وجهة نظر

حول ضرورة تقنين منصات التواصل الاجتماعي من أجل حماية أمن الدولة

لاشيء أدل على مدى قوة وخطورة التأثير الذي بلغته منصات التواصل الاجتماعي من الدور المحوري الذي أصبحت تلعبه في الاستحقاقات الرئاسية لأقوى دولة في العالم “الولايات المتحدة الأمريكية”.

لعل أهم ما طبع الانتخابات الرئاسية الأمريكية لسنة 2016 هو اتهام الديموقراطيين للمخابرات الروسية بالمساهمة في فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب على منافسته هيلاري كلينتون عبر استعمال الآلاف من الحسابات المزورة التي أنشأتها على منصة تويتر وعبر سيل من الأخبار الكاذبة المسربة بعناية عبر مواقع التواصل للتأثير على الناخبين.

أربع سنوات بعد ذلك تواصلت الاتهامات ضد دور منصات التواصل في التأثير على نتائج الانتخابات ولكن “المستفيد” السابق دونالد ترامب أصبح هو “الضحية” وأصبح هو المشتكي، كما أن المتهم الأساسي بالتدخل لم يعد هو روسيا بل أصبح هو إدارة المنصات نفسها بشكل مباشر حيث بلغ حجم المواجهة بينها وبين الرئيس المرشح إلى حد أنها كانت تقوم بشكل دوري بحظر بعض تدويناته وتغريداته أو التحذير منها على أساس أنها تحمل أخبارا زائفة، بل تطور الأمر في الأخير إلى قيام منصات التواصل الاجتماعي الكبرى (تويتر وفيسبوك ويوتوب وانستغرام) بحظر حسابات ترامب لفترات متفاوتة الطول بلغت حد الحظر الدائم بالنسبة لتويتر معتمدة فقط على قوانينها الخاصة وبدون أي غطاء قضائي أو إداري لخطوة بهذا الحجم وبهذا التأثير على السياسة الداخلية لأعظم دولة في العالم.

قمة السوريالية تأتي عند قراءة تعليق الرئيس المدير العام لتويتر السيد جاك دورساي على قرار شركته بالحظر الدائم على حسابات ترامب، إذ اعتبر قرار شركته سابقة خطيرة بسبب ما اعتبره السلطة التي أصبحت بيد فرد واحد او شركة واحدة على قطاع كبير من الجمهور.

ما وقع يظهر كيف أنه يمكن لدولة أجنبية أو لبضع شركات أو رؤساء شركات أن يتدخلوا بشكل مؤثر في اختيار رئيس دولة فقط عبر استعمال منصات التواصل الاجتماعي، مما يعني أنه لم تعد هناك أي دولة بمنأى عن مخاطر التلاعب بأمنها القومي من خلال هذه الوسائط.

وقد فتح نقاش عبر العالم تجاوز الحدود الأمريكية، إذ أعرب سياسيون ومفكرون أوربيون من دول مختلفة عن تخوفهم من تغول الشركات الكبرى التي تدير هذه المنصات ومن إمكانية أن تتحول إلى لاعب مباشر في السياسات الداخلية لهذه الدول عبر تحكمها في المعلومة وعبر إمكانياتها الضخمة في تقييد حرية التعبير المقدسة دستوريا.

المفارقة الكبرى هي أن نفس هذه الدول التي أصبحت تشتكي من تفلت منصات التواصل الاجتماعي بعد أن أصبحت تعاني منه كانت هي نفسها حامية لها بل وكانت تستعملها كأداة في حروبها “الناعمة ” ضد دول الجنوب والتي كان من نتائجها المباشرة ثورات الربيع العربي وما رافقها من دمار وعدم استقرار وتفكيك الدول.

النقاش الذي فتح في الغرب على اثر إغلاق حسابات ترامب ركز على خطورة ترك هذه المواقع بدون تقنين وبدون مراقبة وفتح الأعين على حقائق صادمة لعل أهما وأخطرها هي أن أربعة شركات (غوغل، فيسبوك، آبل وأمزون les GAFA) أصبحت قادرة على التحكم في أية دولة من دول العالم واستباحة سيادتها أو إباحتها للغير.

