لنا ذاكرة

شيدها المرابطون.. أقدم قنطرة في المغرب تستغيث من الإهمال والتخريب (1/2)

مولاي امحمد الخليفة

(الجزء الأول)

هذه القنطرة بكل جلالها، وعبق تاريخها، وهندستها الأخاذة.. استحقت أن تكون البوابة الطبيعية والمنفذ الوحيد لمدينة مراكش عبر كل أزمنة هذه المدينة الخالدة.. قنطرة وادي تانسيفت الوحيدة بالمغرب التي يكاد عمرها يناهز الألف سنة، إذ يعود تاريخ تشييدها إلى عهد الأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين، وأعيد ترميمها للحفاظ على هندستها الرائعة في العصر الموحدي بعد الفيضان الطوفاني الذي كان قد دمر جزءا منها،.. وبالقرب منها كانت تجتمع جحافيل المجاهدين المغاربة بالآلاف، والتي كانت تأتي من كل حدب وصوب.. على اتساع رقعة الوطن للتدريب، وتوحيد الصفوف، وإعداد خطط الدفاع عن أرض الوطن، من أقصى جنوب الصحراء إلى نهاية الحدود في أقصى الشمال بالأندلس، ذلك الفردوس المفقود، حتى ليقال أن كل نخلة موجودة فيما يعرف اليوم “La Palmeraie” : النخيل شرق وادي تانسيفت، وواحة سيدي إبراهيم في غربها.. هو من نواة ثمور أولائك المجاهدين الذين كان جل زادهم حبات تمر مع كسرة خبز أو (زميطة) يقتاتون بها لشد الرمق بعد إلقاء نواة ثمورهم في الأرض، فكانت تلك المعجزة غابات النخيل التي أصبحت شرق الوادي اليوم مرتعا لبناء الفنادق الفخمة والقصور التي لا يعرف العالم الحديث في كل أرجائه تشييدا لمثيلاتها! ، بينما غرب الوادي توجد فيه واحة سيدي إبراهيم التي كان مخططا لها أن تكون أجمل منطقة في العالم، ويكاد اليوم نخيلها يصبح أثرا بعد عين.!

اهتمام وعناية استعمارية

وفي عهد الاستعمار اعتنت إدارته بهذه المنطقة عناية فائقة، مستحقة.. فأحدثت بذلك الفضاء الرائع، الذي يحتوي ملايين النخيل، ممرا سمته (Circuit de la Palmeraie): ممر النخيل، وجعلت من هذا الممر أجمل ما ترى عين الزائر عند المرور بذلك الطريق الضيق (Circuit) بنخيله المعمر لمئات السنين، ولاسيما عند غروب الشمس، عندما تتلاقى مياه وادي تانسيفت الدافقة في الأيام الممطرة على عرض قنطرة وادي تانسيفت التاريخية، يجللها من كل جهاتها النخيل الباسق فيصبح غروب الشمس على أطراف النخيل الممتد على مد البصر أعظم لوحة يتصورها الخيال، حتى كان متداولا أن أجمل غروب للشمس في الدنيا هو رؤيتها من هذا الممر تودع يومها على أطراف نخيل مدينة مراكش من خلال هذه القنطرة التاريخية بنخيل واحة سيدي إبراهيم غربها.

الفساد والخراب والتدمير

أما اتجاه الوادي غربا وسط ” واحة سيدي إبراهيم ” ابتداء من الجبال المسماة الجبيلات المطلة على الواحة التي يخترقها النهر إلى مصبه بين مدينتي آسفي والصويرة، فقد امتدت لها يد الخراب، وتعيش الآن مصيرها المحتوم للزوال بعد أن عمر نخيلها نحو الألف سنة تحت أنظار وأعين الجميع، بما فيها الأراضي الشاسعة المملوكة للأوقاف الإسلامية، والدولة، أو ما يدعيه بعض الأشخاص من أن أجزاء واسعة منها مستحقة لهم بحكم أنهم حفدة أحد الأولياء الصالحين دفين مدينة مراكش الذي هو مالكها!!!!، وعندما يتم التدمير النهائي لواحة سيدي إبراهيم إرضاء لشهوات طغاة مقاولات البناء، وفساد المسئولين والمنتخبين بالمنطقة بالسماح بالبناء العشوائي، والتستر وراء التصاميم التي لا تراعي حضارة، ولا بيئة، ولا جمالا، ولا حاجيات الطبيعة، ولا تاريخا، ولا حقوق المستضعفين في الأرض، ولا ما وصل إليه العالم في تخطيط القرى والمدن بأنسنتها، وجعلها في خدمة الإنسان،.. عندما يتم تنفيذ هذا المخطط الوحشي الجهنمي الذي ينفذ الآن بهمجية وشراسة.. لن يعود لمدينة مراكش تلك الصفات التي أضفاها عليها الشعراء( بالله إن وطئت مراكش قدمك.. وجزت يوما نحو تلك البساتين..فحيي أهلها) وما تغنى بها المغنون والمطربون القادمون إليها من شمال المغرب بذلك الوصف الرنان الرائع.. ” مراكش ياوريدة بين النخيل “.

اهتمام الحسن الثاني بالواحة والقنطرة

لقد تنبه المغفور له الحسن الثاني بذوقه الرفيع وثقافته الواسعة واعتزازه بالحضارة المغربية إلى أهمية وموقع هذه القنطرة التاريخية كمعلم حضاري، بشرقها( La Palmeraie ) وغربها (واحة سيدي إبراهيم) على امتداد الأفق، وما يشكله جمال نخيلها الباسق ذي المئات سنين الذي تخترقه مياه تانسيفت، و أدرك بحسه الفني والجمالي جمال هذه الواحات الاستثنائية، لأن نخيلها في غرب الوادي، وشماله الغربي محاط بسور طبيعي هو السلسلة الجبلية المعروفة بالجبيلات بارتفاعات تضفي على المنطقة طابعا سحريا كأجمل ما يمكن أن يرى في الوجود، فعهد إلى مهندسه الشهير(باكار) الذي أبدع في تصميم أجمل منطقة في العالم مبرزا قيمة نخيل يناطح السماء بعمره الضارب في أعماق التاريخ الذي بين ممراته تسري مياه نهر تانسيفت ليعم الخير والنماء من تحت جسر الألف سنة، وبالفعل صدرت بذلك المراسيم اللازمة التي أرست ذلك المخطط الهندسي الذي لو نفذ لكانت اليوم هذه المنطقة إحدى أجمل مناطق العالم بدون منازع.

لقد علمت فيما مضى من بعض الأصدقاء الذين كانت لهم الفرصة للاطلاع على تفاصيل تصاميم باكار أنها كانت تعطي للإنسان قيمة في العيش وسط بساتين وجنان النخيل بحيث أن ممرات الراجلين لا يمكن ولوج أية آلية إليها بما فيها الدراجات العادية، كما أن ممر هذه الدراجات بالذات كوسيلة رياضية، أو تقريبية للمسافات لا يمكن اختراقها بآليات أخرى، كما أن ممر السيارات نحو البيوت والمنتجعات السياحية لها طريقها الخاص، ومواصفاتها التقنية الدقيقة للحفاظ على البيئة، ومنع التلوث.. ناهيك عن الحدائق العمومية بمئات الهكتارات على أرفع مستوى عرفه العالم لتتنفس رئات المدينة أوكسجينا طبيعيا خالصا يستفيد منه أبناء مراكش وزوارها ومحبوها على السواء، كما خصصت مناطق لتشييد منتجعات سياحية وإقامات وفنادق باذخة ذات التصنيف العالمي على أرفع مستوى عرفه العالم في هذا المجال، وتصميم دور للسكنى بتخطيط محكم بين أحضان النخيل، وفوق هضبة الجبيلات نفسها المطلة على الواحات وعلى مدينة مراكش كذلك، ناهيك عن تشييد محترف على أرفع مستوى معماريا وهندسيا جديرا بعبقرية المغاربة في القرن الواحد والعشرين، وحبهم لصناعاتهم الوطنية ليكون معرضا دائما للصناعة التقليدية، وممارسة الحرفيين المشهود لهم تحت أنظار الزائرين، مع المنع الكلي لأية صناعة أخرى كيفما كانت داخل هذه المدينة المحدثة، إن كل هذا الحلم يذهب الآن أدراج الرياح وسيصبح أثرا بعد عين، إذ الأيادي الأثيمة، والتآمر المكشوف، والجشع الجهنمي، والكسب الحرام، وتدمير الحضارة، كلها عناصر تتظافرت جهودها بوحشية وهمجية لقتل نخيل مئات السنين، وتدميره، وإحراقه نهارا وليلا تحت جنح الظلام،! وقلعه شامخا لبيعه غاليا لزينة القصور! ولإيجاد أراضي صالحة لبناء أقفاص تسمى سكنا للإنسان في مؤامرة قاسية ضد مراكش.. الحاضرة المتجددة.!

القنطرة مفخرة المغرب

إن القنطرة التي جرتنا لهذا الحديث عن البيئة المغروسة فيها ظلت على مدى عشرة قرون تقاوم عاديات الزمان، وشكلت عبر عمرها المديد الجسر الوحيد الذي يصل شمال المغرب بجنوبه عبر كل تاريخ المغرب، ..وإلى الآن، إنها باستحقاق وجدارة مفخرة المغرب الهندسية المائية التاريخية المعبرة عن عبقرية الذين شيدوها على امتداد عرض ذلك النهر بتلك الجمالية الأخاذة، ورغم مرور مئات السنين ظلت شامخة في مكانها في وجه الفيضانات المهولة التي عرفتها أحيانا عبر تاريخها، ولعل أهم ما ضمن لها الخلود هي منافذها التسعة والعشرين بالشكل الذي بنيت عليه، والتي تسمح بتكسير قوة الماء عند دخوله من هذه الممرات، مهما ارتفعت كمياتها وقوة تدافعها.. هذه القنطرة اليوم تشتكي الإهمال والاستهداف، بل التخريب عن قصد أو عن جهل فلقد تحملت عبر التاريخ مرور ملايين البشر والدواب والمجرورات، وتحملت منذ عرف المغرب أول عهده بالسيارات والناقلات والشاحنات مرور الملايين منها فوقها بدون ترميم، أو تجديد، أو إصلاح.. حتى تداركتها عناية الحسن الثاني رحمه الله الذي أمر بالحفاظ عليها ومنع مرور الآليات فوقها، وإعادة ترميم كل خلل فيها، وتهيئتها بجعل محيطها آية في جمال الطبيعة والمعمار لتصبح قبلة لمن يبحث عن تاريخ حضارة المغرب في علم هندسة القناطر، ويقام على ضفتها منطقة استراحة ثقافية بوسائل سمعية بصرية، وصور لمآثر مدينة مراكش، مع استراحة عبارة عن فضاء مطل على جسر النهر، وعلى واحة النخيل من جهتيها الشرقية والغربية، لكن الفساد الذي يعشعش في الإدارة المحلية أعطت تلك الأرض المكونة لفضاء القنطرة كما أراده البناة الأولون إقطاعا، أو كراء، أو تمليكا، أو هبة لمن شيدوا مسبحا ومقصفا ليليا يتنافى وجوده مع وجود معلمة تاريخية من هذا الحجم، ليس هذا شيء يخص المغرب، ولكن في كل دول العالم التي تحترم مآثرها التاريخية وتجعل من السياحة الثقافية رافدا أساسيا وبارزا في مخططاتها السياحية .

مآسي القنطرة الجديدة

و لتحقيق هذا المشروع الحضاري وإبراز قيمة هذه القنطرة التاريخية بعد تحصينها من جميع جهاتها ومحيطها ومنع المرور فوقها، تقرر إنشاء قنطرة بديلة غير بعيدة عنها على نهر تانسيفت، تخلد أصالة وحضارة مراكش في العصر الحديث بعبقرية جديدة متفتحة جديرة بالقرن العشرين، تضاهي بل تنافس ما خلفه المغاربة الأقدمون منذ عشرة قرون، لكن بكل أسف وفي ظروف صفقة مشبوهة، وعمل غير مراقب، بنيت قنطرة غير جديرة هندسيا ومعماريا أن تكون مدخلا لمراكش، فبالأحرى أن تضاهي مثيلتها قبل قرون، والأفدح من ذلك أن القنطرة الجديدة لم تصمد إلا بضع سنوات حيث كادت تنهار، فتقرر بناء قنطرة جديدة موازية لها، شبيهة بها في البشاعة لتخفيف الضغط على أختها التي بنيت حديثا والتي أصبحت آيلة للسقوط . ومن الشائع اليوم والمتداول لدى كل من له اهتمام بمراكش وحضارتها، بل في كل الأوساط المهتمة، أن الذي خطط، وبنى، وراقب نفسه، ونزلت عليه الصفقة .. كان محميا بحيث لم تصمد لا القنطرة الأولى، ولا الثانية، عند ارتفاع كميات ماء نهر تانسيفت، وقوتها التي يعرفها مجرى النهر عندما يكون محملا بملايين الأمتار المكعبة من الماء، والتي بكل يقين لا تخفى على المسئولين عن تدبير الشأن المائي بالمنطقة الكمية المهولة لتلك المياه التي تتدفق تحت الجسر التاريخي، والذي بدون تشييد مثيلة لها أو تفوقها بما وصل إليه العلم الحديث في تشييد القناطر فإن أي إنشاء آخر سيكون معرضا لخطر الانهيار، ولإخفاء هذه الحقيقة وتحت أنظار أعين المسئولين الرئيسين في المدينة والجهة، أو في غيابهم التام، أو بتواطئهم، أو بجهلهم بأهمية المنطقة، أوتنفيذا لتعليمات، وجدوا الحل السهل القاتل للحضارة في إغلاق بعض منافذ القنطرة التاريخية من اليمين ومن اليسار حتى ينهمر الماء فقط من البوابات الوسطى ليبقى الماء محصورا فيما تستطيع القنطرة المشيدة حديثا استيعابه من مياه الفيض الغامرة!!، وهذه التصرفات التي لا يقرها علم ولا ضمير ستؤدي حتما مع مرور الزمان الى تهدم القنطرة التاريخية لا قدر الله بتوالي تدفق الماء من وسطها، وحبسه من جوانبها التي يكاد الردم أن يجعلها أثرا بعد عين، خرقا لكل القوانين الهندسية المائية، إن الصور المرعبة المصحوبة بهذه المقالة تفضح ما وصل إليه الأمر وتستدعي توقيف هذه الهجمة الهمجية على معلمة تاريخية تنبئنا عما وصل إليه العقل المغربي في زمان مضى، من تقدم علمي مدهش في تشييد القناطر التي لا يعتريها بلاء، ولتصور تقريبي لما آلت إليه الأمور نشير إلى أن إدارة الأمن بمدينة مراكش وهي تلاحظ بالعين الفاحصة مرور عشرة آلاف السيارات والشاحنات فوق القنطرة الجديدة قررت بصفة استباقية وحس أمني نقل السد الأمني من فوق القنطرة المحدثة إلى ما بعدها لتجنب كل الأخطار، والوقاية من كل مكروه، وخوفا مما لا تحمد عقباه، وحسنا فعلت.

الجزء 2

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *