منوعات

اعتبره علماء سر السعادة .. تعرف على “التدفق الذهني”

من أكثر ما شغل اهتمام الناس على مر العصور بحثهم عن السعادة وأسباب تحقيقها. لذلك فاعتبار “التدفق الذهني” سرها، يجعل منه مفهوما لا يقل إغراؤه قوة عن إغراء السعادة نفسها. فما هو “التدفق الذهني”؟ ولماذا يوصف بأنه سر السعادة؟ وكيف يؤثر في الصحة النفسية؟ وكيف يتحقق؟

شرع عالم النفس الشهير “ميهالي تشيكسينتميهاي” (Mihály Csíkszentmihályi) في إجراء أبحاث عن حالة التدفق الذهني في سبعينيات القرن الماضي، حسب “الجزيرة نيت”، ووصفها بأنها “سر السعادة” وأنها “التجربة المثلى” التي تجعلنا نشعر بالرضا الحقيقي.

ومنذ ذلك الحين، اجتذب مفهوم التدفق الدهني اهتمام الكثير من الباحثين الذين كرسوا أبحاثا للبحث في هذه الحالة الذهنية وأهميتها لصحتنا النفسية، حسب نفس المصدر. واختصارا، يعرف التدفق بأنه حالة من التركيز الحاد، يستغرق فيها المرء في النشاط الماتع أو المفيد الذي يؤديه في حالة استغراق تام، فلا ينشغل بما عداه.

وفي مقال نُشر على موقع “ذا كونفرسيشن” (The Conversation)، يشرح ريتشارد هاسكي -وهو الأستاذ المساعد للتواصل والعلوم المعرفية بجامعة كاليفورنيا الذي عكف على دراسة مفهوم التدفق على مدى 10 سنوات- حالة التدفق الذهني وفوائدها لصحتنا النفسية.

ما هي حالة التدفق الذهني؟

يقول تشيكسينتميهاي إن الحياة السعيدة هي التي تتسم بالاستغراق الكامل في المهمة التي تؤديها. ويصف ريتشارد هاسكي حالة التدفق بأنها حالة من التركيز الحاد التي تجعل المرء لا ينشغل سوى بالنشاط الذي يعكف على تأديته، وحينها يفقد الإحساس بالوقت ويشعر كأن تصرفاته تتماهى مع وعيه وأن جميع الأمور تحت سيطرته.

والأهم من ذلك أن هذه الحالة لا تستنفد الطاقة، فلا يشعر المرء بعدها بأنه منهك بدنيا أو ذهنيا. ويصف الباحثون تجربة التدفق بأنها تبعث على الرضا والسعادة بلا مجهود.

كيف نصل إلى حالة التدفق الذهني؟

يقول هاسكي إن الوصول إلى حالة التدفق يقتضي وجود توازن بين صعوبة المهمة وبين مستوى مهارة المرء، وكلاهما في الواقع يجب أن يكون مرتفعا. فلن تشعر بحالة التدفق على سبيل المثال، عندما تغسل الصحون. فمع أن الكثيرين من الناس بارعون في غسل الصحون، إلا أن مهمة غسل الصحون ليست مهمة صعبة.

وفي السبعينيات من القرن الماضي، حين كان تشيكسينتميهاي يجري أبحاثه عن التدفق، ركز على الأشخاص الذين يستمتعون بالمهام التي يؤدونها، كالسباحين والملحنين ولاعبي الشطرنج والراقصين ومتسلقي الجبال وغيرهم.

وشرع تشيكسينتميهاي في البحث عن كيفية الوصول إلى حالة التدفق عند تأدية التجارب اليومية. فبعض الناس مثلا يصلون إلى حالة التدفق الذهني عند تسلق الجبال أو ممارسة اليوغا أو ركوب الدراجات أو الطهي أو الركض، ما دامت المهمة التي يؤدونها تنطوي على بعض التحديات، وما دام المرء يتمتع بمهارة عالية تجعله قادرا على تأديتها.

وخلصت دراسة نشرت في عام 2004 إلى أن حالة التدفق قد تتحقق من خلال الاستمتاع بممارسة وسائل التواصل التفاعلية، مثل ألعاب الفيديو، عندما يكون محتوى الرسائل متناسبا مع قدرة المرء على تفسيرها.

وذكر تشيكسينتميهاي في كتابه “ما وراء الملل والقلق: تجربة التدفق في العمل واللعب” (Beyond Boredom and Anxiety: Experiencing Flow in Work and Play) “أن الألعاب من الأنشطة التي لا شك أنها تساعد على الوصول إلى حالة التدفق، واللعب هو أفضل تجربة تدفق بلا منازع”. ولهذا يهتم مطورو ألعاب الفيديو، بإضافة عناصر التشويق لألعاب الفيديو التي يصممونها حتى يصل اللاعب إلى حالة التدفق.

لماذا توصف حالة التدفق الذهني بأنها سر السعادة؟

خلصت دراسة نشرت في عام 2020 إلى أن التحكم في الذات وضبط النفس يساعدان الناس في تحقيق أهدافهم طويلة الأمد. وقد ثبت أن الحصول على فترة استراحة لأداء نشاط ماتع قد يسهم في تعزيز التحكم في الذات. وقد ربطت دراسات عديدة بين التحكم في الذات وبين السعادة والرضا.

وأشارت دراسة نشرت في دورية الجمعية الملكية عام 2021، إلى أن ممارسة ألعاب الفيديو قد تنعكس إيجابيا على الصحة النفسية. لكن الباحثين وضعوا شروطا لتحقيق فوائد صحية من ممارسة ألعاب الفيديو، منها أن تشبع اللعبة الاحتياجات الرئيسية للاعب من خلال تحفيزه واستمتاعه باللعب. ففي حالة وجود تنافس أو شعور اللاعب بأنه مجبر على اللعب، سينعكس اللعب سلبا على الصحة النفسية.

وأشارت دراسة نشرت في دورية “نيوروساينس آند بيوبيهيفيرال ريفيوز” (Neuroscience & Biobehavioral Reviews) إلى أن التسامي الذاتي، من خلال ممارسة الاستغراق الذهني أو التركيز الحاد عند أداء نشاط ديني، يساعد المرء على الصمود في وجه المصاعب، عن طريق تثبيط نشاط شبكة الوضع الافتراضي بالدماغ.

وأشارت دراسة نشرت في دورية “أميركان سيكولوجيكال أسوسييشن” (American Psychological Association) إلى أن التدفق الذهني يساعد على صرف الانتباه عن الأمور المثيرة للضغوط النفسية والتركيز في المقابل على نشاط ماتع.

ولاحظ باحثون أن ممارسة التدفق الذهني في أوقات الانتظار وعدم التيقن خففت المشاعر السلبية المرتبطة بالانتظار وعززت المشاعر الإيجابية.

وأشارت دراسة نشرت في دورية “جورنال أوف أفيكتيف ديسؤوردرز” (Journal of Affective Disorders) إلى أن التدفق الذهني قد يسهم في حمايتنا من الإنهاك النفسي والاكتئاب.

ما الذي يحدث للدماغ في حالة التدفق الذهني؟

أجرى باحثون دراسة على 23 مشاركا باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، لمراقبة التغيرات التي تطرأ على الدماغ عند الدخول في حالة التدفق.

ولاحظوا وجود نشاط زائد في المناطق المرتبطة بالمكافأة والتحفيز من الدماغ عند الوصول إلى حالة التدفق. وهذا يفسر شعور الناس بالسعادة والمتعة أثناء الاستغراق التام في الأنشطة التي يمارسونها.

وصمم هاسكي لعبة فيديو لمراقبة ما يحدث في الدماغ أثناء التدفق، وكان مستوى صعوبة اللعبة متوافقا مع مهارات المشاركين. ولاحظ أن التدفق الذهني لا يتطلب بذل قدر كبير من الطاقة، ولهذا لا يشعر المرء بالإرهاق البدني أو الذهني عند الدخول في حالة التدفق.

ووفق الدراسة التي نشرت في دورية “أميركان سيكولوجيكال أسوسييشن” فإن تأثير التدفق على الصحة النفسية مرده إلى 3 أسباب، أولا أنه يثبط نشاط المناطق المرتبطة بالتركيز على الذات من الدماغ وثانيا أنه يحفز نشاط المسارات العصبية المرتبطة بالمكافأة من الدماغ وبذلك يعزز التفاؤل والترابط الاجتماعي ويحجب تأثير الضغوط النفسية، وأخيرا يخفض استجابات المناطق المرتبطة بالمشاعر السلبية، مثل لوزة الدماغ.

وشرع مختصون نفسيون في ضوء هذه الأبحاث في استخدام ألعاب الفيديو للمساعدة في معالجة بعض المشكلات النفسية، مثل اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه وربما يصف الأطباء مستقبلا ألعاب فيديو معتمدة من هيئة الغذاء والدواء الأميركية لمساعدة المرضى في التخلص من الاكتئاب.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *