيوني وقوته في مقابل موقع الاستقواء والتلقي الذي ينطلق منه هؤلاء، تشير طبيعة العلاقات الاسرائيلية الأمازيغية إلى أن انخراط النشطاء الأمازيغيين بالمشروع الصهيو-أمريكي يستبطن سعيا منهم لاستثمار الارتباطات الدولية لكيان الاحتلال في تعزيز مواقعهم السياسية ضمن النسق السياسي الوطني كاستراتيجية سياسية قوامها الاستقواء بالخارج. وما التهافت على استعادة الروابط الأمازيغية اليهودية المزعومة و”تثمين التعايش الأمازيغي اليهودي” في المغرب إلا غطاء ثقافي لهذه الرسالة. فما هي الأبعاد الثقافية لهذه العلاقات؟ وما تأثيراتها المستقبلية؟

*1  – إبراهيم بايزو: في المسألة الأمازيغية بالمغرب… وجهة نظر؛ على الرابط: https://al3omk.com/382648.html

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *