مجتمع

نوابغ مغربية: المهدي بن الحجوي الثعالبي.. الفقيه المتنور الذي انتصر للمرأة

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة 39: المهدي بن الحجوي الثعالبي.. الفقيه الـمتنوِّر الذي انتصر للمرأة وللجوانب المشرِقة في الشّريعة الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

اتّــخَذ الآباء الأوائل لآل الحجوي الثعالبي مدينة تازة مستقَرّا لهم منذ اختيارهم المغرب على عهد السلطان إسماعيل العلوي، ويَرجعون بأصولهم إلى آل طالبٍ من بيت النبوّة، ظلوا متنقِّلين بين الحجاز ومصر وإفريقيةَ ثم المغرب، فيما رأى الباحث عبد الإله الفاسي أنّ للحَجْـوِيِّينَ فرع آخَر في الأندلس، اختاروا بعد دخولهم المغرب الاستقرار في مدينة الرباط. 

في مراحل لاحقة؛ انتقلَ الأبناء والأخلاف إلى مدينة فاس، فاتّخذوها مُستقَرًّا جديدا لهم، واحتضنت المدينة العالِـمة رموزا بارزة في العلم والسياسة والثقافة من أصْلاب هذه العائلة، لعلّ أشهرَهُم على الإطلاق العلامة محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، الوزير والفقيه وطليعة النخبة العُلَمَائية في مغرب القرن العشرين. 

غير أننا سنُفرد هذه الترجمة والسيرة لعلَم آخر من أعلام الأسرة الـحجْوية، ونابغة رَفَع هامَة عائلته ومدينتِه عاليا، رغم قِلّةِ الْتفات الأجيال إلى إرْثه وأدَبه ووافر علمه، إنّه العلامة الأريب الأديب الـمتقحّم مغاليق العلوم، الفقيه المهدي الحجوي الثّعالبي، الفاسي مولداً بتاريخ 4 شتنبر سنة 1904، وَسْط عائلة تُقَدِّر العلم وتَعرف حُرمة العلماء وترتبط بالإسلام والوطن على بصيرة، وفي جوٍّ يَسوده التآخي بين الإخوة، والاحترام بين الكبار والصغار، والقُرب من دوائر الـحُكم ودار المخزن.

ومع انشغالِ والده العلّامة المجتهد والمثقف الكبير محمد الحجوي بالوظائف العلمية العالية والمخزنية السامية؛ إلا أنه لم يَغفُل عن تربية ابنه النّجيب المهدي، ولا تَبَاطَأ في التّفرغ له لتعليمه العلوم والأدب كلما سَنحت أوقاتٌ من الزمن المليء للشيخ الثعالبي. كما كان دائمَ الحرص على إرسال الأساتذة والفقهاء إلى منزلِه الفسيح لتعليم ولده المهدي وتفقيهِهِ، وهكذا؛ فما إن يَــفِعَ حتى أتَـمَّ حِفْظ كتاب الله، وتعلَّمَ العربية وأتقَنَ علومَها.

سنةً واحدة قبْل إخماد نار الحرب العالمية الأولى؛ كان التلميذ المهدي بن الحجوي يَلج مدرسة الأعيان بعُدوة الأندلس في فاس، فتفتَّـقَت قدراته عن مهارات عالية في الفهم والحفظ والاكتساب، إلى أنْ انتقل للصف الثانوي، فالـجامعي بالعاصمة الرباط، ونال شهادة الترجمة من معهد الدراسات العليا في العاصمة المغربية. 

اهتمَّ والدُه كثيرا بمسألة تعزيز معارف ابنِه في الآداب العربية والعالمية، وفي إتقان اللغة الفرنسية، وفي الانفتاح على كتابات الفقهاء المشارقة والمغاربة، فكان يُصِرّ على جَعْل عُطَل الصيف طيلة مسيرة المهدي الدراسية فرصةً استثنائيةً لتكوينه وتعليمه وترصيد مكتسباته، وقَرَن ذلك بتمتيــعه ببعض السّفريات إلى مدن مغربية ليُكسبه مهارات في فن الحياة، ويُعرّفه على كبار الشّخصيات العلمية والمخزنية في البلاد. وهكذا؛ سَافر معه إلى الجزائر وجَبل طارق وإسبانيا وفرنسا وألمانيا، وأبحَر إلى إنجلترا، فكانت لتلكم الرّحلات أدوارٌ هامة في صقل شخصية المهدي الثعالبي وتكوينه وتأهيله وتنوُّرُ ذهنيتِه. 

وبَعد مسارٍ طويل من التعلُّم والتفقّه واكتسابِ الخبرات؛ انكبَّ الأديب الفقيه المهدي على قراءة الأعمال العلمية باللغات الأجنبية، وتمحيص التراث الفقهي والتشريعي والقانوني في الحضارة الإسلامية، إلى جانِب قيامه بتَوَلِّي بعض الوظائف في مغرب الحماية، كاتِبا بالمحكمة العليا بالرباط، ثمَّ باشا على مدينة وجدة الحدودية، مدة ناهزت 17 سنة. 

والغريب المثير في مسيرة هذا الرجل المهنية؛ أنَّ حكومة المغرب لما بعد الاستقلال، أصدرت يوم 2 شتنبر 1957 لائحة الأشخاص المشمولين بقرار الحرمان من التصرُّف في الأملاك الشخصية، وَوَرَدَ اسم السيد المهدي الحجوي فيها، باعتباره كان “متعاونا مع الاستعمار” حسبما أوْرَدت موسوعة “معلمة المغرب” في الصفحة 3339، نقلاً عن إحدى الأعداد الصّادرة عن جريدة “العلَم” لسنة 1957 !

سُـمعة الرجل العلمية وثقافته الواسعة مكّنتَاهُ مِن إقامة شبكة علاقات مهمة مع كبار الفقهاء والعلماء في المشرق والمغرب، كسماحة الشيخ حسين محمد مخلوف والإمام مصطفى عبد الرازق والمؤرخ عبد الرحمن بن زيدان، وشيخ الإسلام محمد بالعربي العلوي، ناهيك عمّا كان يجلُبُه له نَسَبه من سُمعةٍ واحترامٍ بين الأقران والشخصيات المخزنية، فأشاذ به حُذّاق العلماء، ووصفه المؤرِّخ ابن زيدان بــ”النّابغة الـمهذَّب، الكاتب المجيد..حَرَس الله بَدْر نجابته من الأفول”. وأُعجِبوا بما كان يَصدر في كتاباته عن رأي ثاقبٍ ومعارف غزيرة تَـجعل كتاباته جَزِلَةً غنيةً مُصاغَةً بــ”أسلوب رشيق رائق ملائم لروح العصر وذَوْقِ نُبلاء بَــنِــيـهِ” على حد تعبير المؤرخ الكبير عبد الرحمن بن زيدان

أشْغَل المهدي الثعالبي عقْلَه ووقْـتَه بأمّهات القضايا في زَمَنه، ودعا إلى ضرورة تعليم المغاربة ومحاربة الأمية من صفوفِهِم، وشَنّع على مظاهر التّخلف وظُلم المرأة ووضعيتها الدونية في المجتمع، وعرَّف بمصادِر المعرفة الشرعية والأدبية والفكرية في تاريخ المغرب، وترجْم لروّادٍ كبار، وساهم في التأطير الديني للمغاربة عَبْر أثير الإذاعات الوطنية. وكان مسكونا بمضامين النّهضة والإصلاح والتّجديد، ويُطالب بالإصلاحات السياسية والدستورية، ويُناشد الشبابَ المسارعةَ للتّـثـقُّـف والتّعلم واستعادة مجد الحضارة العربية الزّهية. 

تُعبِّر عن ذلكَ قصائده الرائقة، ومنها قوله: 

  • إلى متى نترك التـعليم مـهجـــــــــــــــــــــــــورا  

        ونحسب العلم في الإفــــرنج محصــورا 

  • هُبّـوا إلى المجـــد يـــا أبناء مَــن رفَــــــعوا

        للمجد صَـــرحا بِعلم ٍكان مــنشُـــــــورا 

  • خُذوا مِن العلم ما جَلَّت مقاصده

        أحْيُوا من العِزِّ ما قد بات مهجورا 

وكذلك أعماله العِلمية الـجيّدة، والنافعة، كــ: “المرأة بين الشَّرع والقانون”، الذي بَقي مقبورا بين أكداس المخطوطات زمنا طويلا، إلى أن حُقِّقَ ونُشِر. وقد كان العلّامة المهدي أوَّل العلماء المغاربة المعاصِرين الذي طَرق هذا الموضوع، بل ذهب الشيخ علي مصطفى عبد الرّازق إلى القول في الرسالة التّـقريظية التي بَعث بها إلى السيد المهدي الحجوي “..وكـنتُم فيما أظنّ مبتَكِر هذا الموضوع، وأول جامعٍ لأشتاته”، بما يفيد أسبقيته على مستوى العالمين العربي والإسلامي.

إنّ مؤلَّف “حقوق المرأة بين الشّرع والقانون” يُعدّ بحقٍّ في طَليعة النّصوص العربية الإسلامية التي انتصرت للجانب السَّمح في ديننا والــمنير في مسار حضارتنا فيما يخصّ التّعامل مع المرأة، ومكانتها وأدوارها. مؤلَّفٌ عظيمُ الفائدة، جاء في سياقٍ كانت تـجتازه الأمة المغربية برجالها ونسائها طافح بالصّعوبات والتخلُّف في السّلوك والمعاملات والانقمِاع تحت وطأة الاستعمار وثقاته الغازية الغاشمة، وتَطرَّق لموضوعٍ “لَـم تَعْـتَد طَرْقه الأقلام، ولا تَعَوّدت خَوْضه الأحلام” على حدِّ ما جاء في مقدِّمته بقلم كاتِبِه، ونُشِر في ظَرفيةِ الحرب العالمية الثانية، وتناول بالتّمحيص والنقد قضية المرأة في تاريخ الإنسانية وكونها من أخطر موضوعات البحث التي تناولتها الأقلام شرقا وغربا، وأَثَر الإسلام على قضية المرأة وما جاء به من جديد في تاريخ المدنيات والتشريع العائلي، وعالج مسألة حقّ المرأة السياسي والأقوال المختلفة بشأن حقِّها في الانتخاب وتَوَلِّي الولايات العامة ورئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، ولحقوقها المدنية (مسألة الرُّشد، مسألة الولاية في النكاح، تصرفات المرأة وتبرُّعاتها، توكيل المرأة، وَصِيّـتُـها وحضانتُها وشهادتُها..)، وأسْهَبَ في الحديث عن وظيفة المرأة وممارستها للمهن العمومية والحرة، وبَيَّنَ أسرارَ مسائل الطّلاق وتَعدّد الزّوجات والعِدَّة، وطالَبَ بحقّ المرأة في سياق سنوات 1938 – 1943 في دراسة الطّب والهندسة والتّدريس وحقّها في نشر العلم والإفتاء حتى، وخَصّ كِتابَهُ بِفَصْلٍ تَناول فيه اختلافَ علماء الاجتماع بشأن إعطاء الإسلام للمرأة حقوقها، وعَرض أقوالهم على “مبادئ النقد المنطقية” حسب تعبيره. وفي مسألة الإرث؛ عَبَّــرَ صراحة بقوله “إنَّ مَن تَطَلَّب لها [أيْ للمرأة المسلمة] من الحقوق أكثر مما أعطاها الإسلام؛ فقد شاء أنْ يَعكس القضايا، وأن يُحْدِثَ في المجتمع اضطرابا، وفي توازن العائلة اختلالا” ص: 299 من الكتاب الذي علّق عليه الدكتور حماد القباج، وأصدرته مؤسّسة مودّة للتنمية الأسرية ومؤسسة ابن تاشفين للدراسات والأبحاث والإبداع تحت عنوان “المرأة بين الشرع والقانون؛ دراسة وتعليق” في طبعة أنيقة، وقد كان طُبِع أواخر حياة المؤلِّف بمدينة الدار البيضاء (1967).

ثم عَطف الفقيه الحجوي على مناقشة أوضاع وقضايا المرأة في القانون المدني الفرنسي _ بعد أنْ ترجمه للعربية _، وكان الرجلُ مواكِبًا لجديد القوانين في هذا الباب، فنجده يُفرد الكِتابَ بملحَقٍ تَرجمَ فيه نَصَّ قانون 18 فبراير 1938 الفرنسي، وركّز أساسا على ما له صِلة بحقوق المرأة المتزوِّجة. 

لقد هدَف الفقيه المهدي الحجوي مِن كِـتابه الثَّرّ إلى أنْ يَـجعل أنصار قضية وجود حقوق للمرأة في التّشريع الإسلامي على بصيرة، وانتصَر للمرأة المسلمة، وللمرأة المغربية لانتمائها لنفس بيئته ووطنه وثقافته، انتصر لها مستنِداً على ترسانته الفقهية والشرعية المتينة، وثقافته الـمنفتِحة على التجارب الأممية، ولتربيته وأخْذِه عن والدِه قِيم وأخلاق الدين الحنيف ومروءة الرجال في تدبير المنازل وسياسة الأُسَر. 

ويحكي عن سيرة كتابه وظروف تأليفه؛ أنَّهُ سَلَّم نسخة أولية منه للعلامة المختار السوسي أثناء مقامهما بالمدينة المنورة في إطار الحج، ونسخة أخرى لوالده العلامة محمد الحجوي الذي صدَّرَ الكتابَ المذكور بتقريظٍ بليغٍ، ومما جاء فيه “وقد رأيتك تكتب كما يكتب أعلام العلم، ومدرسا عَلَمًا تُدَرِّسُ كما يُدَرِّسُ جهابذة المعرفة”. ويؤكّد المهدي الثعالبي في ختام كتابه المذكور أنَّه أطْلَعَ كثيرا مِن العلماء والمفكِّرين على نسخة من كتابه القيم. وهذا من دأبِ السلفِ من العلماء الراسخين المتواضِعين. 

وتتالت أعماله الأخرى شاهِدةً على ما له من سَعة عِلم، فكَتَب مؤلَّفه الهامّ “حياة الوزّان الفاسي وآثاره”، الذي أرّخ فيه وتَرجم لسيرة أبي علي الحسن الوزّان المشهور بـــ“ليون الإفريقي”، الرحالة والجغرافي والمؤرخ الكبير، فَعرَّفنا على أطوار حياة هذا النابغة، نشأته ودراسته ومَشْيَخته، ورحلاته، ومعارفه ومؤلَّفاته، وتأثيراته في النهضة الأوربية، وأفكاره العلمية والجغرافية أساساً. ثمّ ذكَر لنا في فصلٍ خاص سياق تأليف الوزّان لرائعته الخالِدة “وَصْفُ إفريقيا”، وشرَح بإسهابٍ مادّة الكتاب وأبوابه ومنهجه وخرائطه وإضافاته النوعية فيما يتلَّق بتقسيم المغرب ومُدنه وقراه والجغرافية الطبيعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية لإفريقيا وغيرها من موضوعات الكتاب القيِّم. 

وللمهدي إصدارين آخرين، منهما كتابه الأدبي الجميل “قصائد شعرية”، التي جَمعها مِن أصل ما كان يَنشره في أعداد جريدة السّعادة المشهورة. وكتاب “في الجغرافيا وأطوارها” الذي عَدَّته موسوعة “معلمة المغرب” مِن “الكُتب المفقودة” للكاتب.

فرحم الله علّامة البلادِ وفقيهِها المستنير، الذي توفّته المنية سنة 1969، بعد أنْ قضى ردحا من الدّهر يُنير عقول العامة وينافِس كبار الكُـتّاب والفقهاء والعلماء، ويُجسّد طموح الشخصية المغربية في ارتقاء علياء العلم ونَيْلِ شَرفهِ الأثيل. 

مصادر ومراجع:

* “موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب“، الجزء الثاني، المجلد الأول، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
* “المرأة بين الشّرع والقانون؛ دراسة وتعليق“، للعلامة المهدي بن الحجوي الثعالبي، تحقيق الأستاذ حماد القباج، منشورات مؤسسة مودة للتنمية الأسرية ومؤسسة ابن تاشفين للدراسات والأبحاث والإبداع، طبعة 2016.
* “معلمة المغرب“، مجموعة مؤلفين، مطابع سلا، 1989، صفحة 3338
* (الجراري) عبد الله بن العباس: “التأليف ونَهْضَته بالمغرب في القرن العشرين من 1900 إلى 1972“، جزآن، مكتبة المعارف للنشر التوزيع، منشورات النادي الجراري، الطبعة الأولى 1985، ص: 265.

* إعداد: عـدنان بـن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *