منتدى العمق

أسس العمل السياسي الإسلامي

أولا: توطئة في معنى العمل السياسي الإسلامي:

لقد نطق البعض بقوله: “لا وجود لسياسة إسلامية”، هذه المقولة التي تشاركها بعض المتخصصين والمثقفين مع من لا علاقة له بالبحث والعمل الفكري، وهي في حقيقتها تحتاج إلى نقاش عميق يبحث في الثابت والمتغير، وفي الأصول والفروع، وفي الكليات والجزئيات… ولذلك فنحن مطالبون بنقد هذه المقولة قبل الشروع في مقاربة الموضوع المحدد أعلاه، لأن هذه المقاربة تصبح لا معنى لها ما لم نبين إمكانية وجود سياسة تنسب للإسلام.

إن القول بانعدام سياسة إسلامية ناتج عن تأويل خاطئ لمفهوم السياسة، حيث يعتبر رواد هذا التأويل السياسة مجرد آليات من صنع البشر، ووسائل وتدابير يجتهدون فيها وفق عصرهم وأحوالهم. في حين أن السياسة مركب من عنصرين: عنصر نظري وآخر تطبيقي. وكل عنصر من هاذين العنصرين يتكون من ثوابت ومتغيرات. فالأفكار المرجعية في العنصر النظري ثابتة، وإبداع التدابير والوسائل متغير فيه ما لم يُمَس الثابت. أما في العنصر التطبيقي فانعكاس الأفكار المرجعية سلوكا وفعلا ثابت، وتفعيل التدابر والاشتغال بالوسائل التي أبدعها الناس متغير بتغير أحوالهم وظروفهم.

وهذه حقيقة لا غبار عليها يؤكدها التاريخ البشري، فما من دولة قامت إلا ولها ثابت تدور حوله المتغيرات على المستويين النظري والتطبيقي. والإسلام لا يشذ عن هذه القاعدة التي تحكم الأفراد والمجتمعات في آن واحد. فإذا تكلمنا عن العدل والعمل به، أو عن المساواة الإنسانية والعمل بها، أو عن الوسطية الإسلامية وتفعيلها… فذلك كله يدخل في إطار الثابت الذي لا يتخلف في الزمان والمكان. أما إذا تكلمنا عن مؤسسات الدولة وكيفية تنظيمها، أو عن الاستفتاءات وكيفية إجرائها، أو عن الدعاية السياسية ووسائلها… فذلك كله يدخل في إطار المتغير المحكوم بالظروف والأحوال.

وبالتالي، فإذا سلمنا بقول الرافضين لوجود سياسة إسلامية، فإن ذلك يعني أن الآليات وحدها تكفي لممارسة العمل السياسي الإسلامي. فلا حاجة لتأصيل التوجهات والمرجعيات، ولا حاجة للتركيز على المشترك الفكري والثقافي في صياغة المشاريع السياسية. وهذا قول لم يسبق أن قامت عليه دولة من الدول. إنه في حقيقة الأمر دعوة إلى فوضى نظرية، تنتج عنها فوضى تطبيقية. ولا يمكن للسياسة أن تكون فوضى عارمة، فهي قامت لتقليص هذه الأخيرة ما أمكن لا لتثبيتها.

وللإشارة، فتقليص الفوضى في السياسة الإسلامية يتوزع كباقي التوجهات على المستويين النظري والتطبيقي، وأعمق من ذلك على المستويين الثابت والمتغير. فالأحكام الثابتة بنصوص قطعية، والمعلوم من الدين بالضرورة، والقواعد الفقهية والكليات الشرعية العامة، كلها ثوابت تطلب التنزيل والتنفيذ. والظروف المتغيرة، والصعوبات الوسائلية، كلها متغيرات تطلب اجتهادات المسلمين وحلولهم المبتدعة. وبذلك تتقلص الفوضى في سياسة المسلمين وفي عملهم السياسي، من ناحية النظرية والتطبيق، ومن ناحية ما هو ثابت وما هو متغير.

ثانيا: أسس العمل السياسي الإسلامي.

1-تحديد المصدر:

فالشريعة الإسلامية مصدرها ربانيّ، ولا يمكن أن تقوم سياسة إسلامية على غير الشريعة التي وضعها الله سبحانه وتعالى، لتستقيم أحوال الناس وتستقر المجتمعات. وبالتالي، فكلما تكلمت عن العمل السياسي الإسلامي، فاعلم أن خيطه الناظم واحد، وأن أسسه ومبادئه الثابتة واحدة، مهما اجتهد المسلمون في الفروع والآليات. وكلما أردت أن تساهم قدر مستطاعك في تغيير الواقع السياسي للمسلمين وفق المنهج الإسلامي، فاعلم أنك مطالب بعبادة الله سبحانه وتعالى بإخضاع السياسة لمفهوم التوحيد.

إن إخضاع السياسة لمفهوم التوحيد هو وحده الكفيل بالإقرار بربوبية الله تعالى وعبوديته من داخل العمل السياسي، وذلك من خلال ما يلي:

-إخضاع السياسة لمفهوم توحيد الربوبية: فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الملك وملكه، وعلم بوجوه تصريفه ودبرها. فلا يجوز لأي كان أن يعلو فوق خلق الله وملكه وعلمه وتدبيره، فذلك ليس من توحيد الله سبحانه وتعالى. ولا يمكن أن يدعي خلق الأحداث في أصلها أو الملك المطلق أو العلم بلا نهاية أو التدبير الذي لا يلحقه قصور، من يوحد الله بحق. فكلما أيقن الإنسان بهذه الحقائق، عمل مخلصا لله تعالى في كل شأن سياسي، فالله من خلقه وإليه مرجعه. وعلم أن كل ما يملكه ملك لله وهو محاسب عليه يوم التمايز بين الناس، فلا اغتناء ينبغي أن يكون بلا حق من وراء العمل السياسي وتصدر المسؤوليات. وتواضع لله تعالى بإشراك الناس في القرارات وفتح باب النصح والمشورة، ففوق كل ذي علم عليم. وأقر بإمكانية تقصيره في التدبير وحاجته إلى من يعينه ولا يطغيه، فالمؤمنون أمرهم شورى بينهم والمدبرون وحدهم يضيعون مصالح المسلمين بماتقتضيه أهواؤهم، لأنهم لا يملكون القدرة على الإصابة دائما.

-إخضاع السياسة لمفهوم توحيد العبودية: إن المسلم المنكب على السياسة وشؤونها، لا بد أن يعتقد اعتقادا راسخا لا شك فيه أنه في عبادة. ونحن لا نقصد هنا بالعبادة الشعيرة التعبدية، باعتبارهاالتحقق الخاص بالعبادة. وإنما نقصد بذلك العبادة التي تشمل كل حياة الإنسان، باعتبارها التحقق العام بالعبادة. فالله سبحانه وتعالى قال: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، وفي ذلك تأكيد على أن الغاية التي خلق من أجلها الثقلان هي العبادة. ويستحيل أن تكون حياة المسلمين كلها شعائر تعبدية، من صلاة وصوم وحج وذكر… وغير ذلك، لسببان هما:

أولا: إن الله تعالى لم يفرض على المسلمين الصلاة من غير توقف، بل هي خمس صلوات، وما تيسر من النوافل لمن أراد أن يستزيد. كما أنه تعالى لم يفرض عليهم الصيام طيلة حياتهم، بل هو شهر مبارك كتب فيه الصيام على المسلمين كما كتب على من كان قبلهم. كما أنه سبحانه وتعالى لم فرض عليهم الحج كل عام، بل حجة واحدة لمن استطاع إليها سبيلا، والعمرة متاحة لمن أرادها…

ثانيا: لقد خلق الله تعالى الإنسان بتركيبة متناسقة، روحا وعقلا وجسدا. فكما أن للروح غذاء، للعقل غذاء، ونفس الشيء يقال عن الجسد. ولذلك، فحاجات الإنسان الطبيعية ونشاطاته الحيوية التي وضعها الله تعالى فيه، تفرض عليه أن يكون عبدا لله، ليس فقط في الشعائر التعبدية، ولكن في كل حياته، ليتحقق استثناء “إلا ليعبدون”.

وأخيرا، يتضح لناأن العبادة ليست شعيرة تعبدية فقط، بل هي سياسة واقتصاد واجتماع كذلك. وما دمنا نتكلم عن العمل السياسي الإسلامي، فإن هذا الأخير محضن لكل ناسك أو سالك أو عابد يعبد الله بالشعيرة التعبدية، وبسائر الأنشطة السياسية. فالنضال من أجل ألا يعلو سلطان فوق سلطان الله عبادة، وإلحاق البيانات والكتابات والتصريحات الحاسمة بأوراد الزوايا عبادة، وحفاظ على المبادئ الإسلامية من داخل الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية عبادة…

2-تحديد الانتماء:

مفهوم “الانتماء” عندنا شيء آخر غير مفهوم “الانتماء” السائد اليوم بين الناس، فالكل يتكلم عن الانتماء للأحزاب السياسية والنقابات العمالية والجمعيات المدنية والمنظمات الحقوقية… ولكن الحديث عن الانتماء الحقيقي لا يستدعى له لفظ “الانتماء”، نظرا لغفلة الناس عنه بانشغالاتهم اليومية وأمورهم الخاصة. ولكن دعونا أولا نحدد طبيعة هذا الانتماء الذي نتحدث عنه، فكما يعلم جميع المسلمين أن “الدنيا دار اختبار” و “أن هناك حياة بعد الموت”، فهم ملزمون بأن يتذكروا دائما أن الانتماءات الدنيوية المحضة مصيرها الفناء كما تفنى كل المواد. وعلى هذا الأساس يتحدد الانتماء، فالمسلمون إذا أرادوا إصلاح الحكم والسياسة، فليس لذاتهما. وإذا أرادوا تحقيق الأوج الاقتصادي، فليس لنيل الرفاه المادي كغاية نهائية… ولكنهم يعملون كل ذلك لتيسير دعوة الإسلام، وتمكينها من البلوغ للناس دون أن يتداعى عليها داع، أو يقف في وجهها واقف. وهذا كلام ينبغي أن يقال لمن لم يحدد بعد انتماءه، أهو يريد إصلاح الدنيا للدنيا؟ أم يريد إصلاحها للآخرة؟ فإذا كان يريد الأمر الأول، فهو بذلك يجهل الحقيقة التي استخلفه الله من أجلها في الأرض، وهو معرض لأن ينزاح عن منهج الإصلاح لأنه لا يربطه بالآخرة. أما إذا كان يريد الأمر الثاني فقد أصاب الحسنيين، من خلال إصلاح أحوال الناس –ومنها الأحوال السياسية-وتعليقهم بالله فوق كل ذلك. ولعمري هذا هو هدف الحركة الإسلامية الوسطية المعتدلة التي ما دخلت العمل السياسي إلا لتوسع من مساحات الدعوة، وتفتح لها مزيدا من الأبواب. فإذا أحس أفراد الشعوب بصدق عمل الحركة الإسلامية في إصلاح الشأن السياسي، وإذا رأوا فيها الخزان الحقيقي للقيم الحضارية للإسلام، سيقبلون عليها فرادى وجماعات، فهي تسعى لصلاح دنياهم وتجعل كل ذلك وسيلة لسعادتهم في أخراهم. لذلك حق لك أن تقول بفمك المليان: العمل السياسي الإسلامي واجهة من واجهات الحركة الإسلامية لتوسيع دائرة الوالجين للجنة كأسمى غاية.

3-تحديد العلاقة:

في إطار الممارسة السياسية يتفاعل المسلمون الراضون بإخضاع السياسة لمفهوم التوحيد مع مجموعة من الفاعلين السياسيين، حيث تتوزع العلاقات القائمة معهم على أربعة مجالات: الاتفاق في الأصول والفروع معا، الاتفاق في الأصول دون الفروع، الاتفاق في الفروع دون الأصول، الاختلاف في الفروع والأصول معا. وهذا يفرض علينا نوعا من التحليل، حتى نتمكن من فهم هذا التقسيم المعتمد عندنا هنا.

-الاتفاق في الأصول والفروع معا: وهو أعلى درجات الاتفاق، حيث يحصل الإجماع على أساليب الاشتغال بعدما حصل على المبادئ الأساسية والغايات السامية. وهذا يكون غالبا بين أبناء الخيار السياسي الإسلامي الواحد، أو التجربة الواحدة. فلا أحد ينكر علاقة الدولة بالدين، ولا أحد يمتنع عن إخضاع السياسة لمفهوم التوحيد، ولا أحد يدعو إلى إبعاد مفهوم الأمة من النقاش السياسي الدائر… وفي نفس الوقت لا أحد يشذ بوسائله وآلياته عما هو معتمد عند الأغلبية وما هو راجح عندها، ولا أحد يأخذ في الفروع بعكس ما قرر. وهو ما يقتضي “الولاية الشرعية والأخوة الإسلامية والألفة القرآنية”، مصداقا لقوله تعالى: “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض”، وقوله تعالى: “إنما المؤمنون إخوة”، وقوله تعالى: “ولكن الله ألف بين قلوبهم”. كما يقتضي العمل الجماعي على تنفيذ المتفق عليه، حتى يتأكد الأصل عند الناس، ويُخْتَبَر الاجتهاد في الفروع والآليات. (مثال: أبناء مشروع “حركة التوحيد والإصلاح” فيما بينهم).
-الاتفاق في الأصول دون الفروع: وهو اتفاق مهم، لا يطغى عليه الاختلاف في الفروع والآليات. فالأصول قطعية ثابتة، والفروع ظنية والآليات متغيرة. ولا يمكن أن يطغى الظني والمتغير على الثابت القطعي. ومن يسقط في ترجيح الفرع على الأصل، والثابت على المتغير، فهو غافل عن المنهج الحقيقي للإسلام. إذ لا يستقيم أن تَنْسى قضايا مصيرية بسبب جزئيات سياسية، ولا ينبغي أن تتوقف التنسيقات الدعوية بسبب الاختلافات السياسية الفرعية، ومن العيب عدم احترام “الولاية الشرعية والأخوة الإسلامية والألفة القرآنية” جراء تأويلات مختلفة في كيفية تصريف قناعات مبدئية. إن العلاقة التي ينبغي أن تربط الأطراف المكونة لهذا الاتفاق هي علاقة الثلاثي المذكور (الولاية والأخوة والألفة)، مع التماس الأعذار في الفروع والآليات المختلف فيها. (مثال: “حركة التوحيد والإصلاح” و “امتداد السلفية الوطنية بالمغرب أو ما يمكن أن نسميه بالسلفية المجددة والمعاصرة -حماد القباج، عادل رفوش، عصام البشير المراكشي…-“).

-الاتفاق في الفروع دون الأصول: وهذا الصنف قد يختلف معك جملة وتفصيلا في جل الأصول أو في بعضها، ولكنه يتفق معك في بعض الفروع المرتبطة بالمطالبة بالإصلاح السياسي وتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان الحريات لكل التوجهات… فمن واجب أبناء العمل السياسي الإسلامي الانخراط في مثل هذه المبادرات، والتحالف مع هذه القوى في العناصر المشتركة، مع الحرص على تبيان موقف الإسلام مما يجري دون أن تفرض رأيك على أحد. فتلك فرصة للمدافعة السلمية بالفكرة المرجعية، وتصريف القناعة والدعوة إلى الرسالة بالرحمة والعدل والحوار. فبالرحمة تنظر إلى المخالف في الأصول كمخاطَب بالدعوة الربانية، وبالعدل لا تبخسه عمله ونضاله بأن تقر بصوابه في العناصر المشتركة بينكما، وبالحوار تتجنب إذاية الآخر وتترك الفرصة لتمظهر دعوتك وحصول أثرها عند من خالفك في الأصول. (مثال: “الحركة الإسلامية القابلة بالديمقراطية” و “القوى اليسارية الديمقراطية حقيقة”).

-الاختلاف في الأصول والفروع معا: من النادر أن تجد صنفا يختلف معك في كل الفروع، وإن اختلف معك في كل الأصول. ولكن الراجح أن هناك من يختلف معك في الأصول وفي أغلب الفروع. وهذا الصنف يتم تصريف الاختلاف معه عبر مقارعة الحجة بالحجة، ومزاحمته بالعرض والنقد في كل المجالات، وتحذير الناس من قيمه الدنيئة ومن سياساته البئيسة… وذلك لأن إمكانية التنسيق معه غير موجودة، نظرا لغياب الأرضية المشتركة سواء في الأصول أو في الفروع. (مثال: “الحركة الإسلامية الوسطية المعتدلة” في مواجهة “المخططات الغربية الإمبريالية الساعية إلى ضرب الإسلام وسيولة الإنسان”)
ثالثا: وختاما نقول…

إن هذا المقال المتواضع عبارة عن أرضية لإعادة النقاش في قيم ومبادئ مرجعية، كان لزاما علينا أن نذكر بها أنفسنا وغيرنا من أبناء العمل السياسي الإسلامي، بما هو امتداد للحركة الإسلامية الوسطية المعتدلة في المجال السياسي. كما أردنا بذلك أن نطلع مخالفي هذا العمل على منهجه الذي لا يحمل إقصاء بين طياته، ولا يبخس أحدا عمله، ولا يغلق أبواب الحوار، بل يفتحها بالعدل والرحمة. وخلاصات هذا المقال هي كالتالي:

-الإسلام يميز سياسة المسلمين عن غيرهم، وهو ما يؤكد مقولة “وجود سياسة إسلامية أو عمل سياسي إسلامي”.
-من العبادة إخضاع السياسة لمفهوم التوحيد.
-العمل السياسي الإسلامي واجهة من عدة واجهات لتوسيع دائرة أهل الجنة.
-الاتفاق في الأصول يقتضي تصريف الاختلاف السياسي وفق “الولاية الشرعية والأخوة الإسلامية والألفة القرآنية”.

أما الاتفاق في الفروع دون الأصول فهو مجال خصب للدعوة بالحوار والتنسيق على أساس أرضية مشتركة، أما الاختلاف في الفروع والأصول معا فهو يستدعي الحجة والمزاحمة والمنافسة في الفروع والأصول على حد سواء.