كما أصبح بإمكان أية مجموعة منظمة (جيش الكرتوني قد لا يتعدى المئات من الأفراد) تتقن الخوارزميات المعتمدة من طرف مواقع التواصل، أن تتحكم في الرأي العام لأي دولة وأن توجهه حيث تريد مع ما يشكل ذلك من مخاطر على الأمن والاستقرار. بل واصبح بإمكان أي مدون منفرد نجح في “حشد” عدد معين من المتابعين أن يصبح قادرا على ابتزاز دولة ما بسلاح “قوة التأثير الجماهيري” التي أصبح يمتلك مادام أن قوة التأثير هذه أصبحت تشكل سلاحا فتاكا قد يؤدي حسب عدد المتابعين والمتأثرين إلى خسائر قد تبلغ إلى درجة الدمار الشامل للجهة المستهدفة سواء كانت مواطنا بسيطا أو شركة أو حتى بلدا والأمثلة أكثر من أن تحصر.

يعود بنا هذا النقاش إلى مشروع القانون المتعلق بتقنين استعمال وسائل التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح في شهر أبريل من السنة الماضية، والذي صادق عليه المجلس الحكومي يوم 19 مارس من نفس السنة، وإلى حملة الانتقادات الحادة التي أعقب تسريب بعض مقتضياته، والتي يمكن تلخيصها في أن المشروع المذكور يسعى إلى “تكميم أفواه المغاربة”، حيث اعتبر منتقدو هذا القانون الذي يحمل رقم 22.20 والذي غلبت عليه تسمية “قانون الكمامة” أن بعض بنوده سوف تصبح أداة بيد الحكومة تستعملها متى شاءت لـ ”تكميم أفواه المغاربة”، وأنه بالتالي يضرب في الصميم مبدأ حرية التعبير الذي يكفله الدستور.

ويمكن اعتبار إيقاف هذا القانون بالرغم من أن الحكومة صادقت عليه في المجلس الحكومي من قبل جميع أعضائه نموذجا صارخا للنفوذ والتأثير الذي أصبح يتوفر عليه المدونون في المغرب وتوضيح رئيس الحكومة السيد العثماني خلال رده على البرلمانيين في إطار الجلسة العمومية المشتركة لغرفتي البرلمان حول سبب اتخاذ الحكومة إجراء توقيف مشروع القانون يقر بأن سحب المشروع جاء أساسا تجاوبا مع المواطنين والفاعلين الذين عبروا عن آراءهم (أي عبر المنصات) “أشكر جميع الصحفيين والمواطنين وكل الفاعلين الذين عبروا عن آرائهم، وتجاوبا مع هذه الآراء بما فيها آراء البرلمانيين، قمنا بهذا الإجراء”، مع أنه كان من الأنسب أن يتم إرسال مشروع القرار للبرلمان لمناقشته و عدم تعويض مؤسسة البرلمان الدستورية بـ “مؤسسة الفيسبوك” أو تعويض أعضاءها المنتخبين من طرف الشعب بـ “المؤثرين” المجهولي الأهداف وأحيانا المجهولي الهوية.

إن التطورات التي وقعت سواء داخليا أو خارجيا فيما يتعلق بدور منصات التواصل الاجتماعي تفرض وبقوة وبدون أي تأخير إعادة فتح النقاش القانوني والسياسي حول هذا القانون أصبح.

كما أن الآثار السلبية لعدم معالجة تغول هذه المنصات التي أصبحت لها قوة احتكار غير مسبوقة لوسائل نشر المعلومة سوف يؤدي إلى تخلي الدولة عن جزء من سيادتها لأصحاب هذه المنصات والجهات أو الأجهزة المتحكمة فيها، حيث إن هذه المنصات سوف تكون هي الجهة المحددة لنوع المحتوى الذي يمكن أن يطلع عليه المواطن المغربي، وهي المحددة للقانون الذي يصنف هذا المحتوى بل وسوف تكون هي من يحدد من يحق له من المغاربة مواطنين عاديين أو مسؤولين الولوج لها أي لعالم تبادل المعلومة بسبب احتكارها له.

كما أن الآثار السلبية لعدم معالجة تفلت بعض مستعمليها الذين أصبحت لهم إمكانية نشر أي خبر صحيحا كان أو كاذبا وإمكانية استعمال استراتيجيات تواصلية شديدة التأثير بتكاليف شبه مجانية، سوف يؤدي إلى استمرار مآسي ناتجة عن الحملات التي يتعرض له بعض المواطنين على هذه المنصات والتي قد تؤدي إلى تدمير الحياة الأسرية أو الاجتماعية أو المهنية لبعضهم دون أن يتعرض المتسببون بها لأدنى عقاب بل إن بعض هذه الحملات يتم بوجه مكشوف وبتنسيق معلن تحت شعار “فل نجعل فلانة أو فلان يعيش أسوء أسبوع في حياته”.

