وجهة نظر

هذا ما يجب التنبيه عليه في استقالة الرميد

لقد انتشر خبر استقالة وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان ذ. مصطفى الرميد كالنار في الهشيم، مما جعل كل موقع إخباري يعلق بطريقته الخاصة عن الخبر، حتى كدنا نصف الحدث بالمعجزة، لأن ثقافة الاستقالة ليست من أعراف السياسيين في المغرب؛ ولعل ما زاد من أهمية هذه الاستقالة هو تزامنها مع نشر استقالة أخرى، من قيادي آخر، يشترك مع الوزير في الانتماء السياسي، وكان بطلها إدريس الأزمي، حيث قدم الاستقالة من رئاسة المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، وكذا من أمانته العامة.

ولهذا لم يتوقف التفاعل مع الحدثين إلى حد الساعة، واختلفت الرؤى باختلاف الزوايا المنظور منها؛ فمنهم من ركز على الشخص المستقيل، ونُسي الموضوع بتاتا، ذلك أن شخصية الرميد والأزمي شخصيتان مثيرتان للجدل منذ زمن طويل، والمقام لا يسمح الخوض في التفاصيل؛ وهناك طرف آخر اهتم بالحزب الذي ينتمي إليه المعنيين، لاسيما أن منهم من وجدها فرصة للحديث عن اختلال الموازين في حزب العدالة والتنمية، وكذا ظهور بوادر الانشقاق والانكسار، مع التمني الخفي، من طرف بعضهم، السقوط للحزب ودخوله في صراعات داخلية، ولعل الوقت أيضا ليس مناسبا لتفسيره؛ بينما ظهر طرف آخر، حاول تسجيل ملاحظات همت الجانب القانوني والسياسي لاستقالة الوزير، حيث انصب الاهتمام بالدرجة الأولى على الجانب الاجرائي والشكلي، ويليه من حيث الأهمية دراسة الأسباب الموضوعية المعتمدة لتقديم الاستقالة؛ وعموما، فإن الرؤى اختلفت وتنوعت، لا يسع المقام لحصرها.

لكن عند محاولة النظر في مختلف الزوايا التي أعطتنا الرؤى المختلفة والمتناقضة بعض الأحيان، تجعل الناظر منا يقف تائها بين أي المقاربات أنجع للتعامل مع مثل هذه المواقف؟ بل تجعل من إعادة النظر في مفهوم الاستقالة أمر واجب، حتى ندرك الغاية من طلب الاستقالة، لاسيما أن النموذج الذي يعتبره غالبية الفاعلين السياسيين مرجعا لهم هو النموذج الغربي عموما؛ لذلك قبل الخوض في الأسباب الخفية لاستقالة رجل السياسة من منصب ما، لابد من ربط مفهوم الاستقالة بما جرت العادة عليه في الدول الحديثة، وما أصبح يشكل عرفا سياسيا عندهم.

وعليه، فإن رجل السياسة لا يُقْدم على تقديم الاستقالة إلا في حالات معينة، تشترك جميعها في بعث رسالة أولية، مفادها الاعتراف بالفشل في أداء المهمة بالشكل الموعود، وهذا ما يتم تداوله بالدرجة الأولى في الأوساط السياسية والإعلامية؛ أما غير ذلك، فلا يعدو أن يُعطى له من الأهمية الشيء الكثير إلا نادرا، لأن تقديم الاستقالة لا يعني إلا التخلي الفعلي عن المنصب، بعيدا عن المزايدات والتخمينات؛ مما جعل للاستقالة أثرا إيجابيا في إصلاح الأمور، وتدارك الأخطاء والهفوات ممن يتولى المنصب من جديد؛ وبالتالي، فإنه يسهل في النموذج الغربي، رغم أن مجال السياسة شائك ومعقد، التفريق بين الاستقالة البريئة والاستقالة ذات الحمولة السياسية الصرفة؛ وكل هذا يأخذنا إلى ضرورة التذكير بارتباط الفعل السياسي، في الدول الحديثة، بالمشاريع والأهداف، وليس الاكتفاء برفع الشعارات والخطابات الحماسية.

وعلى سبيل الاختصار، ومحاولة التنبيه إلى ما يجب التركيز عليه، عند مناقشة استقالة مصطفى الرميد، هو: هل حقا يمكن لرجل السياسة، في المغرب، تقديم الاستقالة لأسباب سياسية صرفة؟ هل يملك الجرأة الكافية للاعتراف الضمني بالفشل في المهمة الموكولة له؟ وبعبارة أخرى، هل تملك الأحزاب السياسية، عندنا، رؤية واضحة، تسعى من خلال برامج محددة، تحقيقها؟ أم أن مجمل مساعيها هو التنافس عن المناصب والظفر بالامتيازات وتحقيق المصالح الشخصية؟

لاشك أننا لن نختلف في وصف الأحزاب السياسية ورجالاتها، بشكل عام، بأنهم لا يستطيعون تحديد رؤاهم بشكل دقيق، لغلبة الفكر العاطفي عندهم، حتى صرنا نرى منهم من لا يفرق بين الأحلام والخطط الاستراتيجية لتحقيق ما يتمنون، حيث تراهم يعبرون عن ذلك بشكل كله عبارات تمني، ما أقرب وصفها بأضغاث أحلام، لا أقل ولا أكثر.

بل إن استمرار التنافس على المناصب من طرف نفس الأشخاص، ومحاولة إقناع الرأي العام بكفاءتهم، وقدرتهم إصلاح الوضع، رغم استنفاذ جميع المحاولات، حيث تجد من عمر منهم، أكثر من ثلاث عقود، في أكثر من منصب، ولا يجد أي حرج في ذلك، مع الاعتقاد بل كل ثقة إحداث التغيير؛ إن كل هذا، لا يجعلنا نتفهم تقديم الاستقالة في هذه الظرفية، إلا من باب المزايدة السياسية، والضحك على الرأي العام، إن لم نقل نوع من التغابي، لأن من يسلك نفس الطريق وينتظر نتائج مختلفة، لا يمكن وصفه إلا بالغباوة.

وفي الختام، إن ثقافة الاستقالة لم تنضج بعد في مجتمعنا، وما استقالة مصطفى الرميد بحجة الظرفية الصحية، وأنباء عن عودته بعد إجراء العملية، إلا شكل من أشكال البؤس السياسي الذي ما فتئ يتحدث عنه أصدقاؤه؛ بل لو كان، حقا، أعضاء حزب العدالة والتنمية مؤمنين بمفهوم الاستقالة لما استمروا في تسيير الشأن العام كل هذه المدة؛ ولعل غالبية القادة السياسيين، عندنا، يشبهون بعضهم البعض، بعدما تأكد بالملموس اعتقادهم بصلاح أنفسهم وكفاءتهم، رغم الاخفاقات التي تسببوا فيها، والتي لا تخفى على أحد.

اللهم ارزقنا ثقافة الاستقالة، اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *