وجهة نظر

أي جهاد هذا..

صحيح أن الجهاد في الإسلام يعد عماد الدين و رأس سنامه، بالإضافة إلى أنه شغل حيزا واسعا في ساحة النظر و الحجاج تبينا لماهيته وحده و أثره و ضابطه، و ذلك لكونه من المفاهيم التي يطال أثرها مستويات متباينة في حياة الأمة و حركيتها امتدادا و انكماشا تألقا و تخلقا.

بالمقابل، نجده وقع فيه اختلاف كبير في فهمه، حتى اشتط به البعض فقزموه و جمدوه، و اشتط به آخرون حتى سلكوا به مسلك الرعاع و قطاع الطرق. و المتتبع للحركة الجهادية في تاريخ الأمة ليجد أن الجهاد تعرض لأشد أنواع الانحراف، كما تعرض لأشد أساليب و طرق الاستغلال و التوظيف خصوصا في المجال السياسي، حتى اختلط الأمر على المتتبعين بما يقع اليوم في بلاد المسلمين من جهاد إسلامي.

ففي الوقت الذي خرج فيه مئات الآلاف من المتظاهرين في العالم العربي يطالبون بالكرامة و الحرية و محاربة الفساد، حيث الشعوب أضناها الاستبداد و تاقت للحريات و الديمقراطية، قذف التاريخ بحركات عنيفة و مسلحة تستظل بمظلة الجهاد و تشحذ أذهانها بمسن من العصر الحجري، و تصر على أن تعود بالمنطقة ككل، بقوة الحديد و النار، إلى عهود دارسة. حتى صار الواحد منا يتساءل و هو يتابع الأخبار اليومية، هل الأصل نشدان السلم أم القتال ؟ و هل فعلا تبقى للقيم و الأخلاق قائمة أم أن الغاية تبرر الوسيلة ؟

خلال زمن قصير، استطاع الفهم الخاطئ و المشوهة للجهاد أن يدمر ما بناه مجتمع كامل خلال آلاف السنين…و أصبحت الكراهية و الأحقاد المتبادلة و الثأر لب العلاقة بين مكونات المجتمع. نعم، ربما تستطيع المجتمعات و الدولة في سورية و العراق و ليبيا و اليمن….إعادة بناء البنيات التحتية و تشييد المرافق العامة على امتداد عقد أو عقدين من الزمن….لكن كم من الأجيال تلزم لإعادة بناء الإنسان، و استعادة المحبة والوئام بين أبناء المجتمع الواحد في كنف المواطنة ؟؟

و من منطلق المحققون الذين أكدوا على أن الأحكام لم تشرع إلا لتحقيق مصالح العباد في المعاش و المعاد، و أن أي حكم خرج من المصلحة إلى المفسدة، أو من العدل إلى الظلم، أو من الرحمة إلى القسوة، أو من الحكمة إلى العبث، فليس من الشريعة في شيء….. و لمحاولة بصم هذا الخلل فيما نقرؤه و نسمعه اليوم عن الجهاد، الداعشي مثلا، من مفاهيم غريبة، و أحكام عجيبة، و مناهج في الاستدلال أغرب و أعجب …….هذا إذا علمنا جهاد العدو ما هو إلا صورة من مئات صور الجهاد……من هنا كان الشعور بضرورة مقاربة الموضوع و إصباغ قيمة جديدة على معيار الفهم الصحيح و دوره في التأثير الايجابي لا السلبي.

أصبح اليوم لزاما على الفرد المسلم أن يجتهد لتصحيح المفاهيم السياسية الإسلامية الأساسية و العمل على تحويلها من مفاهيم دينية محضة إلى دينية مدنية تقبل بالآخر و تعمل على إيجاد أرضيات توافقية بين مختلف الأطراف…… اليوم قد يكون التحصين الأمني، التي تتخذه الدولة ضد العمليات الإرهابية، أمرا مهما في مثل هذه الوضعيات، و لكن التحصين العلمي و الثقافي يبقى هو المهم، و بصورة خاصة محاولة تفعيل مجالات ومؤسسات الإدماج الاجتماعي، و ربط الترقية الاجتماعية و السياسية بالكفاءة و الاستحقاق، و إعطاء قيمتي العدالة و المساواة طابعا ملموسا و مشخصا.

و إذا كان الفقه السياسي، و الفكر السياسي، ككل، لم يأخذ حقه من البحث و التعمق قديما، كما أخذ فقه العبادات و المعاملات و الأنكحة و نحوها، و هو كذالك اليوم يشوبه كثير من الغبش و التباس المفاهيم، و اضطراب الأحكام، و تفاوتها في أذهان العاملين للإسلام، تفاوتا يجعل المسافة بين بعضها و بعض كما بين المشرق و المغرب…. فان الجهاد الحقيقي اليوم، و خصوصا بعد الحراك العربي و بروز الإسلام السياسي كفاعل جديد في اللعبة السياسية، هو جهاد الفهم الصحيح، و العلم الدقيق، و الاستنباط السوي، و بالتالي ضرورة التسلح بفهم سياسي جديد يستمد معينه و قيمه من الدين، و يسعى بالتالي إلى إقامة حوار موضوعي بين النظام السياسي الإسلامي و الديمقراطية الغربية.

ــــــــــــــ

باحث بجامعة عبد المالك السعدي بطنجة