منتدى العمق

قصة متعاف من فيروس كورونا المستجد

عندما تشاهد فيلما سينمائيا متقن الإخراج وجذابا في أحداثه ومؤثراته، تظن نفسك شخصية فيه، تتفاعل بمشاعرك وحواسك كلها، فتراك تبكي أو تضحك، تتوتر وتخاف، تسعد أو تغضب، تملؤك جميع هذه الأحاسيس فيتحول الخيال الذي تشاهده إلى واقع تعيشه.

منذ الإعلان عن أول إصابة بفيروس “كورونا” في المغرب، وما لحقها من إجراءات عزل وحجر ومنع تجول وحملات إعلامية، وأنا أعيش في أحداث لم أعهد مشاهدتها إلا على الشاشة الكبيرة في صالة عرض. لكن بطريقة ما تحول الخيال إلى حقيقة وأصبحت المشاهد السينمائية أحداثا واقعية أعيشها بتفاصيلها الدقيقة، فغدوت بذلك بطل ما كنت أشاهده.
الكثيرون سطروا قصصهم في مجلد «زمن كورونا» الذي لم تنته فصوله حتى الآن وسيحمل في طياته قصصا تحكى، وروايات تروى، ومواقف تذكر، وأحداثا تسرد.
وها أنا اليوم، أكتب بحبر قلمي، لأسطر جانبا من قصتي في زمن الجائحة، التي تجاوزت عيش لحظات منع التجول والتواصل عن بعد، للحظات وتفاصيل أدق من خلال إصابتي بهذا الفيروس.
فبسم الله على بركة الله أبدأ حكايتي مع الفيروس المدعو “كورونا” الذي تجاوز حدود المنطق والعقل مع كل شخص طرق بابا عليه إلا أنا، نعم؛ فإلا أنا لم يكن هذا الفيروس وبالا على صحتي (اعراض خفيفة كالزكام الاعتيادي) ولم يكن وبالا على عائلتي وكل من خالطت، بفضل الله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
في يوم الأربعاء 13 يناير 2021 بدأت أفقد حاسة الشم، وفمي وحلقي يجفان ليلا كمن يعاني من مرض السكري، وبدأت بالسعال قليلا وصداع في الرأس. ورغم كل هذا فإنني لم أهتم لذلك واعتبرتها نوبة زكام، لكن وبعد مرور أسبوع وبالظبط يومه الأربعاء 20 يناير 2021، وأمام إلحاح صديقي الدكتور -عبد السلام زهير- علي، ذهبت لعمل فحص COVID-19 وأنا لا أتوقع نهائيا أنني مصاب. أثناء انتظاري لدوري لإجرائي فحص PCR أمام المصلحة الطبية العسكرية، أحسست الدقائق ساعات، أحسد من أنهى فحصه قبلي وأخاف أن تفرغ العينات رغم أنها تغطي العدد وتزيد، لكنني مستمر بالقلق، وصل دوري لأجراء الفحص، أجريته، وعدت إلى منزلي في انتظار ظهور النتيجة؛ والآن بدأت مرحلة انتظار النتيجة، وعادت بي الذكريات للحظات الثانوية التأهيلية لكن بشكل معاكس، فهذه المرة أرغب فعلا أن أكون راسبا، فعلا أصبحت مرهقا من كثرة التفكير والتحليل.
وها قد أتى صباح يوم الخميس 21 يناير 2021 ليردني اتصال من طرف المصالح الطبية المختصة بالمديرية الجهوية للصحة بمراكش يتم إخباري عبره بأنه قد تم تأكيد إصابتي بفيروس كورونا المستجد الذي طالما احترست منه -إنا لله وإنا إليه راجعون”،.
بعدها بلحظات قليلة بدأت تراودني أسئلة كثيرة، ما العمل؟ كيف التصرف؟ كيف أخبر رفاقي الذين خالطتهم طيلة الأسبوع الماضي إني قد أصبت؟ هل نقلت العدوى إلى صديقي المقرب الذي انتقل معي لإجراء المسح الأنفي؟ أين سأحجر نفسي؟ هل سأموت لا قدّر الله بسبب هذا الفيروس؟…، هذه الأسئلة الأولى خطرت على رأسي جميعها في بضع ثوانٍ فقط، وحالة عدم الهلع التي لطالما أقنعت الآخرين بها، ها هي تصيبني، وحالة من القلق والخوف أصبحت تراودني، امتزجت في هذه اللحظات عشرات المشاعر، حتى الغضب احتل جزءا كبيرا منها.
والآن جاء اليوم الذي كنت فيه لوحدي تماما مع هذا الفيروس، حيث شعور الوحدة والعزلة والحجر، فكرت مليّا ماذا أفعل؟ كيف أرحب به؟ قلت في نفسي بلهجتنا الدارجة “ياسين للي عطا الله عطاه والبكا منورا الميت خسارة” توكل على الله يا ياسين وعش هذه المغامرة وأنت العاشق لروح المغامرة. وإذ بيدي تمسك قلما وترسم صورة لطيفة لهذا الفيروس على ورقة، حينها أديت له التحية، ورحبت به معتذرا عن تأخري بهذا الترحيب، وكان لطيفا ومقدرا لظرفي.
كم كانت أياما لطيفة بكل تفاصيلها مع هذا الفيروس، حتى أنه كان خجولا معي، ولست أعلم ما السر وراء ذلك، إنما أظن أن السبب بأنني لم أُشعره أبدا أنه كائن مخيف ومرعب، فكيف ذلك وهو ضيف من ضيوف الرحمن، وقد كبرنا وتربينا على احترام الضيف مهما كان وأيا يكن، وإن تودون القول بأن هذا فيروس وليس ضيف، فاسمحولي أن أقول بأننا استقبلنا أقدارا أخطر وأمر، وتعايشنا معها ورضينا بها، فلماذا الأمر يتوقف عند هذا إذا !؟
وعودة إلى الفيروس، ففي كل صباح، عندما أفتح عيناي يكون هو أول صورة أراها، وما هي إلا ثوان معدودات حتى تضح الرؤية ويعود لي الوعي بأنني مصاب به فأبتسم وألقي بصباحاتي عليه المحملة بالورود، فيرد بنفس العبارة، بكل خجل، ثم أسأله عن أحواله وما إن كان يخبؤ لي أي أعراض مفاجئة في جعبته، واستمرت الإجابة المصحوبة بابتسامة طوال السبعة أيام “عندما ينتهي اليوم ستعرف”.
وخلال يومي كنت أحادثه عن كل ما أفعله، كنت أتشارك معه كل الأحداث، وكأنه شخص يقيم معي، وعندما أشعر بعارض غريب أسرع إليه وأسأله، فيجيبني “اطمئن، ليس بسببي”.
جاء اليوم الأخير من فترة حجري، وهو اليوم الوحيد الذي شعرت به بالخوف، حيث أنني عندما صبّحت عليه، وسألته عما يخبؤه لي في آخر يوم له معي؟ فعلى غير عادته أجاب بحزن “غدا ستعرف”؛ غدا؟! أثارتني الإجابة، “لماذا ليس اليوم؟!”، قلت في نفسي.
ومر اليوم السابع، وجاء صباح اليوم الذي يليه، فتحت عيناي وإذ بدموعي تسبقني، لم أفهم السبب في حينها، ولكن سرعان ما فهمت الأمر عندما نهضت متجها إلى الورقة التي رسمت عليه صورة للفيروس وإذا بالفيروس قد غادرها تاركا لي قلبا أبيضا وعبارة “أطلب منهم أن يسامحوني، فليس الذنب ذنبي بما فعلوه بي”.
لقد عز علي رحيله حزينا، مكسورا، فنعم، ليس الذنب ذنبه بما طوروا عليه من تجارب، ولكن ما باليد حيلة. وكي لا تستغربوا حديثي، ألا يمكن أن نقيس ذلك علينا نحن كبشر، فمن منا عندما يشعر أنه غير مرغوب به في مكان ما لا يزداد قلبه إلا ظلمة ويصبح شخصا غريبا ومؤذيا، ولا يعود يفكر بشيء غير الانتقام؟. هذا تماما ما حصل مع ضيفنا “كورونا”، فكرهنا له قبل دخوله بيوتنا وشعورنا بالرهبة منه جعلتنا نتوهم الأعراض ونشعر بالتعب، وهو لا ذنب له في أغلب الأوقات، فالوهم الناجم عن الخوف دائما قاتل، ولو كل منا فكر بطريقتي، وتعامل مع الأمور دون خوف، ومنح لنفسه فرصة التعرف عليها واستكشافها لوحده قبل إصدار الحكم أو القرار المقرون بما يتداوله الناس، فحتما حينها سنجتاز أكبر بلاء وأقوى مرض، حيث دائما للإنسان حكم مسبق، ودائما يتفاخر بعبارات التنمر دون وعي، فيجرح بها شعورا بريئا لم تكن له يد ولا حيلة بما وجد نفسه عليه.
لقد علمتني تجربتي مع فيروس كورونا أن في التجارب عبر وفي معايشة تفاصيلها دروس، ولتخطي مساوئها علينا التحلي بـالإيمان والقوة والصبر، وأن الخوف أو اليأس إذا تسلل أي منهما للنفس يدمرها، وأثبتت لي التجربة مع هذا الفيروس أن خوفنا منه جعله يتربع في منازلنا.
علمتني تجربتي مع هذا الفايروس، أنه رغم حرصنا الشديد على اتخاذ جميع التدابير الصحية الإحترازية فإن قدر الله نافذ وأن ماأراده الله سيكون.
علمتني هذا التجربة، أن الخير مازال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فماذا يعني أن يصحو عدد ممن قضيت حوائجهم في مناسبة ما ولا تجمعني بهم اي علاقة أو قرابة على موعد صلاة الفجر ليدعوا لي بالشفاء؟ وماذا أن يردني مايزيد عن 250 اتصال (محلي ودولي) خلال فترة إصابتي؟ وماذا أيضا عن قضائي ساعات طوال لأرد على أكثر من مئات الرسائل يطمئن بها مرسليها عن إصابتي وصحتي؟ وماذا يعني كذلك أن ألتمس رجفة الخوف في نبرات أصواتهم، وأن أشعر بلعثمات حروفهم المكتوبة التي يحاولون إخفائها بعبارات المزاح والضحك، ظنا منهم أنني خائف ربما أو حزين.
ختاما، الحمد والشكر لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله الذي منحني الصبر والإيمان لكي اجتاز هذه المحنة التي أدعو الله سبحانه وتعالى ألا يمر بها أي إنسان. وهنا وبهذه المناسبة، وبعد شكر الله عز وجل، وأسوة بخير الورى في تجليات ما ترك لنا من عظيم الأثر و بلاغة السير إذ قال صلى الله عليه وسلم “من لم يشكر الناس لا يشكر الله” و اعتبارا لمقام العرفان لمن وقفوا بجانبي في هاته المحنة وسألو عني ليل نهار ،فقد وجب شكرهم علانية وكل باسمه؛ فالشكر والتقدير للسيد والي صاحب الجلالة على جهة مراكش آسفي السيد كريم قسي الحلو الذي أشكره على رعايته الكريمة بشخصي، الشكر للسيدة المديرة الجهوية للصحة الدكتورة لمياء شكيري على حسن تواصلها وتتبعها لحالتي بشكل مباشر، الشكر للدكتور عزالدين بورقية المنسق الجهوي بجهة مراكش آسفي لقسم -COVID19- على اتصالاته اليومية التي لم تنقطع طيلة فترتي المرضية للاطمئنان علي وعرض كافة إمكانيات المديرية الجهوية للصحة للوقوف بجانبي، الشكر لصديقي الدكتور عبد السلام زهير وصديقي الدكتور حسن المرگاوي واللذان لم تنقطع اتصالاتهم بي طيلة فترة العلاج مما كان له أكبر الأثر في الدعم النفسي، الشكر لرجال الأمن والسلطة المحلية والصحفيين والصحفيات ونسيج المجتمع المدني وجميع المنتخبين ورؤساء مجالس الجماعات وكل المسؤولين الذين اتصلوا بي وسألوا عن حالتي الصحية بعد اصابتي بهذا الفيروس، الشكر لجميع من راسلني واتصل بي كل باسمه. كل الشكر والاحترام والتقدير إلى من ذكرته ومن أنساني الشيطان أن أذكره، وللجميع مني كل الشكر والتقدير والاحترام. كما أتقدم بخالص آيات العزاء والمواساة لكل الأسر التي أفقدها هذا الوباء أحدا من أحبائها، وأسأل الله أن يتغمد المفقودين بواسع رحمته ومغفرته وأن يسكنهم فسيح جناته ويلهم أهلهم وذويهم الصبر والسلوان، وأتوجه إلى الله بخالص الدعاء والابتهال أن يمن على جميع المصابين بالشفاء العاجل وأن يردهم إلى أهلهم وذويهم سالمين معافين بفضله وجوده وكرمه، كما أتقدم بخالص التهنئة لمن تفضل الله عز وجل عليهم بالشفاء والتعافي والخروج من هذه الأزمة بخير وسلام وعافية .
قال الله تعالى “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *