وجهة نظر

إشكالية الحدود وتطور العلاقات المغربية الجزائرية من 1845 إلى 1972

لم تكن مسألة الحدود بمفهومها الجغرافي المؤطّر بإحداثيات دقيقة تشكل مشكلا كبيرا بين الدول،  لكن هذا الأمر سيأ خذ ابعادا جديدة مع بروز مفهوم الدولة الحديثة، خاصة ما بعد الثورة الفرنسية (1879م) التي نقلت محدّدات الدولة الحديثة من شقّها النظري خلال عصر الأنوار (القرنين  17 و 18م) الى الشق التطبيقي. لترتهن بذلك طبيعة العلاقات البيدولية بشكل رديكالي إلى إشكالية الحدود مع ظهور ما يسمى بالدولة “القطريّة” خلال أواخر القرن 19م  إبان تمدد الحركة الامبريالية  وزوال الإمبراطوريات غداة نهاية الحرب الكونية الأولى، الأمر الذي ضيّق مفهوم “الدولة” وجعله أكثر تقنية يخضع لنزعات لغوية وعرقية ودينية، بل يخضع  لشروط محددة باتفاقيات، كاتفاقية  “مونتفيديو” في 26 ديسمبر عام 1933على سبيل المثال.

سيتلقى مفهوم الدولة القطريّة ضربة قوية،  بعد دخول العلاقات الدولية مرحلة “العالم الجديد”  وبروز القطبية الواحدة بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تتزعم المعسكر الغربي إبان القطبية الثنائية؛  فلم يعد للحدود الجغرافية أي معنى إلا في الدول “الثاليثية” التي فضلت الإرتهان إلى هذا الأمر بنوع من الدوغمائية، كسبيل لإخفاء ضعفها السياسي والاقتصادي،  وكشماعة لنسج خيوط قصص المؤامرات الخارجية التي تخال أنها تحاك ضدها وتحول دونها وتحقيق التقدم، في حين ان هذا الإرتهان سيفوّت علىيها سنوات من التقدم و”التحضر”،  وهو الأمر الذي ينطبق على منطقتنا المغاربية نتيجة التغير الجذري في تعاطي النظام الجزائري مع قضية الحدود بعد تأسيس الجمهورية الجزائرية سنة 1962م.

فهل كان بالامكان حل اشكالية الحدود أثناء تأسيس الجمهورية الجزائرية؟ أم أن المغرب أخطأ لما رفض توقيع اتفاق رسمي حول الحود مع فرنسا قبل انسحابها من الجزائر؟.

معاهدة للا مغنية وبداية إشكالية الحدود المغربية الجزائرية:

الجواب السؤالين المحوريين السابقين، يقتضي تتبع تطور العلاقات المغربية الجزائرية وتاثيرها على المنطقة المغاربية برمتها، من خلال رصد  سريع لأهم التطورات المرتبطة بالحدود، مضطرين للعودة إلى معاهدة للامغنية سنة 1845م التي فرضت على المغرب بعد هزيمته في معركة “إسلي” 1844م ؛ لرفضه تسليم الامير عبدالقادر الجزائري للسلطات الفرنسية، هذه العودة هي التي ستمكننا من فهم شعار النظام الجزائري الحالي القائم على شعار ” الحدود الموروثة عن الاستعمار”.

اضطر المغرب لتوقيع معاهدة للامغنية كونه الطرف الضعيف بعد الهزيمة في معركة  “إسلي” لتقتطع أجزاء من ترابه؛ الأمر الذي رفضه السلطان عبدالرحمان ابن هشام (1822-1859) كما يتضح في إحدى مراسلاته لعامله بتطوان، مما جاء فيها:  ” فاعلم أنه لم يصرح فيها بإمضاء الحدود اتكالا على ما في كتابنا لك من قصر الكلام في ذلك عليك، لأن الحاضر بصيرة، ولأن في صدرها لا زلنا على ما صدر منا  في كونها على حدود الترك وما وقع في الزيادة على حدود الترك فلا تفويض فيه ولا نقبله” ، ولأن الحدود مع الإيالة الجزائرية في العهد العثماني غير محدّدة بحواجز ، فقد إستغلت فرنسا هذا الأمر لتتوغل في أجزاء من الصحراء الشرقية للمغرب.

اتفاقية 1961 وإمكانيات استقرار المنطقة المغاربية

رفض السلطان محمد الخامس توقيع اتفاقية جديدة حول الحدود بين المغرب والمستعمرة الفرنسية؛  يسترجع المغرب بموجيها ما اقتطع من صحرائه الشرقية منذ التواجد الفرنسي بالأراضي العثمانية في المغرب الأوسط (الجزائر حاليا) سنة 1830م،  مقابل توقف المغرب عن دعم حركة التحرير الجزائرية، لكن المغرب سيختار توجها مناوءا لفرنسا؛ حيث سيوقع مع الحكومة المؤقتة الجزائریة بزعامة “فرحات عباس”سنة 1961، إتفاقا ينص على الدعم اللامشروط المغربي للحكومة الجزائرية المؤقتة في مفاوضات ایفیان، مقابل التزام الحكومة المؤقتة الجزائریة بأن مشكل الحدود سيحلّ عبر مفاوضات حكومة المملكة المغربیة وحكومة الجزائر أثناء إعلانها.  لكن “بن بلة” سيتحلل من هذا الاتفاق بداعي أنه غير ملزم باتفاقيات الحكومة المؤقتة، ويحاجج بعض الأكاديميين الجزائريين اليوم، بان هذا التحلل لا يعني نقضا للعهد؛  لان هذا الالتزام لا يعني اعتراف “الجزائر” بحدود المغرب.  فهل أخطأ المغرب لمّا رهن مستقبل حدوده باتفاق مع حكومة مؤقتة؟ ام أن انقلابات ومزاجية رؤساء ما بعد فرحات عباس هي التي أخلّت بالعهد وانحرفت عن المسار؟.

معاهدة الإخوة وحسن االجوار بافران 1969، بداية انفراج جديد

وصل هواري بومدين إلى حكم الجزائر بعد انقلابه على نظام أحمد بن بلة سنة 1965م، وقد كان لهذا التحول تأثير مباشر على العلاقات المغربية الجزائرية؛ حيث تبنى موقفا رديكاليا قوامه رفض مناقشة أي مبادرة حول مسألة الحدود المغربية الجزائرية، بل أنه سيلجأ إلى تأميم المناجم تماشيا مع الخلفيات الايديولوجية الجديدة  للجزائر والقائمة على التوجه الاشتراكي في عهد بومدين سنة 1966م، مما أثار حفيظة المغرب الذي لم يقبل إدراج مناجم منطقة تندوف المتنازع حولها في اطار هذا التأميم. تصاعد وثيرة هذا التوثر ستهدأ بعد عقد قمة إفران سنة 1969م بين الراحل الحسن الثاني والراحل هواري بومدين تحت مسمى ” الأخوة وحسن الجوار والتعاون” ونصّت على تصور شامل لحل مسألة الحدود والاستغلال المشترك للمناجم التي تقع في المناطق المتنازع عليها خاصة في بشار وتندوف، هذا الاتفاق يبين اعترافا رسميا جزائريا بمشروعية مطالبة المغرب استرجاع المناطق المقتطعة منه إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر، الأمر الذي سيتوّج بعقد أخر إتفاقية حول الحدود سنة 1972م.

اتفاقية 1972، آخر الغيث

وقّع الراحل الحسن الثاني والهواري بومدين اتفاقية حول مسألة الحدود سنة 1972م سارعت الجزائر إلى نشرها في الجريدة الرسمية سنة 1973م،  في حين تأخر صدروها بالجريدة الرسمية المغربية إلى حدود سنة 1992م رغم تبادل التصديق على الاتفاقية بين الدولتين بالجزائر العاصمة يوم 14ماي  1989م، هذا التأخّر ترجعه بعض التحليلات  المغربية إلى الظروف الداخلية التي كان المغرب يعرفها خلال السبعينيات من القرن الماضي، في حين ترجعها بعض التحليلات الجزائرية الى عدم رضى المغرب بفحوى الإتفاق.  ونحن نرى أن الأمر له علاقة بالتوجهين معا، ونظيف معطى ثالث يتعلق برفض النظام الجزائري لاتفاقية مدريد سنة 1975 م  والعمل على ابتزاز المغرب عبر استغلال ورقة الجبهة الانفصالية المصطنعة (البوليزاريو).

بغض النظر عن مضمون اتفاقية 1972م ، وهل اقتنع  المغرب بمضمونها أم لا؟، وفي ظل حرص النظام الجزائري على إثارة بعض القلاقل الحدودية، وحرصه على التملص من كل الاتفاقات العرفية كما هو الأمر في قضية العرجات، نثير اليوم إلحاحية حسم هذا الصراع وعدم تركه يطول اكثر حتى وإن اقتضى الأمر اللجوء الى التحكيم الدولي. فإطالة زمن هذا الصراع يؤخر مسألة تنمية المنطقة المغاربية لسنوات ويقضم من إمكانات شعوب المنطقة بوثيرة تزداد وثيرتها كلما استدام هذا الصراع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *