وجهة نظر

دروس الإقصاء..

أطلق الحكم البرازيلي ويلتون بيريرا سامبايو صافرته معلنا النهاية الرسمية لمباراة ربع نهاية كأس العرب المقامة بقطر. ومر الفريق الجزائري لدور النصف حيث سيواجه الفريق المضيف. وأقصي الفريق الوطني المغربي الرديف، وانتهى الأمر. ستُطوى كل حيثيات المباراة التي أسالت الكثير من المداد. وسيتفرغ المسؤولون عن الشأن الرياضي ببلادنا للإعداد للمرحلة القادمة، وعينهم على مونديال قطر السنة القادمة. فلنطو إذن صفحة مباراة الجارين اللذوذين. ولنتفرغ لأمور أخرى، ونوقف سيل التعليقات، وتبادل التهم حول المسؤول عن الإقصاء، والكيفية التي تم بها.

لكن مهلا، قبل أن نطوي الصفحة، ينبغي قراءتها، واستخلاص ما يمكن استخلاصه منها من دروس، فالأمر لم يكن مجرد مباراة في كرة القدم علينا نسيانها بمجرد إطلاق الحكم لصافرة النهاية، لنتفرغ سريعا لشؤوننا. فالأمر أبعد ما يكون عن مجرد مباراة عادية، مثل مثيلاتها التي تكاد تجرى يوميا، بل هي مباراة توقفت بسببها الحياة في بلدين متجاورين، يجمعهما أكثر مما يفرقهما. لكنهما راهنا على المقابلة لتوجيه ضربات قد لا يسمح الزمن بتوجيهها من هذا الطرف أو ذاك في الظروف العادية. فما سبقها من معارك لفظية، وإن بدت صغيرة، وما سبقها من تشنج، واستعداد للأسوء من الأجهزة المسؤولة في البلدين، لخير دليل على ذلك.

يكفي أن نشير أن متابعة اللقاء عرفت نسبا قل تحقيقها فيما عداها. المقاهي حُجزت جميع كراسيها، وامتلأت الممرات بها والجوانب، أما المنازل فهي الأخرى أعلنت فيها حالة الطوارئ، وأُجلت متابعة أية قناة غير تلك الناقلة لأطوار اللقاء إلى أجل. بسبب كل هذا، وغيره كثير، علينا أن نقف عند دروس المباراة/الظاهرة، ونستخلص دروسا للإقصاء، وأخرى للفرح المؤجل، وغيرها للتعامل مع الظروف الحرجة.

أول درس يجب الوقوف عنده بكثير من الاهتمام والتركيز يكمن في كون الجانبين (المغربي والجزائري) راهنا على مباراة في كرة القدم لتوجيه ضربات تحت الحزام للجانب الآخر، محاولا استغلال فرصة قد لا يجود الزمن بمثلها. وقد يكون الأمر مقبولاً لو بقي محصورا في فئة من المشجعين الذين تابعوا البطولة العربية، بعيدا عن تهيبج مواقع التواصل الاجتماعي، واستعداد كل طرف لخوض معركة استباقية ضد الطرف الآخر.

كما غاب عن الجميع أن الأمر مجرد “لعب” بكرة مليئة بالهواء، لا تستقر على حال، في لعبة تخضع لكل الاحتمالات، مما يجعل من الركوب عليها لتحقيق انتصارات وهمية، مقامرة غير محمودة العواقب. والعقل كان يستدعي ألا نمارس ضغطا على أنفسنا، ونترك اللاعبين يستعدون في هدوء. وقد يرمي طرف باللائمة على الطرف الآخر ويقول، الآخرون كانوا أكثر تشنجا منا، ويقدمون الشواهد والأدلة، وقد يجدون منها الكثير.

لكن بالنسبة لنا، نحن المغاربة، لنأخذ العبرة من موقف عاهل البلاد الذي ما فتئ يمد يده للطرف الآخر من أجل إرجاع المياه إلى مجاريها، لكنه لما لم يجد آذانا مصغية، كف عن ترديد الدعوة إلى استئناف العلاقات في خطابه الأخير، ولم يشر فيه إلى الجيران ولو بالإشارة، وأعلن أننا سائرون…

ثاني درس في هذا الإقصاء، هو أننا لا نستفيد من التاريخ، ونأخذ العبر من أحداث سابقة لتجنب المزالق. التاريخ يؤكد أنه كلما وضعتنا الصدفة في مواجهة جيراننا، إلا نسينا أن الأمر أبعد من السياسة، وحين لا نتمكن من تجاوز الخصم، نقع في حرج. وإن كنا هذه المرة لم ننجر رسميا إلى تصريحات شبيهة بتلك الصادرة عن عميد المنتخب الوطني المغربي، ليمان، قبل مباراة الذهاب برسم إقصائيات الألعاب 1980 التي جرت بالبيضاء في دجنبر 1979…. والتي انتهت بفوز الجزائر بخمسة أهداف مقابل هدف واحد.

قبل أن نغلق هذا القوس، أدعو إلى أن نجعل نصب أعيننا، مبادئ باعث الألعاب الأولمبية الحديثة الفرنسي، بيير دي كوبرتان، الذي وضع مبدأ أساسيا للدورات الأولمبية يرتكز على أن “أهم شيء في الألعاب الأولمبية ليس الانتصار بل مجرد الاشتراك.. وأهم ما في الحياة ليس الفوز وإنما النضال بشرف”، دون أن نغفل ما تقوم به الفيفا من عمل حثيث من أجل محاربة التنمر داخل الملاعب، ومحاربة العنصرية.

درس آخر يجب أن لا نغفل عنه مرتبط بتصريحات المدرب الحسين عموتة التي أكد فيها أنه لم يفهم ما حدث، رابطا بين الطريقة التي خاض بها اللاعبون المغاربة المباراة، ووقوعهم تحت الضغط. إشارة أريد أن أركز عليها لأشير أنه لا يكفي أن ندخل الميركاتو حسب أجندة الفيفا، ونبني ملاعب من مستويات عليا، ونحول الفرق إلى شركات وما إلى ذلك، لنقل إننا أصبحنا نلعب كرة عصرية، وهو ادعاء ليتحقق، نحن في حاجة إلى ثورة فكرية تستهدف جميع مناحي الحياة، شبيهة بالثورة الفرنسية التي جاءت على جناح عصر الأنوار. وقد يقول قائل: ما العلاقة بين مباراة في كرة القدم، والحركية الإنتاجية التي قد تصنع ثورة فكرية. أقول، إن العلاقة هي أننا في حاجة إلى أن نفكر، ونتخذ القرارات في جميع مناحي الحياة، مستحضرين أن اتخاذ القرار، علم يّدرس، له مناهجه.

وفي الظروف التي نتحدث عنها، نؤكد أن فريقا من مستوى عال، يكون في حاجة إلى فريق للتأطير. يعمل من أجل هدف واحد، هو تمكين اللاعبين من خوض المنافسات في أجواء محفزة على العطاء أكثر. الفريق في حاجة إلى مدرب، ومعد بدني، وطباخ، ومدرب حراس المرمى. لكنه في حاجة أيضا، إلى معد نفسي، يعد الفريق لمواجهة الضغط. وفي انتظار ذلك، فلا أقل من عزل اللاعبين عن الضغط.

طبعا، لم تكن أجواء اللقاء كلها سلبية، فقد عرف إضاءات، يستحق اللاعبون من الجانبين التنويه عليها. إذ أنه رغم الضغط الممارس على الجانبين، فلا أحد تجاوز حدود المنافسة الشريفة. وغاب التشنج والاعتداءات التي تكون مثل هذه اللقاءات مرشحة لتسجيلها. وأبدى اللاعبون وعيا عاليا في التعامل مع لاعبي الطرف الآخر. كانت الأخطاء، وكانت بعض التدخلات التي قد تبدو عنيفة، لكنها من ملامح اللعب الرجولي، وهو أمر مطلوب. وحضرت في المقابل، مشاهد تنم عن وعي ومسؤولية ولباقة. أتحدث عن مشاهد المصافحة، والعناق، وتبادل الابتسامات المعبرة عن الفهم للآخر، ومشاركته المشاعر، فكانت بحق لحظات جديرة بالاحترام.

في النهاية، أبوح بسر. كلما توفرت لي الفرصة لمتابعة مباراة هامة، بلغة غير لغة معلقي القنوات العربية، إلا وفعلت. أقوم بذلك غالبا في مباريات البطولات الأوروبية: الإسبانية، الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، وعصبة الأبطال الأوروبية… طبعا ليس للأمر علاقة بموقفي من اللغة العربية، التي أحبها، وأقرأ بها، وأكتب بها.. بل فقط لأن الفريق العربي في القنوات الرياضية، سن سنة لم أرتح لها مطلقا. تتسم بالصياح والزعيق، بسبب أو بدونه، والكلام الكثير الفاقد للمعنى، وخلط الأمور، ودغدغة المشاعر. بل والأخطر من ذلك، التجييش، ونهل التعابير من مجال الحروب. وهو عامل من عوامل الضغط، يقوم بكل شيء، إلا جعلك تستمتع بمنافسة رياضية جميلة. رجاء… استعملوا في التعليق على مناسبات رياضية عربية، لغات بعيدة عن دغدغة المشاعر.

* عبد العالي عبد ربي البقالي.. إعلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *