وجهة نظر

في الحاجة إلى إحياء عمل حزبي جاد..

جرت العادة أن تستفيد كل حكومة جديدة من فسحة ثقة خلال المائة يوم الأولى بعد تعيينها، قبل أن يشتد حولها طوق الانتقاد، الشعبي و الحزبي، و يبدأ رصيد الثقة في التآكل شيئا فشيئا، بسبب اختيارات و أولويات و قرارات قد لا تلقى من المواطنين الرضا و التفاعل الإيجابي المأمول. لكن، يبدو أن الحكومة الجديدة برئاسة السيد عزيز أخنوش، وجدت نفسها مباشرة في قلب جو ما بعد “المائة يوم”، قبل الآجال الطبيعية. و يشهد على ذلك، تراكم احتجاجات صاخبة في عدة مدن، في البداية بسبب قرار فرض إلزامية جواز التلقيح الذي لم يرافقه من تواصل موفق يطمئن الناس و يخلق التعبئة، و مؤخرا بسبب قرار تسقيف سن الولوج لاجتياز مباريات التدريس في 30 سنة الذي أغلق أحد أبواب الأمل أمام آلاف الشباب و جعل الأسر تدخل في حالة من القلق من المستقبل. و بين المحطتين شهدنا محطات من التعبير عن الغضب بسبب ارتفاع صاروخي لأسعار عدد من المواد الغذائية الأساسية بشكل أنهك ذوي الدخل المحدود و الفئات الهشة. كما تابعنا السجالات المستمرة في مواقع التواصل الاجتماعي بشأن أمور متعددة، منها آداء بعض أعضاء الحكومة الذين لم يحوزوا رضا المتتبعين، إما بسبب تصريحات أو بعض مواقف.

و المستغرب هو أن تحول مزاج الرأي العام، صاحبه تغير خطاب عدد كبير من وسائل الإعلام الإلكترونية و من “المؤثرين” الذين كانوا، قبل الانتخابات، مصطفين بشكل قوي إلى جانب حزب رئيس الحكومة و برنامجه الانتخابي الذي وعد الناس بإنجازات مهمة. و ربما كان البعض يعتقد أن تنفيذ الالتزامات سينطلق غداة تعيين الحكومة، و هو أمر غير ممكن في كل الحالات لأسباب موضوعية مختلفة. و لعل ذلك هو ما خلق جوا عاما سلبيا يطبعه عدم الرضا و من الانتقاد من طرف فاعلين سياسيين عديدين، عكسته مواقع التواصل الاجتماعي التي عززت أجواء التوتر و أظهرت تعابير خيبة أمل من حكومة انتظرها الناس و لم يفرحوا بها.

و ما يدعو للاستغراب الشديد، أن منحى الانتقاد السلبي تصاعد بشكل سريع، مستبقا حتى استكمال المصادقة البرلمانية على قانون مالية سنة 2022، و ما يتيحه من ميزانيات قطاعية يمكن أن تمنح الوزراء هوامش للعمل في المشاريع التي التزموا بها. و بالتأكيد، يطرح التحول السريع من حالة الدعم و الرضا إلى حالة التسفيه و الانتقاد، أكثر من علامة استفهام حول ماهيته و دلالاته و أسبابه العميقة، الذاتية و الموضوعية. كما يطرح، أيضا، تساؤلات بشأن عدم تأطير أحزاب الأغلبية الحكومية للنقاشات العمومية التي برزت في الساحة منذ الانتخابات الأخيرة، لمعرفة هل هي عدم رغبة؟ أم عدم قدرة؟ أم عدم انتباه لأهمية الدفاع عن حكومتها و عن اختيارات وزرائها، أمام معارضة الشارع و مواقع التواصل الاجتماعي التي لم تكن متوقعة بهذه السرعة، و في هذا التوقيت بالذات؟

في اعتقادي، ما يجري من تعبيرات مجتمعية يلزم كل الديمقراطيين بالتعامل معها باحترم لأنها تعكس حيوية حقيقية و تحمل أراء المواطنين التي لا يمكن للأحزاب أن تتجاهلها أو تستصغر أثر مضمونها على المدى المتوسط و البعيد، و لأنها تجل من تجليات الممارسة الديمقراطية و الحرية المكفولة دستوريا في بلادنا. بموازاة ذلك، يتعين على أحزاب الأغلبية أن تلتقط الإشارة بجدية بالغة، و تخرج من حالة الانتشاء بفوزها الانتخابي و تطوي صفحة ديناميكية “ما بعد الانتخابات” (تدبير مفاوضات تشكيل للحكومة، و ضغط إعداد قانون مالي جديد)، و تعود إلى إحياء الفعل السياسي الذي يرتكز على تنظيمات و هيئات و منتديات حزبية تقوم بأدوارها التأطيرية كاملة. و أظن ذلك مستعجلا لسببين اثنين، على الأقل، هما :

١/ مسؤولية أحزاب الأغلبية في تتبع عمل الحكومة، و تأطيره من منطلق سياسي و تواصلي، إما مساندة أو انتقادا أو تقويما أو تصحيحا و تصويبا.

٢/ ضرورة ممارسة أدوار التأطير السياسي للمواطنين، و فتح نقاش مع الناس حول واقعهم، و الاشتغال إلى جانبهم بشأن مستجدات الوضع العام، و اتخاذ مواقف سياسية تواكب النقاشات العمومية التي تعرفها الساحة الوطنية، بشأن ملفات اجتماعية ضاغطة، أصبح بعضها يثقل كاهل الفئات الهشة.

في هذا السياق، تقتضي المسؤولية من كل الأحزاب، و من أحزاب الأغلبية الحكومية بصفة خاصة، تأطير السجالات القائمة في الساحة، و بلورة إجابات تتفاعل مع أسئلة الشارع، و البحث عن حلول للملفات التي توتر الأجواء بشكل غير ضروري، بأسلوب يحرص على تغليب الأفق التنموي الاستراتيجي الذي يتجاوز العمر الحكومي، و يستحضر المخاطر التي تستهدف مشروعنا الوطني، و المؤامرات الكيدية التي تسعى للنيل من حقوقنا المشروعة في ترابنا. في نفس الوقت، على أحزاب الأغلبية التعاطي بإيجابية مع الانتظارات المجتمعية المشروعة والمتنوعة، عبر عمل حزبي يتتبع السياسات العمومية، بخلفية سياسية تدعم الحكومة عندما يكون عملها جيدا، و تساندها عبر التواصل و تأطير المجتمع، أو تدعوها إلى تصحيح قراراتها و اختياراتها، حين يكون ذلك ضروريا، أو حين يكون مستوى أداء بعض مكونات الحكومة، أقل من المستوى المطلوب.

تلك هي السبيل الأنجع، إذا كنا نرفض أن ينتصر الفراغ، و يعود التأطير السياسي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، و يعود العبث السياسوي و الخطابات الشعبوية التي عهدناها خلال العشرية الأخيرة، التي لم تحل مشاكل الناس و لم تخفف عنهم معاناتهم، بل أنشأت أسباب الصخب السياسي و التسفيه و هدم الثقة و كسر جسور العمل الوطني التشاركي.

و حتى تنجح الأحزاب في تأدية أدوارها، أتمنى أن تنتبه لأهمية فتح صفحة جديدة تتجاوز ديناميكية الفعل الحزبي التي تنطلق ستة أشهر قبل الانتخابات، ثم تنتهي مع صدور النتائج. المطلوب هو أن يتم التركيز على أهمية الفعل السياسي الميداني و تحريك العمل التنظيمي، و تفعيل الديمقراطية الداخلية لإفراز هيآت و منظمات تسير بديناميكية المناضلين و الكفاءات السياسية الحزبية التي يحترم فيها الناس أنها لم تغادر ساحات النقاشات العمومية، و لم تسقط في منطق “التعبئة الانتخابية” اللحظية و المرحلية.

نحن في مرحلة وطنية تتميز بكثرة المشاكل و قوة التحديات و حقيقة وجود مقومات الأمل في انطلاقة تنموية ببلادنا، و لا خيار لنا سوى أن نستثمر في فعل سياسي يجمع بين الصدق و الحكمة و الارتباط بالمعيش اليومي للناس، حتى تتقوى قدرتنا على فرض إيقاع سياسي يؤطر ديناميكية الاحتجاج في الميدان كلما تجددت أسبابه. لذلك، أحزاب الأغلبية مدعوة إلى أن تحيي تنظيماتها و منتدياتها و منظماتها الموازية على أساس الكفاءة والاستحقاق، و عدم تهميش أطرها التي أثبتت نضاليتها و كفاءتها و صدق قدراتها السياسية، رغم “مجهود” تغييب بعضها من الصورة، و من الفعل الحزبي التنظيمي، و من الحصول على تزكيات للتنافس الانتخابي.

هذه هي الطريق الأسلم، إذا أردنا أن لا نساهم بأيدينا في إفشال التجربة الحالية، و نفشل في كسب رهان تحقيق انتصارات أخرى في المستقبل المنظور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *