منوعات

الكتاب الأكثر غموضا في العالم.. محاولة لقراءته واكتشاف شفراته

في عام 1665، كان الباحث اليسوعي “أثناسيوس كيرشر”، البالغ من العمر وقتها 63 عاماً يبدو وكأنه على معرفة بكل شيء. وكان قد ألّف حوالي 20 كتاباً، وكان هناك العديد من الكتب الأخرى قيد التأليف.

إذا كنت تريد معرفة المزيد عن المغناطيسية، أو تاريخ الصين، أو سفينة نوح، أو عن البصريات، أو نظرية الموسيقى، أو العلاجات العشبية، أو طبيعة الحفريات، أو كيفية خلق لغة عالمية، فكيرشر هو الرجل الذي كان عليك الذهاب إليه، بحسب ما ذكر تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية.

الناس من جميع أنحاء العالم، بمن فيهم الباباوات، والملوك، والدوقات والدبلوماسيون والتجار والرياضيون، واليسوعيون، كانوا يراسلونه أسبوعاً بعد أسبوع من أجل الحصول على المعلومات، ونقل الأخبار، وتبادل الاكتشافات. وكان من بينهم جان ميريك ميرسي، وهو طبيب من بوهيميا، أرسل يوم 19 أغسطس/آب 1665 مخطوطة غريبة لكيرشر مكتوبة بأكملها على هيئة شفرات.

هذه المخطوطة كانت فيما مضى مملوكة من قبل الإمبراطور الروماني المقدس “رودولف الثاني”، هكذا أبلغ ميرسي كيرشر، وكان قد اعتبرها البعض أحد أعمال “روجر بيكون” أحد موسوعي القرن الثالث عشر.

فك رموز الكتابة الهيروغليفية

في ذلك الوقت كان كيرشر يتمتع بشهرة كبيرة بسبب الزعم حول قدرته على فك رموز الكتابة الهيروغليفية المصرية. وربما تكون جهوده مثيرة للضحك اليوم، إلا أنه لم يكن هناك أحد في القرن السابع عشر يتمتع بمعرفة أفضل منه. رأى ميرسي أنه إذا كان هناك أي شخص يستطيع أن يجد معنى لمخطوطته المحيِّرة، فإنه سيكون أثناسيوس العظيم، حيث كتب قائلاً: “مثل هذه الأكباش البارعة في حد ذاتها”، مشيراً إلى ما ورد في المخطوطة “لا ينصاعوا سوى لسيدهم، كيرشر”.

المخطوطة لم تبدُ مثيرة للإعجاب من الخارج؛ كانت ملفوفة بصحيفة بسيطة ورخيصة الثمن مصنوعة من جلد العجل، كما كانت صغيرة الحجم حيث بلغ طولها 10 بوصات، وعرضها 7 بوصات، واحتوت على 234 صفحة، أو ما يقرب من حجم كتاب جيب رشيق هذه الأيام. ومن المؤكد أنه بمجرد إلقاء النظر عليها لم تكن تبدو بأنها من هذا النوع من الكتب التي يمكن أن يرغب الإمبراطور الروماني المقدس بالاحتفاظ بها في مكتبته. ولكنها من الداخل سرعان ما تثير الفضول.

أولاً، كان هناك نص المخطوطة نفسه، الذي كان يبدو مألوفاً للوهلة الأولى وكان يصعب التعرف على هويته بالكامل: موكب من “الكلمات” التي سارت بثقة عبر الصفحات من اليسار إلى اليمين، مكتوبة بأسلوب تعبيري كارولنغي من الحروف الصغيرة (نوع من الكتابة اللاتينية كثيراً ما وجدت في النصوص الأوروبية في القرون الوسطى)، ولكن تم تقديمه باستخدام “حروف” غير مألوفة تماماً. وكانت الكتابة خالية من الأخطاء والتنقيح وبدت طبيعية، كما لو كانت قد دُوّنَت بكل سهولة. ولكن لا يستطيع أحد تحديد اللغة الفعلية لهذا النص والتي ضُمِنَت في الكتابة.

ثم كانت هناك الرسوم التوضيحية؛ حيث كُرِست المائة صفحة الأولى من المخطوطة أو نحو ذلك للرسومات من النباتات، ويرافق كل نبتة فقرة قصيرة من النصوص. هذا الجزء من الكتاب ظهر على ما يبدو كأنه دليل “عُشبي” يتعلق بالخصائص الطبية للنباتات المختلفة وطريقة طهيها. المظهر، مرةً أخرى، كان مألوفاً باستثناء النباتات المرسومة التي لم يكن أياً منها مألوفاً. هل كان هذا نوعاً من شفرات نبات موازية؟

الأشياء أصبحت أكثر غرابة في الجزء القصير من المخطوطة الذي جاء بعد هذا الدليل النباتي، حيث عرضت مجموعة من المخططات الدائرية التي يبدو وأنها فلكية.

العديد من هذه المخططات كانت مغطاة بحلقات من النساء العاريات الصغيرات، وكثير منهن، لسبب ما، يُحدِقن بلُطف في القارئ بينما يقفن في أحواض دائرية. وعلى نحو مماثل، ظهرت نساء عاريات مرسومة على العديد من الصفحات اللاحقة، غالباً يقمن بالاستحمام معاً ولكن في بعض الأحيان، وبشكل غريب، تندرج هذه الرسومات على أعلى نهاية الأحواض التي تبدو عتيقة وينبعث منها البخار من نهاية القاع. المزيد من المخططات والنباتات تلت هذه الصفحات، جنباً إلى جنب مع المزيد من النصوص العويصة. كان كل شيء غريباً جداً، حتى بمقاييس العصور الوسطى.

ليس من المستغرب أن المخطوطة حيَرت كيرشر. راسل صديق لميرسي كيرشر عامي 1666 و1667 متوسلاً إليه كي يُحَوِل انتباهه للمخطوطة، ولكن لم يرد كيرشر أبداً على صديق ميرسي أو ميرسي نفسه. بعد عام 1667 اختفت المخطوطة من السجل التاريخي لمدة 245 عاماً، حتى عام 1912، عندما ظهرت مرة أخرى في حيازة ويلفريد فوينيتش، وهو تاجر كتب بولندي كان يعيش في لندن وعمل بدأب طيلة حياته للترويج للمخطوطة باعتبارها الكتاب الأكثر غموضاً (ومن ثم الأكثر قيمة) في العالم.

“مخطوطة فوينيتش”

تعود ملكية المخطوطة اليوم لمكتبة بينيك للكتب النادرة والمخطوطات في جامعة ييل، حيث تعرف رسمياً برقم تصنيفها في المكتبة MS 408. لكن معظم أولئك الذين يدرسون المخطوطة يطلقون عليها ببساطة “مخطوطة فوينيتش” ويشيرون إلى نصها ولغتها بـ”فوينيتشيز”. إلا أنه لم يتمكن أحد من فك رموزها حتى الآن. الأحرف الأربعون أو نحو ذلك المستخدمة في النص، والتي تبدو على نحو غامض كأنها لغة أرمينية أو جورجية، لم يتم التعرف عليها في أي مكان آخر، وكذلك النباتات المرسومة في المخطوطة، ربما مع استثناء واحد، تم التعرف عليه.

إذاً ما هوية هذه المخطوطة؟ بالنسبة لأي شخص مهتم بمحاولة تقصي هذا الأمر، أصدرت مطبعة جامعة ييل مؤخراً كتاباً مثالياً يمكن الانطلاق منه بعنوان “مخطوطة فوينيتش” من تحرير ريموند كليمنس، أمين مكتبة الكتب والمخطوطات بالجامعة. الكتاب يعيد إخراج المخطوطة كاملة بشكل مثير للإعجاب ويشمل عدة مقالات تُلخص الكثير مما هو معروف عنها.

 
وعلى نحوٍ منطقي، لم تتطرق تلك المقالات لمسألة الهوية المحتملة لهذه المخطوطة، بينما تركز في تناولها على المسائل الفرعية؛ حيث قامت بتحديد المراجع القديمة المتعلقة بالمخطوطة، وتجميع المعلومات حول تاريخ ملكيتها ومحاولة التعرف على الأماكن التي من المحتمل أنها احتفظت بهذه المخطوطة بعد وفاة كيرشر. كما توفر هذه المقالات معلومات عن السيرة الذاتية لويلفريد فوينيتش وتتَبع رحلة سفر المخطوطة من ملكية فوينيتش إلى جامعة ييل.