هذا التفلت يستغله أيضا أفراد تحت مسمى مدونون مستقلون والملاحظ أن بعض هؤلاء المدونين هم أصلا صحفيون يشتغلون في منابر إعلامية أي أن لهم إمكانية الوصول إلى القارئ عبر الوسائط الإعلامية “المقننة” بقانون الصحافة، لكنهم رغم ذلك يلجؤون إلى حساباتهم الشخصية على الفيسبوك غالبا أو التويتر واليوتيوب أحيانا لاقتناعهم بأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لمواجهة خصومهم الذين يستعملون منصات التواصل و”المتحررين” من كل القيود القانونية والأخلاقية وهذا المنطق فيه كثير من الوجاهة ويدل على أنه إذا لم يتم تقنين المنصات الاجتماعية فإن النتيجة سوف تكون هي تفلت الأعلام المقنن ويكفي متابعة تدوينات بعض الصحفيين ومقارنتها بكتاباتهم في جرائدهم لملاحظة الفارق.

بعض هؤلاء “المدونين” وخصوصا منهم المستقرون بدول أجنبية ذهبوا بعيدا في تعمد التفلت من أي ضوابط قانونية أو أخلاقية من أجل استفزاز الدولة عبر التركيز على مهاجمة المؤسسات من بوابة حقوق الإنسان خصوصا، معتمدين على شهادات لضحايا مفترضين لأجهزة أمنية، شهادات تتوزع في الغالب الأعم بين المفبركة وبين الغير موثقة والفاقدة لأي أدلة تدعم صحتها، وسواء كان الهدف هو الشهرة وتوسيع دائرة المتابعين أو كان هو ابتزاز ومساومة “الدولة” فإن النتيجة واحدة وهي الضرر الذي يلحقونه بصورة البلاد وبسمعتها، كما أنهم يشكلون طابورا خامسا لصالح بعض المنظمات الدولية المعادية للمغرب والتي تتستر تحت غطاء حقوقي لإخفاء مشاريعها السياسية مثل – منظمة العفو الدولية- ورغم أن المسؤولية الأساسية عن هذا الضرر تقع على عاتق هؤلاء “المدونين” ويجب، بالتالي أن يتم تحميلهم تبعات قانونية جراء ذلك، إلا أن منصات التواصل تتحمل قسطا مهما من المسؤولية كشريك أو كأداة أو كمسهل ويجب تحميلها تبعاته القانونية والفرصة الآن مواتية للسعي لتنسيق دولي في هذا المجال.

تأثير تفلت منصات التواصل شمل أيضا الحياة السياسية، حيث إن الكثير من السياسيين دخلوا عالم وسائط التواصل، بل إن بعض الأحزاب أصبح لها جيوش الكرتونية غير مرتبطة بها تنظيميا، مما يسمح باستخدامها في معاركها البينية التي تبلغ ذروتها قبيل كل انتخابات. ويكفي للتدليل على مدى الضرر الذي تتسب فيه هذه المعارك التي تعتبر منصات التواصل الاجتماعي ساحتها الأساسية التذكير بهذا المقتطف من خطاب جلالة الملك بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لعيد العرش: “فبمجرد اقتراب موعد الانتخابات، وكأنها القيامة، لا أحد يعرف الآخر. والجميع حكومة وأحزابا، مرشحين وناخبين، يفقدون صوابهم، ويدخلون في فوضى وصراعات، لا علاقة لها بحرية الاختيار، التي يمثلها الانتخاب”.

إن تقنين منصات التواصل الاجتماعي أصبحت ضرورة ملحة تتعلق بأمن واستقرار الدول، وعلى الحكومة أن تتحمل مسؤولياتها كاملة في هذا الصدد ويجب على الفرقاء السياسيين أن يخرجوا هذا الملف من دائرة المزايدات السياسية لأن جزءً منه يتعلق بحماية السيادة الوطنية من التدخل الخارجي والجزء الآخر يتعلق بحماية الاستقرار وحماية الأفراد والمؤسسات من الأذى الذي يلحقهم من خلالها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *