منتدى العمق

أطفال الوسط القروي: طفولة محرومة من فضاءات اللعب

تتعدد إشكاليات الطفولة في الوسط القروي، وتزيد أكثر، كلما كانوا أبناء فقراء، وتصل حياة عيش الطفولة لأقصى درجة البؤس، حينما تكون هذه الفئة من المجتمع، في آخر ترتيب الأولويات مؤسسات، وهيئات المجتمع؛  الذي من شأنه أن يساهم في تهييئ فضاءات خاصة للعب الأطفال، تراعي أبعادهم(هن) النفسية والعمرية للطفل…إلخ.

تحتل فئة الأطفال في المجتمعات المتحضرة، التي تعي جيدا فلسفة اللعب لدى الأطفال، أهمية كبرى يحسب لها حسابا خاصا؛ وهي في محل الصدر من السياسات والتدخلات المؤسساتية، حيث تجد مؤسسات وهيئات تدور كل أنشطتها وتدخلاتها حول فئة الأطفال، نجم عنها تحقيق مكتسبات مهمة من بينها تحقيق البنيات الضرورية التي من شأنها أن تدفع عجلة النمو الاجتماعي للطفل وتساهم في تنشئتهم الاجتماعية، كتحقيق فضاءات اللعب الرحبة للفئة الأطفال.

يؤكد علماء علم النفس، وعلم الاجتماع، على أهمية اللعب لدى الأطفال، بل أصبح أحد المقاربات في تحصيل المعارف والمهارات والكفايات الأساسية سواء التربوية أو غيرها، التي من شأنها أن تصقل شخصية الطفل، و تعزز اندماجه الاجتماعي. وعليه فأي استثمار في تهييئ بنية تحتية موجهة لفئة الأطفال، فهو استثمار في التنشئة الاجتماعية للمجتمع.

المعاناة، هي المعاناة الحقيقية التي يعيشها أبناء الفقراء في الوسط القروي، فمن نقص الغذاء (خبز واتاي)، إلى نقص في ملابس (الملابس المستعملة)، وأدوات الدراسة(مقلمة خاوية)، وأدوات اللعب (تجد طفلا ليس عنده لعبة واحدة في خزانته) إلى نقص في فضاءات اللعب.

يعلم كل الملاحظين لوضع الطفولة في المجال القروي، عن مظاهر الفقر والحيف الذي يلقى هذه الفئة من المجتمع، فأبناء الفقراء اقتناء دراجة حلم عندهم، وتلذذ بحلوة “شكلاطة” حلم ثاني… أما شراء بعض الأجهزة الإلكترونية المخصصة لهذه الفئة فهذا بعيد المنال.

حينما يبلغ الطفل في القرية/الدوار سن التمدرس، تسجله أسرته في المدرسة؛ ذلك الفضاء الذي يقدم التربية والتعليم، وفي المدارس الحديثة يقدم خدمات موازية ناعمة تحقق كفايات سوسيوتربوية تخدم الطفل على مدى القريب والبعيد. يجد أطفال الوسط القروي في المدرسة فضاء الأقران. لكن، فور خروجهم منها، يرتمون في عالم “الكبار”، حيث العقل الإجتماعي القروي الذي يسطو على الأذهان، يعتبرهم “كبارا”. واللغة المستعملة معهم هي لغة خشنة، يعبر عنها القول الدارج “سير تلعب” مع النبر. أين سيلعب هؤلاء الأطفال؟ والوسط  ليس فيه مؤسسة أو شبه مؤسسة خاصة أو عامة مخصصة كفضاء للعب! كل ما يجده الأطفال في بعض الدواوير ، سوى مطاريح النفايات للعب فيها، أو الشارع الذي يضيق عليهم من كل الجهات: مساحة ضيقة، النهر والسب من قبل ساكنة الحي، الطريق مملؤة بالمارة…إلخ.

الطفولة في بعض الوحدات القروية، هي إن جاز التعبير؛ مسجونة في سجن كبير، محاطة بجدران اللامبالاة، والقمع، وقلة الفضاءات، والتعامل معها بأنها فئة راشدة…إلخ.

تضيع سنوات الطفولة جيلا بعد جيل في دهاليز الحياة الصعبة ما ينعكس على الشخصية والثقافة مستقبلا. ففي بعض الدواوير، لا يمكن أن يلعب الأطفال دون تعرضهم لجملة من المضايقات والأخطار؛ حين يلتقي الأطفال من أجل لعب الجري(حيدا ميدا)، على شارعهم، لا تكون دون عوائق، حيث المجال العام في الشارع السلطة؛ أولا وأخيرا للكبار(مالين العقل)، والأطفال في غمار الجري، يتلقون كل المضايقات والعوائق ما ينكد عليهم صباحهم(هن) أو مساءهم(هن). وحينما يحاصرون من كل الجهات، يجدون “المكان” الذي من شأنه ألا يزاحمهم الكبار فيه؛ مطارح النفايات، الأماكن التي تشكل أكبر خطر على حياة الأطفال بيولوجيا ونفسيا وثقافيا…، حيث يصبحون بنك أهداف للسع البعوض والحشرات، وتعرضهم للجراثيم الخطيرة..إلخ. هذا واقع وليست رواية خيالية.

في أحد الوضعيات، بالمجال القروي، يضم أحد الدواوير أكثر من 300 طفل، تقدر أعمارهم بين 5- 12 سنة، كلها محرومة، من فضاءات اللعب التي من شأنها أن ترفه عليها، وتنمي لديها الدوق السليم، وتخرجها من العزلة الاجتماعية التي يفرضها مجتمع الكبار على مجتمع الصغار. المحظوظون من هؤلاء الأطفال هم من ينتمون إلى أسر ميسرة(قلة قليلة)، أحيانا تجعل لي أبنائها يوما من أيامها لترفيه؛ في أحد المقاهي التي تقع خارج مجال الدوار، والمتوفرة على فضاءات اللعب.

أما الباقي، فهم محاصرون في واقع يعبر عن التخلف، يمكن، لو تظافرت الجهود بين المؤسسات وهيئات المجتمع المدني، أن تغيره للأحسن، بمساهمات جزء منها أفكر، والجزء الثاني مادي، يمكن لهذا التضافر والتعاون أن ينجم عنه انشاء فضاءات ومساحات خضراء للعب، تستوعب كل أطفال الساكنة.

إلى حد كتابة هذه السطور، ولا مشروع يطل في الأفق يستهدف فئة الأطفال في الدوار المعاين، من أجل توفير فضاءات القرب الخاصة بالأطفال. وتزيد الحسرات على هذا الواقع المر، حينما تجد في مجتمع، ولا بصمة للجماعة الترابية أو هيئات المجتمع المدني نشاطا يجعل فئة الأطفال في قلب العمل، أو التدخل، برغم من وجود العديد من المنافذ القانونية والبرامج الوطنية التي يمكن مراسلتها من قبل هيئات ومؤسسات المحلية.

من المفارقات الغريبة؛ توجد جمعيات تشتغل على التنمية، والحيوانات…إلخ، وفي الحالة التي تمت معاينتها، لا توجد جمعية تعد من بين “أهم” الجمعيات في المجتمع، جمعية آباء وأولياء التلاميذ، التي من شأنها أن تنشط في تنشيط السوسيوتربوي. أو غيرها من الجمعيات التي يمكن أن تساهم في هذا البعد.

قد يحاجج البعض بعامل الفقر تعاني الطفولة، نعم تعاني الطفولة في القرية لهذا العامل، لكن، ليس فقط لعامل الفقر وحده، بل لطبيعة الثقافية في المجتمع أيضا، حيث منطق الأمية واللامبالاة يحكم منطق المعرفة والعقلانية؛ وعليه، ينظر للطفولة وكأنها لا تستحق اعتبارا !

إن الفقر يفرض اعتباراته، فحينما يكون رهان الأسرة وهمها الأول، هو تحصيل الرزق من أجل سد رمق الأسرة، هنا على الجهات المعنية من والمؤسسات والهيئات بكل أطيافها أن يبادروا  لإنشاء مراكز سوسيوتربوية لصالح الأطفال، بثمن رمزي.  والمؤسسات الداعمة لهذا البعد على الصعيد الوطني والجهوي والإقليمي عديدة.

أما أن يترك الأطفال في مطاريح النفايات، يلعبون، ويلتقطون منها ما يخترعون منه ألعابهم، فهذا وضع أقل ما يقال عليه؛ وضع التخلف الإجتماعي. وإن مسؤولية النهوض بأوضاع الطفولة في الوسط القروي هي تقع على جميع النخب ومثقفو المجتمع الذي ينتمي  له الطفل. وكل من له السلطة لفعل شيء. أما وأن يترك الأطفال بلا فضاءات صالحة للعب فيها، فهذا يضرب كرامة كل إنسان يرى ذلك الوضع ولا يحرك ساكنا.

* إسماعيل الراجي /  طالب باحث في ماستر سوسيولوجيا المجال وقضايا التنمية الجهوية-القنيطرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *