وجهة نظر

مباراة الجدل

خلال السنوات الأخيرة وخاصة منذ تبني تجربة التوظيف بالتعاقد وبعدها التوظيف الجهوي، ظل التعليم موضوع جدل، بخصوص “سياسة الأبواب المفتوحة”، التي جعلت من التعليم حسب البعض، موسما سنويا للتوظيف ووجهة مفضلة للفارين من “جندية” البطالة القاتلة، ولم تتوقف الحكاية عند عتبة فتح الأحضان بدون شرط أو قيد، بل وتم فتح باب التوظيف على مصراعيه، ليستوعب ما بات يعرف بشيوخ التعليم الذين أشرفوا على عتبة الخمسين أو تجاوزوها بقليل، من أساتذة التعليم الخصوصي وأجراء القطاع الخاص وباعة متجولين ومياومين وعاطلين، بما في ذلك بعض حاملي شهادة الماستر والدكتوراه، الذين تجاوزهم قطار التوظيف العمومي، وإذا كانت هذه السياسة في شموليتها، راعت شروط العدالة والإنصاف وتكافؤ الفرص بتمردها على شرطي “الانتقاء” و”السن”، خلافا لما هو معمول به في الكثير من مباريات التوظيف، وفتحت أبواب الأمل والحياة بالنسبة لشرائح عريضة من الشباب والشيوخ، فإنها بالمقابل، جعلت المدرسة العمومية تعيش على وقع احتقان طال أمده، أعاد إلى الواجهة أسئلة مشروعة بخصوص “الجودة” و”معايير وشروط الانتقاء” لولوج مهنة التدريس، و”مدى صواب سياسة الأبواب المفتوحة”، و”مدى نجاعة ما يخضع له المدرسون الجدد من امتحانات كتابية وشفوية” ومن “تكوين أساس وتداريب ميدانية”، بل و”مدى جاهزيتهم المعرفية والأخلاقية واستعدادهم النفسي والذهني، لممارسة مهنة على درجة كبيرة من الحساسية”.

وفي هذا الإطار، وفي ظل سياقات الأوراش الإصلاحية المفتوحة ذات الصلة بالقانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، وفي ضوء مخرجات التقرير الخاص بالنموذج التنموي، الذي قدم جملة من الرؤى والتصورات بخصوص تجويد مهنة التدريس والارتقاء بأوضاع المدرسين، وبناء على ما ورد في البرنامج الحكومي من إجراءات وتدابير تروم النهوض بمنظومة التربية والتكوين، واستحضارا لما ورد في البرامج الانتخابية للأحزاب المشاركة في التحالف الحكومي، من وعود والتزامات حاولت كسب ود نساء ورجال التعليم، وفي ظل ما يشهده المسرح التعليمي من لغط وجدل واحتجاج متعدد الزوايا، ارتفع منسوب التوقع في أن تعرف الساحة التعليمية بعض المستجدات الآنية والمستقبلية، وهو ما ظهر جليا، بالإعلان عن مباراة توظيف الأطر النظامية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، الخاصة بالأساتذة وملحقي الاقتصاد والإدارة والملحقين التربويين والملحقين الاجتماعيين، والتي تضمنت متغيرات غير مسبوقة، تقوي الانطباع في أن هناك “خارطة طريق جديدة “قيد التشكل في قطاع حيوي واستراتيجي، ظل الجدل يرافقه منذ فجر الاستقلال، وتنويرا للرؤية يمكن استعراض الإجراءات الجديدة على النحو التالي :

الانتقـاء : تم وضع معايير دقيقة وصارمة للانتقاء، تأخذ بعين الاعتبار “الميزة المحصل عليها في البكالوريا” و”الميزة المحصل عليها في الإجازة” و”سنوات الدراسة في الإجازة”، وقد بررت الوزارة الوصية اعتماد الانتقاء القبلي وبهذه المعايير الدقيقة والصارمة، بالرغبة في “ترسيخ الانتقاء ودعم جاذبية مهن التدريس لفائدة المترشحات والمترشحين الأكفاء”.

الإعفاء : تم إعفاء حاملي إجازة التربية من مرحلة الانتقاء القبلي، حيث سيكون لهم الحق في اجتياز الاختبارات الكتابية بدون إخضاعهم لسلطة الانتقـاء، التي سيخضع لها حاملوا باقي شواهد الإجازة سواء كانت أساسية أو مهنية في تخصصات أخرى غير التربية، وإعفاء حاملي الإجازة في التربية من الانتقاء القبلي دون غيرهم، هو إجراء يروم حسب الوزارة “تشجيع مسارات التكوين الطويلة في خمس سنوات من أجل دعم مهنة وظائف التربية والتعليم”.

السن الأقصى لاجتياز المباراة: تم تحديد السن الأقصـى لاجتياز المباراة في 30 سنة كحد أقصى، مما يعني إقصاء شرائح واسعة من حاملي الإجازة والماستر الذين تجاوزوا عتبة 30 سنة من العمر، من الحق في اجتياز المباراة، بمن فيهم من يتوفر على شهادة إجازة أو ماستر في التربية، وتسعى الوزارة الوصية من وراء ضبط سن الترشح في 30 سنة، إلى “جذب المترشحات والمترشحين الشباب نحو مهن التدريـس، وبهدف ضمان التزامهم الدائم في خدمة المدرسة العمومية، علاوة على الاستثمار الأنجع في التكوين وفي مساراتهم المهنية”.

إدراج رسالة بيان الحوافز ” lettre de motivation “كوثيقة إلزامية، وذلك من أجل “تقييم الرغبة والاستعداد التي يبديها المترشحات والمترشحون بخصوص مهنة التربية”.

ولم تكد تعلن الوزارة الوصية عن هذه المستجدات التي ربطتها “بسياق الإصلاح الهادف إلى بلوغ النهضة التربوية”، حتى اجتاحت موجات الغضب والرفض، مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، بل وامتدت إلى الواقع، بخروج مجموعة من الشباب من حاملي الإجازة والماستر إلى الشوارع في عدد من المدن، احتجاجا على القرارات الجديدة، مطالبين بالتراجع على شرطي “السن” و”الانتقاء” بمبررات “تكافؤ الفرص بين المترشحين” و”انسداد أفق التوظيف” و”ضمان الحق في الولوج إلى الوظائف العمومية”، والبعض سارع إلى رفع هاشتاغ “لا للانتقاء”-“لا لتحديد السن”- “نعم لتكافؤ الفرص”- “المجازون يعانـون من البطالة”، ولم تتوقف ناعــورة الرفض، عند حدود بعض حاملي الإجازة أو الماستر، ممن جعلهم شرط السن (30 سنة) خارج دائرة التبــاري، بل امتدت نحـو عدد من الوجوه السياسية والقانونية والتعليمية، التي أشهـرت سلاح الرفض والمعارضة في وجه هذه المستجدات، لمبررات تحكمت في بعضها لغة الحماسة والانفعال، بشكل أبعدها عن سكة الموضوعية والواقعية والصراحة والمكاشفة والتبصر.

لكن ومن باب الواقعية والموضوعية، ما مدى صواب مبررات الرافضين والمحتجين، مادامت مجموعة من الإدارات العمومية باتت تفرض شروطا صارمة في مباريات الولوج، من ضمنها “شرط السن” دون أي اعتبار للسن القانوني المسموح به للولوج إلى الوظيفة العمومية (45 سنة ) ؟ ألم يكن من باب المنطق الاحتجاج على باقي القطاعات التي تنزل مباريات بشروط مجحفة وقاسية أحيانا؟ بل حتى مباريات الولوج إلى سلك الماستر وبعض الإجازات المهنية، باتت تخضع إلى سنة “الانتقاء” (عدد الميزات، عدد سنوات الإجازة )، وبالتالي قد يتساءل البعض، أليس من العبث تحميل قطاع حكومي دون غيره مسؤولية امتصاص البطالة المستشرية في أوساط الآلاف من خريجي الجامعات المغربية، بينما إدارات أخرى تمرر إجراءات المباريات في صمت ودون ضجيج، بل وفي ظل شروط مجحفة، وبدون لغط أو جدل أو احتجاج ؟ وقد يتساءل البعض الآخر، أليس عيبا ومخجلا أن تظل أبواب مهنة التعليم مفتوحة على مصراعيها أمام مترشحيها ومنتسبيها الجدد، بمرونة وسخاوة، بكل ما لذلك من تبخيس للمهنة وتقليل من شأنها وانعكاس على جودتها؟ وقد يتساءل البعض الثالث، كيف أن الدولة تراهن على تجويد مهنة التدريس والنهوض بأوضاع نسائها ورجالها، وفي ذات الآن تنهج “سياسة الأبواب المفتوحة” التي تكرس في الأذهان، “مهنة تعليمية ” باتت “مهنة من لا مهنة له” ؟

لكن ودون الخوص في تفاصيل المبررات أو الدفعات التي قدمتها الوزارة الوصية على القطاع، في تنزيلها وترسيمها للتدابير والإجراءات الجديدة، التي طالت مباراة التوظيف برسم السنة الجارية، أو التيهان غير المجدي في أية نقاشات بخصوص ما أثارته هذه التدابير والإجراءات “غير المسبوقة” من لغط وجدل ورفض واحتجاج، يمكن إبداء الملاحظات التالية :

كان من المفروض المرور من مرحلة انتقالية (التدرج) في إطار المباراة المرتقبة، من قبيل الالتزام بشرط 45 سنة (السن الأقصى للولوج إلى الوظيفة العمومية) والمرونة في الانتقاء، مع الإعلان الآني عن طبيعة المتغيرات التي ستطال مباراة السنة القادمة في إطار الشفافية والتعاقد القبلي مع المترشحات والمترشحين، أخذا بعين الاعتبار أن التعليم ظل طيلة 6 سنوات، مفتوحا أمام الجميع وبدون انتقاء، واستحضارا لما ميز المباريات السابقة من رفع استثنائي لسن الترشح إلى ما بعد 45 سنة، وبالتالي، من الصعب تغيير الثقافة السائدة بمجرد تنزيل مذكرة أو بلاغ، دون مراعاة الآثار النفسية والاجتماعية على شرائح واسعة من المترشحين، ممن كانوا ينتظرون اجتياز المباراة بفارغ من الصبر، وبعضهم ربما خضع إلى بعض الدورات التكوينية حتى يكون جاهزا للمباراة.

اعتماد 30 سنة كحد أقصى للترشح للمباراة، هو توجه مخالف تماما، لتوجهات الحكومتين السابقتين، حيث تم تبني “سياسة الانفتاح” بدون قيد أو شرط، بل وتم رفع السن إلى ما فــوق 50 سنة، بدل 45 سنة، كما هو منصوص عليه في قانون الوظيفة العمومية، وهذا معناه، غياب تلك النظرة المتبصرة والاستراتيجية للشأن التعليمي، وهذا يضعنا أمام حكومات كل واحدة تغني على ليــلاها، مما يقوي من منسوب اللغط ويرفع من جرعات الاحتجاج، في قطاع حيوي واستراتيجي، يفترض التعامل معه بما يلزم من الحكمة والرصانة والتبصر، بعيدا عن المزاجية والأهواء الشخصية والحسابات السياسوية الضيقة.

منذ اعتماد نمط التوظيف الجهوي بالتعليم، تم إلغاء “الانتقاء” كما تم “رفع سن الترشح إلى المباريات إلى ما فوق الخمسين سنة”، وهذا التوجه، لم يعزز فقط، من جاذبية مهــن التعليم، بل وجعل قطاع التعليم، إحدى القطاعات الحكومية الأكثر تشغيلا، وأكثر امتصاصا للعاطلين من حاملي الشهادات العليا (إجازة، ماستر)، بشكل جعل ويجعل الآلاف من خريجي الجامعات، يعلقون أمل التوظيف على “التعليم” في ظل تفشي معضلة البطالة ومحدودية إيقــاع التوظيف في باقي القطاعات الوزارية، وكان من الأجدر، مراعاة هذا المعطى الاجتماعي والنفسي، بالمضي قدما في تنزيل تدابير الإصلاح بنوع من التدرج والواقعية والتبصـر، وفي إطار من السلاسة والقابلية والجاهزية، للحيلولة دون الوقوع في أية ردود أفعال أو احتجاجات غير متحكم فيها.

إذا كانت الوزارة الوصية راهنت على “الجودة” وهي تحدد سن الترشح في 30 سنة، وتخضع الانتقاء إلى شروط ومعايير صارمة ودقيقة، يبقى التساؤل المشروع هل “الجودة” تقـاس بالسن وبالميزات المحصل عليها سواء في البكالوريا أو سلك الإجازة أو حتى الماستر؟ وفي هذا الإطار، لن نتردد كثيرا في الجواب أو على الأقل في إبداء الرأي، لأن الجودة الحقيقية تقـاس بجودة التكوين الأساس وبطبيعة المضامين والمحتويات التي تقدم في المراكز الجهوية للتربية والتكوين، وبنوعية الوسائل والإمكانات التعليمية والتربوية المتوفرة في هذه المراكز التكوينية، ومدى العناية بالأساتذة المتدربين على المستويات المادية والنفسية والبيداغوجية، بل وحتى في مدى كفاءة الأطر الإدارية والتربوية التي تتحمل مسؤوليات تكوين أساتذة الغـد.

إعفاء حاملي الإجازة في التربية من الانتقاء الأولي، نرى فيه ضربا لمبدأ “تكافؤ الفرص”، وتبخيسا لقيمة الإجازات الأساسية الأخرى، ويبقى التساؤل ما الجدوى من دراسة الطلبة لتخصصات جامعية من قبيل التاريخ والجغرافيا والتربية الإسلامية والفلسفة والعربية، وفي آخر المطاف، تعطى الأولوية والأسبقية للطلبة الحاصلين على الإجازة في التربية الذين يعفون من المرور عبر مسطرة “الانتقاء” بشروطها ومعاييرها الدقيقة والصارمة ؟، علما أن آفاق التوظيف بالنسبة لطلبة بعض التخصصات خاصة المعتمدة بكليات الآداب والعلوم الإنسانية، تبقى محدودة جدا، ويبقى التعليم هو المجال الذي يمكنه استيعاب خريجي هذه الكليات، لكن الإجراءات الجديدة، من شأنها أن تحد من فرصهم في اجتياز مباريات الولوج إلى مهن التدريس، وهذا المعطى، يفرض على الطلبة الحاصلين على إجازات أساسية، الرهان على إجازات في التربية، إذا ما أرادوا أن تتعبد أمامهم مسالك التعليم.

إعفاء حاملي الإجازة في التربية من الانتقـاء، ليس معناه أن هؤلاء أكثر كفاءة ومعرفة، ممن هم حاصلين على إجازات أساسية في تخصصات مختلفة، وكان من المفروض إخضاع جميع المترشحين إلى نفــس شروط ومعايير الانتقاء المعتمدة، في إطار الإنصاف والعدالة وتكافؤ الفرص، مادامت “الكفاءة الحقيقية” تمـر قطعا، عبر التكوين الأساس “الفعال” و”الناجع”، وقبلها إلى إخضاع المترشحين إلى اختبارات بسيكوتقنية دقيقة وصارمة، تحدد مدى قابليتهم ومدى استعدادهم النفس والذهني لممارسة مهن التدريـس، وبعدها عبر العناية بالأوضاع المادية والمهنية والاجتماعية والنفسية والتكوينية للمدرسين طيلة مسارهم المهني.

الإجراءات الجديدة المعتمدة، كان يفترض أن يتم التريث قبل الإفصاح عنها، وأن يتم إخضاعها إلى المزيد من التشاور مع الفاعلين التربويين والاجتماعيين، في انتظـار تأطيرها قانونا، عبـر إعادة النظر في الأنظمة الأساسية للأطر النظامية للأكاديميات، والأطر القانونية المؤطرة للمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، والأنظمة الأساسية للأكاديميات الجهوية …، مما جعل هذه الإجراءات تبقى معيبة ومثيـرة للإشكال من الناحية القانونية، وفي هذا الإطار، من غير المقبول “قانونا” أن يتم تنزيل وترسيم تدابير وإجراءات عبر مذكرات وبلاغات وزارية، والأصل أن يتم ذلك، بناء على مراسيم قوانين، تؤطر الإصلاح، وتعطي “الشرعية القانونية” لما يقتضيه من تدابيـر وإجراءات.

يبدو أن الجدل لن يتوقف عند عتبة الأمور الشكلية المرتبطة بتنظيم المباراة المرتقبة شهر دجنبر القادم، ويرتقب أن تبرز موجات أخرى من الجدل والاحتجاج في المدى القريب أو المتوسط، بناء على ما ورد في التصريح الذي أدلى به الوزير الوصي على القطاع، لإحدى الجرائد الإلكترونية، حيث أكد “أن المباراة المفتوحة حاليا هي لولوج المراكز الجهوية للتربية والتكوين في أفق تشغيل 15 ألف أستاذة وأستاذ”، مما يعني أن النجاح في المباراة لا يعد توظيفا، كما أكد أن الناجحين رسميا في المباراة لن يتقاضوا أي مقابل مالي، بمبـرر أنهم ليسوا بموظفين، وهذا يجعلنا أمام محاولة لتثبيت ضوابط قانونية، مخالفة تماما للأطر القانونية والتنظيمية القائمة، وبصـورة أوضح، لايمكن قانونا ولا حتى واقعيا، أن نبني نظاما جديدا لم تتضح معالمه بعـد، على قواعد ودعامات قانونية قائمة بحكم الواقـع، وحتى إذا ما تركنا الهاجس القانوني جانبا، فمن حيث المبدأ، من الصعب تصور تكوين لمدة تزيد عن السنة، بـدون أجر أو منحة على الأقل، وهذا التوجه، يعد ليس فقط تراجعا عن الحقوق القائمة، بل وإساءة لمهنة المدرس بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

الاحتجاجات القائمة ذات صلة بالدفاع عن “الحق في المشاركة في مباراة”، وفي المعسكر الآخر، يقف من حالفهم الحظ في المباريات السابقة، في جبهة النضال سعيا وراء “إدماج” يبدو كالسراب، بعد أن كانوا في وقت من الأوقات يمنون النفس في النجاح والظفر بوظيفة تقي من حرارة البطالة المؤلمة، وبإمكانهم اليوم، أن يحسوا بحالة الكثير من الأشخاص الذين كانوا يترقبون المباراة بفارغ الصبر، قبل أن يصطدموا بعائق السـن، الذي أزاحهم على مضض من دائــرة التباري، وبدون شك، الذين سينجحون في المباراة القادمة، سينتقلون إلى جبهة النضال، في مشاهد “مقلقة”، ستتكرر مرة أخرى، ما لم يتم إيجاد حلول مبتكرة، تقطـع مع هذا النضال الذي بات يلبس جلباب العبث، ونرى أنه من العبث، أن يتم الاستمرار في هذا النمط من التوظيف، دون تقديم الحلول الممكنة، القادرة على كبــح جماح احتقان طال أمده.

وعموما، وإذا ما تركنا الجدل المتعدد الزوايا الذي أثارته المستجدات المعلن عنها، فلا يمكن إلا الاتفاق في أن بيت المدرسة العمومية لم يعد يسر المقيمين والناظرين والزائرين والمتتبعين، مما يجعل من الإصلاح ضرورة قصوى وملحة، من منطلق أن نهضة الأمم ورقي الشعوب، يمران قطعا عبر مدخل تعليم عصري وناجع وفعال وعادل ومنصف، بعيدا عن الأهواء والنزعات والحسابات السياسوية الضيقة وهواجــس الربح والخسارة، وهذا الإصلاح يفترض فيه أن يكون هادئا وشاملا وواقعيا وتشاركيا ومتدرجا ومتبصرا، وأن يكــون قادرا على استيعاب الفئات التي يخاطبها (نساء ورجال التعليم) ويستجيب لكل مطالبها وتطلعاتها وانتظاراتها، ويوفر لها بيئـة التحفيز المناسبة، التي تتحقق معها شروط الجاهزية والاستعداد والمبادرة والاجتهاد والإبداع والابتكار والجودة المأمولة والمردودية المرجوة.

كما لايمكن إلا نتفهـم من خرج إلى الشـــوارع، احتجاجا على الإجراءات القاسية وخاصة فيما يتعلق بالسن والانتقـاء، لكن من باب الواقعية والموضوعية، نقول أن المباراة القادمة، ستستوعب في جميـع الحالات، العدد المطلوب من الأطر النظامية للأكاديميات (17 ألف إطار منهم 15 ألف أستاذ(ة))، والسؤال الذي يفترض أن نطرحه جميعا كمغاربة وبما يلزم من الوضوح والجرأة، ما مصير الذين سيفشلون في اجتياز المباراة ؟ وما مصير العشرات من الآلاف من حاملي الشهادات، الذين أبعدوا من الحق في اجتياز المباراة بسبب عائق السن، ونقصد هنا من تجاوز عتبة 30 سنة ؟ ويزداد السؤال قـوة، إذا ما استحضرنا ارتفاع نسب البطالة في أوساط خريجي الجامعات، وتقلص فرص لوج بعض الخريجين إلى الوظيفة أو الشغل، خاصة المنتسبين لكليات الآداب والعلوم الإنسانية، وضعف وثيـرة التوظيف في القطاعات الوزارية الأخرى، أخذا بعين الاعتبــار أعداد الخريجين من الجامعات كل سنة من حاملي الإجازة والماستر، وبالتالي، فإذا كان لابد من الاحتجاج، فمن الأجدر أن يكون حول الحق في الشغل، ولا يمكن أن نختزل ذلك في قطاع دون آخر، وهذا الحق المشـروع، يسائل الجامعات التي تخرج أفواجا من العاطلين كل سنة، لا تشفع لهم الشواهد التي يتحوزون بها في الولوج إلى سـوق الشغل، كما تسائل العلاقة بين العروض البيداغوجية المعتمدة في أغلب الجامعات ذات الاستقطاب المفتوح بالمحيط المهني، وقبل هذا وذاك، تسائل مسؤولية الدولة في ضمان الحق في الشغل والحياة الكريمة.

وعليه فالحكومة، التي تراهن على تحقيق” النهضة التربوية”، تبقى ملزمة بتقديم “حلول مبتكرة” لتوفير المزيد من فرص الشغل، كما تبقى ملزمة باستحضار أصوات من خرج إلى الشوارع احتجاجا على القرارات الجديدة، حرصا ليس فقط، على استقرارها وانسجامها وعلى الثقة الشعبية الممنوحة لها من قبل شرائح واسعة من المواطنين، بل وعلى النظام العام والسلم الاجتماعي، ونختم بالقول، أننا مع “الإصلاح” الذي من شأنه الرفع من قيمة وجاذبية المهنة وإعادة الاعتبـار لنسائها ورجالها، لكن، لن نكون إلا ضد أية توجهات رامية إلى ضرب المكتسبات وتكريس الهشاشة وإثارة المزيد من الجدل والاحتقـان، على أمل أن نتعايش مع إصلاح حقيقي يحظى بالرضى والقبول والإجمــاع، يخلصنا من جائحة “جدل”، يستدعي الرهان على “التلقيح”/ “الإصلاح” الناجع والفعال والمحفز والمتبصـر…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *