وجهة نظر

التكوين كمدخل إلى التجديد التربوي

تقديم

يعطي القانون الإطار 51.17 مكانة جوهرية لتكوين المدرس وكل ما ومن له صلة بالتربية والتعليم والبحث العلمي. البحث عن مدرسة جديدة، ترسخ القيم، وتبني شخصية المتعلم، وتجعله مبدعا في تعلمه ومنفعلا وفاعلا في محيطه وحياته ككل، الخ، يمر بالضرورة عبر التكوين الأساس والمستمر والتجديد بهما وفيهما.

من الصعب السير في مسلك هذه العولمة دون الرهان على الفعل التعليمي والتربوي والبحثي العلمي والتكويني، الخ. نعيش عولمة لا ترحم، ويبحث من يقودها ويصنع وقائعها، أن تبقى الدول الصغيرة أو النامية، تحت عتبة الفقر والجهل والأمية والتطاحنات الدينية والطائفية والعرقية (صنع الإلهاء). لكن، إن وجدت من يدرك سر النهضة والتقدم، وعرف المنعرجات التي عليه أن يسلكها وبحكمة وتبصر ورزانة، فإنه سينفلت من قبضة التخلف، وسيصنع لنفسه مكانة بين أمم هذه العولمة. يكفي أن أستحضر، هنا، بعض التجارب التي كان عنوان تقدمها البارز، هو التعليم والتربية والبحث العلمي. أذكر بتجربة اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، الخ. لنقرأ التاريخ، كيف كان ماضي هذه الدول، وأين هي اليوم، بفضل إيمانها بكون التعليم، مقدمة كل نهضة حقيقية.

التكوين طول الحياة

تكوين المدرس الأساس الذي يخضع له بعد تمكنه من النجاح في مباراة ولوج المراكز المختصة في تكوين المدرسين، وجعله يبقى على صلة دائمة بطرق تطوير مهنته في أفق تحقيق مهننة نوعية والانفتاح على ما جادت به العلوم الإنسانية وكيفية ربط التعلمات بحاجيات المتعلم المتجددة مع التركيز على تربيته على القيم المنشودة الواردة في القانون الإطار المشار إليه، سابقا، وتكسير الحدود الفاصلة بين المعارف، الخ، هو في اعتقادي المتواضع، العنوان البارز الذي علينا الاشتغال عليه وبشكل دائم. كل هذا من الممكن عنونته أيضا بقيم القيم، (أي كيف من الممكن تكويم مدرس قادر على ترسيخ القيم لدى المتعلم).

هل يعقل أن يدرس مدرس ما يقرب من أربعين سنة، دون أن نجد في ملفه الإداري مجموعة من الشواهد الإدارية التي تؤكد أنه مر من تكوينات تربوية وعلمية وفنية ولغوية، الخ، متعددة؟. لازلت أستحضر صورة أحد المدرسين وقد كان على أبواب التقاعد، حينما كان ضمن مجموعة كونتها في مجال بيداغوجيا الإدماج، وقد أحب هذا التكوين، وفي نهايته، اقترب مني وهمس في أذني، قائلا:

-علاش هد التكوين ما درتوهش لينا هدي سنين. أنا باقي لي ربع شهور ونخرج تقاعد.

تألم المسكين وتأكد بعد أن تمكن من معرفة أساليب التقويم الجديدة وفق بيداغوجيا الإدماج، أنه كان خارج السرب وكان غير مدرك لقيمة وماهية ووظائف التقويم، وكم من تلميذ كان ضحية تقويمه غير المنصف وغير المحفز على التعلم. هذه الواقعة، لا زالت ترخي بظلالها علي، وكلما كلفت بتدريس وتكوين الطلبة الأساتذة في مجزوءة التقويم، ضمن ما أدرس وأكون فيه الطلبة الأساتذة، أستحضر لهم هذه الواقعة ضمن كواليس التكوين والتدريس. 

وفق ماسبق، يتضح لنا البعد القيمي والعلمي والإنساني للتكوين المستمر. فرص عديدة تضيع من أيدينا والمدرس يتقاعد دون جعله يخضع لتكوين مستمر دائم وعلى مدار حياته المهنية. فبمثل هذا التكوين المستمر، تتجدد “خلايا” المدرس التربوية وتجعله يجدد أدوات عمله ويطور كافة علاقاته التواصلية مع زملائه ومع محيطه. يكفي والمدرس يشتغل ضمن ورشة ومع وجوه جديدة لم يسبق له أن تعرف عليهم، سيجد نفسه هنا أمام وضعية إنسانية ووجدانية بامتياز. وضعية تجعلنا نتقاسم “هموم” المهنة وألا تبقى لقاءاتنا منحصرة فقط في هموم مادية محضة.  فطبيعة المهنة مقرونة- ومهما كانت مداخيلنا- بتوفير سبل العيش لا غير. ومن يعتقد أنه بمهنة التدريس، سيدخل نادي الأغنياء، وسيقضي عطلته السنوية على ضفاف بحور أوربية أو عربية أو أسيوية،  وفي فنادق يرتادها نجوم كرة القدم ومشاهير الطرب والسياسة ورجال المال والأعمال، فهو واهم (مظهر مرغوب فيه من لدن عولمتنا هاته). إنها مهنة النبل والإنسانيات وصنع العقول والقلوب وخلق ثروة  رمزية إنسانية، لها قيمة لا تنمحي، بينما المال، ومهما راكمناه فهو زائل، في حين علينا الاعتزاز بذلك الرأسمال الذي راكمناه من خلال علاقات تربوية وثقافية وإنسانية تتجاوز “سلطة” المال وتبقى محفورة في الإنسان وإلى الأبد.

صحيح، فالمدرس له حاجياته الدنيوية، وله الحق في مطالبة تحسين ظروفه، لكن، أكرر مرة أخرى أنه واهم من يعتقد أنه سيجمع ثروة بوظيفته المحدودة هاته. فإن كان من هواة جمع الثروة فما عليه إلا اقتحام فضاء التجارة/ المال، حيث امكانات الربح غير محدودة. لكن مهنة التدريس هي مهنة أكثر من هذا في اعتقادي المتواضع، أي مهنة  الخلود الوجداني. يكفي أن بعد كل صلاة جماعة، يرفع الناس أكف الضراعة سائلين المولى أن يرحم من علمنا. ويكفي رمزية المدرس في متون دينية مقدسة عديدة. ويكفي القول أيضا، إن صورة المدرس تظل تصاحبنا مدى الحياة، وحتى والشيب يغزو رؤوسنا، بينما ننسى أسماء آخرين مروا في حياتنا هاته.

تجديد التكوين الأساس، وجعل التكوين المستمر حاضرا طيلة حياة المدرس والإداري التربوي وكل من له صلة بسؤال التربية والتكوين والبحث بما في ذلك أسرة المتعلم والجمعيات المدنية ذات الصلة بالموضوع… كل هذا من شأنه أن يساعدنا على ربح رهانه في ظل قانون إطار يلزم الجميع اليوم بأجرأته وجعله مصدر كل التشريعات التربوية الجديدة، بل كل هذا من الممكن أن يساعدنا على القبض على شكل من أشكال تجديد الفعل التربوي الذي هو اليوم حاجة وضرورة في زمن تكنولوجي متغير.

تشخيص حاجيات المدرس وجعله يبوح بما ينقصه وطبيعة المشاكل التي تواجهه، وموقعته وبشكل مفصل في لب القانون الإطار الذي هو ملزم اليوم للجميع،الخ، مدخل مهم لترسيخ قيمة القيم المبحوث عنها وعلى امتداد صفحات  هذا القانون الإطار رقم 51.17 ، لاسيما في عالم متحول ويعيش اليوم أوضاعا وبائية، الله وحده، يعلم طبيعتها وما تخفيه للإنسانية جمعاء. هذا التكوين المستمر من الممكن اليوم أن يتكيف مع طبيعة الجائحة ويأخذ أشكالا متعددة، بما فيه توظيف التكنولجيات الرقمية والتواصلية، لتيسير هذ التكوين وجعل المدرس يستفيد منه ومن مواقع متعددة. أقصد هنا التكوين المستمر عن بعد بجانب التكوين الحضوري الذي يظل هو الأهم. فما المانع من تصوير حلقات لبثها كما نفعل مع دروس المتعلمين وفي قنواتنا التلفزي العمومية. أوليست هذه أيضا خدمة عمومية مفيدة للمدرس الذي عبره يمر تعلم المتعلم؟. جميل أن نفكر في تصوير دروس للمتعلم والأجمل أيضا أن نبث دروسا تكوينية تتعلق بكيفية تعليم تعلم المتعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *