منتدى العمق

الشعر العربي بين الجمالية والإهمال

لفتَ انتباهي شيءٌ مهمٌّ جداًّ وأنا أقرأ حياة الشاعر الألماني (غوته).فهذا الشاعر ومواطنه (شيلر) يعتبران من أجود الشعراء في القرن التاسع عشر.

وما لفتَ انتباهي هو أن هذا الشاعر كان متأثرا تأثيراً شديدا بالشعر العربي وبقصص ألف ليلة وليلة. وقد كان قاب قوسين أو أدني على أن يُترجم المعلقات السبع إلى اللغة الألمانية.

فعلى ما يبدو أن للشعر العربي ميزة خاصة في نظر المستشرقين في حين أن العرب لا يولونه الأهمية التي يتطلبها. وأنا كشاعر مبتدئ، وبما مكنني الله به من ذوق وجدت أن الشعر العربي له جمالية خاصة لا تجدها في شعر المستشرقين. فمثلا البكاء على الأطلال أو التغزل بالحبيب قلما ستجده في الشعر الغربي. فالشاعر العربي مشاعره وخياله بعيدٌ كل البعد عن خيال ومشاعر الشاعر الغربي. فأنتَ مثلا إن قُمتَ بقراءة (كليلة ودمنة) لابن المقفع، ستجد تباعدا كبيرا ومفارقة عجيبة بينه وبين (لافونتين) ولو أن الكاتبين معا لهما نفس الأطروحة الأدبية.

وقد تقرأ شعر جرير مثلا ثم من بعده شعر (فيكتور هوجو)،لكنك ستخرج مقتنعاً بأن الشعر العربي أقوى وأعمق من الشعر الغربي. فالعاطفة العربية جيَّاشة بدرجة حرارية أكثر من اللازم، في حين تلمس في الشعر الغربي برودا يجعلك تنفر من قراءته.

وأنا أجد، في نظري، أن المعلقات السبع وقصص ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة من الآثار الخالدة التي لا يملك الغرب مثلها في أدبهم. لكن الغريب في الأمر هو أنه ليست عندنا منابر تهتم بهذا الشأن حتى أصبح من الظاهر أن نرى أن اللغة العربية هي نفسها قد فقدت بريقها نظرا لما دبَّ في هذه الأمة العربية من جهل برموز تراثها الخالد.

والمسألة في حد ذاتها تتعلق بالأساس بالمنظومة التعليمية.هذه المنظومة فرَّطتْ في كل شيء، واختزلت كل شيء حتى لم تعد هناك أي قابلية من لدن المتعلم لنهل العلم والأدب. فنحن نرى في أمة مثلا كألمانيا، إنْ قام أحد الباحثين بالتفكير في نشر بحث في ميدان من الميادين فإنه يجد أياد مفتوحة لمساعدته في ذلك، ماديا ومعنويا.

أما لو قُمتَ مثلا أنت بالتفكير في نشر بحث عن المعلقات وتأثيرها في الشعر الغربي فلن تجد أذناً صاغية أو يدا ممدودة لأن من سمة أمة العرب حاليا هو إغناء الساحة الثقافية بهذه المهرجانات المائعة التي تُفسد هويتنا أكثر مما تضفي الفرح والانشراح في النفوس. ولن نبتعد كثيرا حين نقول بأن جل المفكرين أصبحوا نِسيا منسيا وأقصتهم الرقابة عن الإبداع ومنحتْ أشخاصا كل التسهيلات لنشر الأفكار الرذيلة في المجتمع كما نرى ذلك جيدا في أعمال المخرجين والصحافة.

والحديث هنا يطول؛ لكن يبقى أنَّ الذوق الجميل والاستيعاب الموضوعي لا يتأتى هكذا من غير جهد وعناء. وهذا الجهد والعناء تفرضه الدروس التربوية. فالتعليم هو عصب كل مجتمع، ومنه يخرج المبدعون والفنانون والمفكرون والعلماء. ولم نسمع يوماً عن أمي أو جاهل أصبح فيما بعد نابغة، فهذا مستحيل.

ولا أريد الرجوع إلى العهد القديم لأُعطي عِبَراً، وإنما فقط أقول، وبكل ألم، أنه إن تسيَّدَ الجُهال فقلْ آنذاك وداعاً للتعليم والتعلم. فأنكرُ شيء بالنسبة للجاهل هو أن يرى إنسانا آخر يفوقه علماً. وإن كنّا نفوق هؤلاء الجهال علماً لطالبناهم بالرحيل ولعزلناهم أن يسوسونا لأن الحمير لا تسوس ذوي العقول.