وجهة نظر

المدرسة العمومية: اختلالات وأزمة بنيوية في المنظومة التربوية

برز على السطح في الآونة الأخيرة، عقب الجدل الذي تسبب فيه المجلس الأعلى للتربية والتكوين حول إلغاء مجانية التعليم، الحديث من جديد عن المدرسة العمومية، وهو القرار الذي دفع بالعديد من المواطنين للخروج إلى الشارع من أجل تنظيم وقفات ومسيرات احتجاجية، كان آخرها المسيرة التي نظمت الأحد 25 دجنبر 2016 بمدينة الرباط، بما يوحي بأن حل أزمة المدرسة العمومية مرتبط بإلغاء مجانية التعليم، في حين أن الأزمة لها أسباب ومسببات وخلفيات أخرى تعود جذورها إلى مطلع السبعينيات من القرن الماضي.

يعتبر قطاع التربية والتعليم بمختلف أسلاكه ومستوياته ومجالاته، من أكثر القطاعات التي تتخبط في مشاكل كثيرة ومزمنة، فهو القطاع الوحيد الذي لم يراوح مكانه منذ سنوات خلت على الرغم من ذلك العدد الهائل من الندوات والمناظرات والمؤتمرات واللقاءات التي نظمت داخل المغرب وخارجه من أجل إصلاحه، وقد جربت الحكومات المتعاقبة في ظل هذه الأزمة المركبة الكثير من الحلول الترقيعية، أغلبها كان عبارة عن محاولات متسرعة تحكمها هواجس وخلفيات سياسية أكثر مما تحكمها هواجس الإرادة والجدية والمسؤولية، وقد تناولت تقارير وطنية ودولية هذه الأزمة ووقفت على بعض من جوانبها الخطيرة، وهو الشيء الذي جعل المغرب يحتل مراتب متأخرة على مستوى الترتيب العالمي إلى جانب دول جنوب الصحراء ودول تعيش حروبا أهلية.

أصل الأزمة

تعود البدايات الأولى للنقاش حول إصلاح قطاع التربية والتعليم إلى مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وقد كانت حينها انشغالات القائمين على الإصلاح، انشغالات مادية صرفة ترمي إلى تقليص ميزانية القطاع التعليمي، إذ أن المغرب في تلك الفترة تفاقمت أوضاعه الاقتصادية بشكل مخيف، بحيث انتقلت المديوينية الخارجية من 900 مليون دولار سنة 1972 إلى 12 مليار دولار سنة 1983، مما جعل البلاد توقع اتفاقيتين مع صندوق النقد الدولي، الأولى في أكتوبر من سنة 1980 والثانية في نفس الشهر من السنة الموالية، نتج عنهما التوقيع على اتفاقية ثالثة تتعلق هذه المرة بجدولة الديون مع نادي باريس سنة 1983، وهي الاتفاقية التي بموجبها دخل المغرب ما يعرف بـ”سياسة التقويم الهيكلي” التي ستؤثر في وقت لاحق بشكل أو بآخر على جميع الإصلاحات التي شهدها المغرب سواء على مستوى هذا القطاع أو في غيره، إذ تبين أن سياسة خدمة الدين الخارجي أدت إلى مضاعفات كارثية حيث تم ضخ ثروات هائلة استفادت منها مجوعة من اللوبيات المتنفذة.

ويأتي قطاع التعليم على رأس القطاعات المتضررة والمستهدفة باعتباره قطاعا غير منتج، لهذا ستعمل تلك اللوبيات المتنفذة على الإجهاز عليه تحت غطاء الأزمة التعليمية وضرورة الإصلاح، وفي هذا الصدد سيتم توجيه رسالة ملكية إلى مجلس النواب بتاريخ 16 يونيو 1994 والتي دعت إلى ضرورة الحوار والتشاور بشأن القضايا التعليمية، والدعوة إلى تكوين لجنة موسعة تتكون من أعضاء من مجلس النواب، وممثلي المؤسسات التعليمية والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والنقابية، وبالفعل تكونت هذه اللجنة ونظمت سلسلة من الجلسات خلال الفترة الممتدة من 5 ماي 1995 إلى 9 يونيو من نفس السنة، واستطاعت إنجاز تقرير مفصل في 25 يونيو 1995 يعرف بوثيقة المبادئ الأساسية.

ومما جاء في هذه الوثيقة أن موضوع التربية والتعليم يكتسي “في عصرنا الحاضر أهمية استراتيجية بل ومصيرية في تاريخ الشعوب والدول، وهو يعتبر قضية وطنية تهم الجميع مما يحتم الحوار والتوافق عليها من خلال مؤسسات قارة ودستورية وقانونية”، مؤكدة على أن التعليم حق من حقوق الإنسان، وشرط أساسي لتحقيق الديمقراطية والمواطنة تقول في هذا الصدد “يتعين أن يأخذ النظام التعليمي بعين الاعتبار البعد الكوني للتعليم كحق دستوري، وكحق من حقوق الإنسان، وشرط أساسي لتكريس الديمقراطية، وتنمية التربية بروح المساواة، ولزرع القيم التي تؤسس لمجتمع منفتح وديمقراطي للمساهمة في إعداد الفرد للحياة وتوعيته بحقوقه وواجباته وترسيخ روح الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان”. 

إصلاحات قاصرة

خضع قطاع التربية والتعليم في المغرب لعدة إصلاحات، بحيث قامت الحكومات المتعاقبة عبر مجموعة من اللجان على النظر في قضايا وشؤون التربية والتعليم، وأصدرت في هذا الإطار عددا من القرارات التي ستكون لها آثارا سلبية وجد وخيمة على هذا القطاع.

وما يميز هذه القرارت الاستصلاحية أنها تتعامل جميعها بشكل تقني مع أزمة التعليم، وتفتقر إلى تصور شامل يضع النظام واختياراته تحت المجهر، ويحدد الأسباب الحقيقية لهذه الأزمة، ويميزها أيضا انفراد الدولة باتخاذ قرارات مصيرية، وتهميش بالمقابل قوى المجتمع المدني ومختلف المؤسسات والهيئات التي لها علاقة بقطاع التعليم، وأيضا هيمنة الشعارات الإنشائية، إذ أن كل إصلاح يغرق في تفاصيل جزئية شكلية، ويتجنب التطرق للنقط الأساسية، زد على ذلك أن كل هذه الإصلاحات التي تأتي لمعالجة أزمة التعليم تنتهي بفشل ذريع يؤدي إلى تأزيم الوضع بشكل أكبر من السابق، ناهيك على أن الخطاب الحكومي ظل في كل المنسبات يتعامل مع أزمة التعليم مع أزمة المدرسة العمومية بمعزل عن بقية القطاعات، مما يوحي أن الأزمة تهم هذا القطاع فقط في حين أنها أزمة شاملة تهم جميع القطاعات.

ضرب المكتسبات

ويعتبر البرنامج الاستعجالي للتربية والتكوين 2009-2012 من أهم القرارت الاستصلاحية التي أصدرتها الأجهزة الحكومية، ويتضمن هذا البرنامج العديد من الشعارات والمفاهيم مثل “تأهيل المؤسسات – الجودة –محاربة الهدر – المقاربة بالمشروع – الكفايات…” ويركز على جوانب تقنية ويطرح العديد من الأهداف والمهام التي يصعب تحقيقها، ولعل المتأمل لهذه المشاريع سيتوصل إلى أن البرنامج مثله مثل ميثاق التربية والتكوين يسير في اتجاه تطبيق توصيات البنك الدولي التي تسعى إلى التخلي على العديد من المكتسبات التي حققها المغاربة منذ الاستقلال إلى الآن بحيث نجد، أن البرنامج يعمل على تشجيع القطاع الخاص في العديد من الفقرات، إذ تتم الإشارة إلى الدور الريادي والمهم الذي يجب أن يضطلع به القطاع الخاص، بل هناك العديد من التنازلات الجديدة لصالح هذا القطاع وذلك بـ: “إقرار تدابير تحفيزية تمكن من تسهيل استثمار الخواص في قطاع التعليم… تفويض تدبير مؤسسات عمومية قائمة… تطوير نموذج جديد ومتكامل للعرض التربوي الخاص… تنظيم تكوين أساسي ومستمر لفائدة مدرسي التعليم الخصوصي وتدعيم جهاز تفتيش المؤسسات الخصوصية…”كما يسعى البرنامج على الإجهاز على مجانية التعليم، بحيث يسير بخطى حثيثة نحو إلغاء المجانية بالكامل والتوجه نحو تسليع التعليم ويتجلى هذا في مجموعة من النقط منها، تنصل الدولة من ضمان حق التمدرس بعد 15 سنة، تخليها عن التعليم الأولي لفائدة الخواص، عدم تحمل الدولة لمسؤوليتها بشكل واضح في تمويل التعليم، فداخل البرنامج الاستعجالي العديد من الصيغ التمويهية والمتضاربة تبين بجلاء رغبة الدولة في التخلي التدريجي عن تمويل التعليم، من مثل “يتعين كذلك إحداث صندوق خاص بالتعليم تتم تغذيته عن طريق مساهمات مختلف شركاء المنظومة.. اللجوء إلى مكونات المجتمع عبر إحداث صندوق الدعم، تشجيع تنمية العرض التربوي الخصوصي”.

مراتب متدنية

لقد أدت الأزمة البنيوية التي يعاني منها قطاع التربية والتعليم من هذر مدرسي واكتظاظ وحرمان عدد كبير من الأطفال وبصفة خاصة في البوادي من الحصول على مقعد في الفصل إلى غير ذلك..، إلى وضع المغرب في مراتب متدنية إلى جانب دول تعاني من الحروب الأهلية والفقر المذقع، وفي هذا الإطار لم يفلح التلاميذ المغاربة في إحراز تقدم أفضل في التصنيف العالمي في الرياضيات والعلوم، وفقا لأكبر تصنيف عالمي حول ”الاتجاهات الدولية في دراسة العلوم والرياضيات” الذي تجريه جامعة بوستون الأمريكية كل سنة، بل إن المتتبع لنتائج هذا التصنيف الذي تجريه الجامعة المذكورة يؤكد أن التلاميذ المغاربة في تراجع مستمر سنة بعد أخرى.

ويرجع متتبعون هذا التراجع إلى تدهور المنظومة التعليمية ككل، والتي يتأكد يوما بعد يوم أنها بحاجة إلى مراجعة جذرية، رافضين التشكيك في التصنيفات والتقارير الدولية التي تصدر، إذ أن هذا التصنيف يعتبر أحد طرق التقييم الأكثر تأثيرا على مستوى العالم، وتفوق الدول التي تشارك فيها 60 دولة، بينما يزيد عدد الطلاب المشاركين على 425 ألف طالب وطالبة يتم تقييم أدائهم، ومن التقارير أيضا التي عرت على عيوب نظامنا التعليمي، تقرير البنك الدولي الذي كشف مجموعة من التجاوزات والاختلالات التي تعاني منها المنظومة التربوية.

إن مشكلة التعليم، حسب عدد من المهتمين والمتتبعين لمسيرة الإصلاح، لا يمكن معالجتها بمعزل عن باقي المجالات الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ لا بد لهذا العلاج من أن يكون مندرجا ضمن خطة شاملة وواقعية ومتكاملة.. في إطارها الطبيعي، لتكون المدرسة في قلب المجتمع، والمجتمع في خدمة المدرسة، وبالتالي يمكن للمدرسة أن تؤدي وظيفتها التربوية.