تقارن هذه المقالات أيضاً بين الكتابة والرسوم المستخدمة في هذه المخطوطة وما ورد في المخطوطات الأخرى في تلك الفترة من التاريخ، وتُلخِص النتائج التي توصل إليها العلماء والمعنيون بالمحافظة على هذه الأعمال الذين درسوا بعناية البنية المادية للمخطوطة. كما قامت المقالات بعمل مسح مختصر لتاريخ لأهم محاولات فك شفرة النص والتي قادها، بشكل ملحوظ، بعض من أعظم علماء التشفير البريطانيين والأميركيين في القرن العشرين.

ومن بين هذه الشخصيات كان قادة الفرق التي فكت الرموز التي استخدمها الألمان واليابانيون خلال الحرب العالمية الثانية، ومؤخراً علماء تشفير يعملون لحساب وكالة الأمن القومي الأميركية. وعندما يتعلق الأمر بفترة حيازة فوينيتش، يترنحون جميعاً دون التوصل لأي نتيجة.

القليل جداً يمكن قوله بثقة عن المخطوطة نفسها؛ وفقاً لعملية تحليل كربوني أجريت على المخطوطة في عام 2009، اتضح أن صفحاتها تعود للقرن الخامس عشر وليس القرن الثالث عشر (أثناء حياة الموسوعي روجر بيكون)، مع احتمال 95٪ أن أوراق المخطوطة صُنعت في وقت ما في الفترة ما بين عامي 1404 و1438. وربما يعود النص والصور إلى تلك السنوات، أو ربما تم إضافتها في وقت لاحق بقليل في ذلك القرن.

وليس من المستغرب كذلك أن يتساءل المشككون ما إذا كان الكتاب كله مُزوَراً، فربما ألفها ولفقها ويلفريد فوينيتش لخداع أحد الأغنياء من هواة جمع الكتب النادرة والفوز بعملية بيع كبيرة. لكن هناك إجماع قوي اليوم بأن المخطوطة في الواقع حقيقية؛ طبيعة الغلاف، ونوعية وكمية الورق المصنوع من جلد العجل، والمجموعة المتنوعة من الأحبار المستخدمة، جميعها تتسق مع ما يتوقعه المرء من مخطوطة تعود للقرن الخامس عشر ظهرت في مكان ما في أوروبا، وأن عملية تجميع وتأليف كل هذه الأمور معاً يمكن أن تكون مجرد ضرباً من المستحيل على مزور من العصر الحديث أن يُفنِنها.

كيف كُتبت؟

هناك عاملان آخران يجعلان من الصعب الاعتقاد بأن المخطوطة مجرد زيف معاصر. أولاً، هناك تلك الرسائل من ميرسي وصديقه واثنين آخرين التي ذكرها في القرن السابع عشر. وثانياً، هناك توقيع ملكية باهت اللون على المخطوطة نفسها، واستطاع الباحثون مؤخراً (باستخدام “تصوير وميضي مرئي ناجم عن الأشعة فوق البنفسجية”) قراءته كاملاً. واتضح أنه يخص جاكوب تيبنيتش، الذي عمل في القرن السادس عشر كصيدلي لدى الإمبراطور الروماني المقدس رودولف الثاني.

دعونا نفترض أن المخطوطة حقيقية، ماذا بعد؟ هل هي مكتوبة بلغة حقيقية ولكن بحروف مُبتكرة؟ أم هي من أنواع الشفرات التي استخدمها الكُتاب الكيميائيون أحياناً لحماية أسرارهم؟ هل هي فكرة إبداعية من رحالة أوروبي لتوثيق لغة آسيوية كان يتحدثها لكنه لم يتمكن من كتابتها بحروفها الأصلية؟ هل هي مثال مبكر لإحدى اللغات العالمية، التي ظهرت قبل ظهور لغتي الاسبرانتو والإنترلينغوا بقرون؟ هل يمكن ألا تعدو كونها مجرد خدعة متقنة من عصر النهضة؟

نظريات تفسير طبيعة هذا العمل في تزايد، ولكنك لن تجدها مذكورة في “مخطوطة فوينيتش”؛ ولذلك ستضطر للبحث عنها على شبكة الإنترنت، وإذا فعلت ذلك كن حذراً؛ لأنك ستجد نفسك محاصراً في عالم مظلم يسكنه مجموعة من الهواة المتحمسين والمهووسين الذين يطلقون على أنفسهم “الفوينيتشيون”.

إنه عالم غريب، مليء بالنظريات التي وصفها نيكولاس بيلينغ – مؤلف كتاب “لعنة فوينيتش” والذي صدر عام 2006 وصاحب موقع “ciphermysteries.com” – بأنها سخيفة قليلاً لكنها في الوقت ذاته يصعب نفيها بصورة مخيفة.

من هذه النظريات ما يقول إن المخطوطة عبارة عن دراسة طبية مكتوبة بترجمة لغة الناواتل، وهي لغة إمبراطورية الآزتك. أو أنها شفرة ميكروسكوبية مصورة متعددة الطبقات، استخدمها الفيلسوف الإنكليزي روجر بيكون لشرح كيفية استخدام الميكروسكوبات لرؤية المجرات. وهناك من يقول إنها هي أحد أعمال الرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دا فينشي بالطبع، وهي خدعة ابتكرها جون دي، وهو عالم رياضيات وفيلسوف من العصر الإليزابيثي، في علوم التنجيم وما وراء الطبيعة. إنها نسخة مشفرة من نص يعود إلى القرن السابع أو الثامن الميلادي، مكتوبة في الأساس بلغة الكورنيش القديمة.

وهناك نظرية ترى أنها بمثابة تزييف في القرن السادس عشر لشفرة من القرن الخامس عشر. أو أنها نص مترجم أصلاً إلى لغة المانشو، وهي لغة مهددة بالانقراض تُستخدم في شرقي الصين. أو نص عربي مكتوب بحروف عبرية ومن ثم تُرجم إلى اللغة الفوينيتشية.

ويرى آخرون أنها أحد الطقوس الدينية التي اتبعتها طائفة الكاثار لصرف انتباه محاكم التفتيش عنها، أو الاحتمال المفضل بالنسبة لي، أن تكون كنزاً يخص اليهود اليمنيين قبل ظهور الإسلام، حيث عزز التجارة الرائجة بأطفال عصور “الهند الملحمية” أو “الهند العميقة”، التي يبدو أن الجزيرة العربية قد عرفتها في أوائل الزمان.

يتوافر القليل من المصادر على الإنترنت للحصول على معلومات بهذا الشأن، ويمكن إيجاد المخطوطة الكاملة بدقة عالية، مع إمكانية تنزيلها من خلال صفحة فوينيتش في موقع مكتبة “بينيك” للكتب النادرة والمخطوطات. لكي تطلع على تاريخ المحاولات الأولى لفك شفرة المخطوطة، فمن الأفضل أن تبدأ بقراءة تقرير “مخطوطة فوينيتش: اللغز الرائع” وهو تقرير مفصل نشرته ماري دي أمبيريو، خبيرة التشفير في وكالة الأمن القومي الأميركية، عام 1978 وهو متاح الآن على موقع الوكالة. أيضاً يُعد موقع “مخطوطة فوينيتش”، الذي يُدار بواسطة رينيه زاندبيرجين، مصدراً غنياً بالمعلومات التي تشمل آخر النظريات والدراسات والأخبار.

بعض من الدراسات المثيرة للاهتمام ويحتمل أن تكون ذات فائدة، والتي أجريت مؤخراً عن المخطوطة، لم تُذكر في العدد الجديد من مجلة جامعة ييل الأميركية، وتشمل تحليلات بالبيانات والإحصائيات لنص المخطوطة. على سبيل المثال، نُشر تحليل نظري للمعلومات عن المخطوطة في المجلة العلمية “بلوس وان” عام 2013، ليناقش فكرة أن سمات الرسومات الفوينيتشية تتوافق مع كونها لغة بشرية وأنها ترتبط بشكل واضح مع الرسومات التوضيحية للمخطوطة. هذا التحليل يعني وجود احتمال كبير أن الكتاب يحوي رسالة ضمنية بداخله.

رائع! كل ما يتبقى لكي نكتشفه هو كل شيء آخر؛ وكما كتب ريموند كليمنس في نهاية مقدمته بالفرنسية: “Bonne chance” (“حظاً سعيداً” بالفرنسية).