وجهة نظر

“تمغربيت” وحوار الحضارات

حينما أبدعنا في التأصيل لـ”تمغربيت” منذ ثلاث سنوات، وجعلناها شعارا لمشروعنا السياسي (الذي يسير إلى الأمام بخطى ثابتة)، لم نكن نحلم، أو نخبط خبط عشواء أو “ننطق عن الهوى”، إن الأمر كان نتاجا لتفكير عميق، لتحليل وتمحيص لحركة التاريخ، واطلاع على سيرورة تطور الفكر الإنساني، و التحولات الدولية على كافة الأصعدة، وبالنظر إلى السياق التاريخي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للوطن، موقعه الإستراتيجي وتنوعه و تاريخه العريق، وحظوظ تحقيقه لتموقع أقوى على الساحة الدولية في الوقت الراهن، بناء على التراكمات التاريخية والتنموية ومكانته المتميزة إقليميا وقاريا، لقد استشعرنا حينذاك بوادر فعل وطني جدي وناجع في اتجاه إستعادة نخوة “تمغربيت” كهوية جمعية تستمد قوتها من تاريخ وحضارة عريقين منفتحين على كل ما هو مفيد وجميل في الحضارات العالمية، يمكن أن تتأسس عليهما نهضة مغربية جديدة، نهضة تواجهها بعض العراقيل من قبيل الفساد و ضعف الأحزاب السياسية و تردي ديمقراطيتها الداخلية، و تدهور المنظومة التربوية و هشاشة الجبهة الداخلية، بالإضافة إلى الفوارق الطبقية والمجالية، وعوامل أخرى يمكن التغلب عليها بتظافر جهود الجميع بشكل تشاركي، في سبيل هذه النهضة الممكنة، التي نلمس روحها بشكل أكبر في سياستنا الخارجية وتموقعنا القوي داخل القارة الإفريقية، و بداية تحويل طاقاتنا المتجددة إلى مشروع يغري العالم، في عالم تتقاذفه أمواج التقلبات المناخية و الأزمة الطاقية والحروب البيولوجية.

إن صراع الحضارات عبر التاريخ واقع لا يمكن تجاهله، والمطلوب منا كمؤمنين ب”تمغربيت” و ب”القيم الكونية”، أن نرسخ وندافع عن عدم وجود تعارض بين بناء وتقوية “الذات” أي الخصوصيات الثقافية والحضارية من جهة، وتملك المبادئ الكونية لحقوق الإنسان وقيم الحداثة من جهة أخرى، إن الأمر بالنسبة لنا بمثابة فكرتين متكاملتين لا متضادتين، فالمغرب كان فضاء للتلاقح والتلاقي بين مختلف الثقافات والأديان عبر القرون، هدفنا الحفاظ على هويتنا وثقافتنا والمساهمة في نفس الوقت في تمتين جسور الحوار بين الثقافات و استمرار التلاقح بينها بما يغني مستقبل البشر.

لقد سلط صامويل هنتغتون، الضوء في كتابه “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي”، على الدور المفصلي لعنصري الثقافة والهوية في تشكيل عالم الغد، فصراع ما بعد الحرب الباردة ونهاية الثنائية القطبية، حسب صامويل، يتمحور حول الانتماءات الحضارية والثقافية، ويستدعي الصراع الثقافي الاهتمام بالذاكرة كإحدى أهم ركائز الهوية الرمزية، وهنا يكون هنتغتون بصدد التنظير ل “تفوق حضاري” يؤدي إلى ممارسة الاضطهاد لفرض المنظومة الثقافية لمن يحس بنفسه متفوقا، على حساب “ثقافات دونية”، من خلال تبخيسها عبر ترسانة إعلامية ضخمة، تعمم تصورات مغلوطة تتمكن من ترسيخها حتى في وجدان أصحاب الهوية المستهدفة أنفسهم، لتتحول إلى هوية منهزمة ذاتيا.

فوكوياما ألف كتابه ردا على مؤلف تلميذه فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، الذي زعم فيه، ممتطيا صهوة “الدياليكتيك الهيغلي”، بأن تطور التاريخ البشري كصراع بين مختلف الأيديولوجيات إنتهى، متوقعا انتصار الليبرالية السياسية والاقتصادية التي يعتبرها تتويجا للتطور الإيديولوجي، مدعيا أن تطور المجتمعات البشرية يكتمل عندما تجد البشرية التنظيم الاجتماعي الذي يشبع احتياجاتها الطبيعية والأساسية، يقول فوكوياما: “ما نشهده ليس مجرد نهاية للحرب الباردة، أو مرور فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، ولكنها نهاية التاريخ على هذا النحو … هذه نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وبداية عولمة الديمقراطية الليبرالية كشكل نهائي للحكومة الإنسانية”.

لقد أخطأ هنتغتون في التفاصيل، حينما قدم قراءة سطحية للعالم الإسلامي بعدما جعله متناقضا مع الغرب وفي مواجهة معه، باعتباره كيانا جيوسياسيا موحدا، وكأنه تقمص نظرية “جماعة الإخوان المسلمين” وروادها الأوائل الذين تحدثوا عن ما يسمى ب “الثورة الإسلامية العالمية”، متناسيا أن هناك صراعات داخل المنظومة الإسلامية نفسها (الشيعة / السنة، الوهابية/ الإخوان…)، صراعات تغذيها انتماءات ثقافية و حضارية خارج الدين (إيران/ الفرس، تركيا/ العثمانيين، القوميون العرب…)! و أن لأغلبية المسلمين غير معنيين بهذا الصراع بنفش الشكل الذي يصور به، اللهم إن تحدثنا عن الإسلام السياسي.

وكي نفهم نظرية هنتغتون حول صراع الحضارات، وقراءة ما بين السطور، علينا قراءة مؤلفاته الأخرى ومن بينها كتاب “من نحن؟” الذي أبان فيه عن ميول قومي متطرف، عندما اتهم المكسيكيين بخلخلة تجانس وتماسك الهوية الأميركية أو من يسميهم “الرجال البيض”، حيث صور الناطقين بالإسبانية كجماعة إثنية ولغوية مغلقة، لم تستوعب المحددات الثقافية التي صاغها المهاجرون الأوائل المؤسسون للأمة الأميركية، متناسيا أن هؤلاء المهاجرون أنفسهم أسسوا كيانهم الثقافي والهوياتي فوق جثت السكان الأصليين الذين تمت إبادتهم.

لقد أخطأ فوكوياما هو الآخر حينما حاول أن يبشر العالم ب”الرأسمالية” أو ما يسميه “الديمقراطية الليبرالية” كمخلص للإنسان، وكآخر نظام سيوحد الشعوب التي ستجد أخيرا ضالتها في هذه المعجزة، لكنه بعدما شاهد بنفسه أن دفة التاريخ لم تستجب له كثيرا مع مرور الزمن، صرح “أن الديمقراطية الليبرالية قدمت إطارا للنقاش بشأن سياسات القرن الواحد والعشرين، وأن هناك الآن فكرة مختلفة تعتبر أقل ليبرالية وتعتمد على رأسمالية المراقبة أو الاعتداء النيوليبرالي على الديمقراطية، وقد تحدد المستقبل”، ثم عاد في زمن كورونا ليقول أن عالم ما بعد الجائحة قد يتمخض عنه تراجعا نسبيا للولايات المتحدة خلال الأعوام المقبلة، وأن هناك الكثير من الانزلاقات غير المتوقعة للديمقراطية الليبرالية، كتلك التي تجسدت في صعود وسقوط دونالد ترامب”.

حول مسألة الهوية يقول فوكوياما في كتابه: الهوية السعي نحو الكرامة وسياسة الامتعاض، “تنمو الهوية في المقام الأول من التمييز بين ذات المرء الداخلية الحقيقية، والعالم الخارجي ذي الأعراف والقواعد الإجتماعية التي لا تعترف بكرامة الذات الداخلية وقيمتها… لطالما وجد الأفراد أنفسهم على مدار التاريخ في مواجهة مجتمعاتهم، لم تحظَ الذات الداخلية بالتقدير إلا في العصور الحديثة لقيمتها الجوهرية، وأخطأ المجتمع الخارجي بشكل منظم ومجحف في تقييمه لها، لا يتعين على الذات الداخلية التغيّر لمواجهة قواعد المجتمع ولكن على المجتمع أن يتغير بحد ذاته”. ويقترح فوكوياما عوضاً عن الدين كمعيار للمواطنة المقدسة، وعن الثقافة والإثنية، انتماء مجتمعيا مرتكزا على الفردانية و “القيم الليبرالية المتوافق عليها عالميا”، وما هذه القيم التي يبشرنا بها فوكوياما سوى قيم الليبرالية الغربية (الأمريكية تحديدا) التي وعدت الناس بتدفق أكبر للثروات إلى الأسفل، لتظل في الوقع محصورة في الأعلى، نظام اقتصادي عمق الفوارق يوما بعد اليوم، وثقافة مبنية على الإلغاء و الهيمنة على حساب هذا التنوع الذي أغنى الحضارة العالمية عبر التاريخ.

إذا كان هنتغتون وفوكوياما، قد نظرا لتفوق غربي (بقيادة أمريكية) يجب أن يستمر، من خلال تركيز الأول على مركزية الثقافة والهوية في تحديد معالم مستقبل العالم، والثاني على الديمقراطية الليبرالية التي حولها هي الأخرى إلى هوية جديدة، فإن كتابات المهدي المنجرة كانت بالنسبة للكثيرين، بمثابة صوت للجنوب ضد غطرسة الشمال، ضد العولمة، مركزا هو الآخر على الثقافة والقيم كمحور أساسي لصراع الحضارات، مدافعا عن ما يعرف بدول “العالم الثالث” في تطوير أنظمة تنموية مستقلة تتوافق مع منظومة قيمها وتراعي خصوصياتها الثقافية والاقتصادية، حيث يعتبر بأن التخلف الذي يعانيه العالم الثالث هو تخلف ثقافي قبل أن يصير تخلفا اقتصاديا واجتماعيا، وأن مفتاح التنمية هو الثقافة وأنه لا توجد ثقافة بدون منظومة قيم، والتنمية تتحقق عندما يتحول العلم إلى ثقافة.

تماما مثل الصوت الغربي الذي يمثله هنتغتون و فوكوياما، فالهوية والثقافة اللتين يتحدث عنهما المنجرة تنهلان من “الشمولية” و “الإقصاء” أحيانا بمقاربة “قومية” و أحيانا أخرى بلبوس “ديني”، حيث قال ذات مرة أن “80 في المائة من سكان العالم العربي يعيشون في أفريقيا، وأن 30 في المائة من القارة الإفريقية عرب، إذن عندما نقول عربي نقول إفريقي في نفس الوقت، والحاصل هو وجود خطة سياسية معينة من طرف الدول الاستعمارية وغيرها للتفرقة، والقول بأن هناك عربا من جهة وأن هناك أفارقة من جهة أخرى، أو القول بأن هناك أفريقيا جنوب الصحراء وأفريقيا السوداء أو هناك أفريقيا البيضاء وأشياء أخرى من هذا القبيل”.

إن فشل حوار الحضارات أمام صدام الحضارات، يقتات على هذا الإحساس بالتفوق و الرغبة في تدجين الآخر المختلف، بالإضافة إلى انكفاء الهويات على نفسها، ومن بين الحلول أن تتعايش الهويات الثقافية مع الهويات الدستورية والقيم الكونية في ظل الدولة الحديثة، ولا شك أن فهم الهويات من الداخل، يشكل مرحلة ضرورية لبحث إمكانات التلاقي بينها.

إن نظرتنا إلى الهوية والثقافة مبنية على كون الاختلاف و التنوع لن يكونا أبدا سببين في الصراعات والحروب، إذا تم التحلي بالمسؤولية اللازمة و بالتوفيق بين الإنتماءات القطرية و مبادئ المواطنة العالمية، وتجاوز الشمولية والإقصاء والتنميط، سواء بمنطق رأسمالي أو ديني أو عرقي أو لغوي، بإمكان العالم تحويل هذا الصراع الموجود فعلا، والذي قد يكون جوهره في الكثير من الأحيان حضاريا وثقافيا، إلى “التآلف” و “التقارب” و “التعاون”، فهناك قيم كونية لن نختلف حولها، على مستوى حقوق الإنسان، حول الحرية والمساواة و التوزيع العادل للثروة وحق الجميع في حياة كريمة…

لكننا في حاجة بالموازاة مع ذلك إلى الحفاظ على الخصوصيات الثقافية والحضارية للدول والشعوب، وعوض محاولة تذويبها أو محوها، يمكن أن نقويها لصالح التنمية الوطنية، ثم نبني جسورا للحوار و الاستفادة المشتركة من قيمها، ففخر الشعوب بتاريخها مطلوب لتطور التاريخ، مع تفادي تحول هذا الفخر إلى دافع للاختزال و الاضطهاد والإقصاء أو الانغلاق، فالشعور بالإنتماء الحضاري هو دافع قوي لترسيخ قيم الانضباط وحب الوطن و التفاني في العمل والتضامن، وهي مسألة تساهم لا شك، في تظافر الجهود لتنمية الأوطان، وبتنميتها يزدهر العالم المتشابك في العلاقات بين كياناته بشكل تلقائي.

إن “تمغربيت” تعيش اليوم بين سندان “العولمة” ومطرقة “محاولات الإلحاق” بالشرق أحيانا وبالغرب (خصوصا بالثقافة الفرنسية) أحيانا، وإن إضعاف الشعور بالإنتماء للحضارة المغربية غير المجزأة، يؤدي حتما إلى الاستلاب الذي يضعف بدوره الشعور الوطني و الانضباط في خدمة قضاياه المصيرية، و بالتالي تعبيد الطريق لانتشار منطق “أنا ومن بعدي الطوفان”، الذي يصب بشكل أوتوماتيكي في بحر من الاتكالية و التجرد من المسؤولية ونهب الثروات و الارتباط بأوطان أخرى “ماديا” أو “معنويا”، وهذا بالضرورة يؤدي إلى هدر فرص التنمية وازدهار الوطن.

إن السكوت أمام محاولات التلصص على الإرث الثقافي والحضاري للمغرب، في بعض الأحيان، ولو أن له بعدا رمزيا، فكلفته كبيرة للغاية، لأنه يؤدي إلى التدجين الهوياتي والثقافي، وجعل المواطن لا يهتم لهذه الخصوصيات التي تشكل شخصيته وتفرده في هذا العالم، و قد نقوده من خلال تزوير الحقائق عبر الإعلام والتعليم إلى احتقار ذاته أو “النسف من الداخل” أو ا”الانهزام الذاتي”، وبإفشال الإنسان نفشل التنمية ونهدد الاستقرار.

لقد حان الوقت لصياغة استراتيجية وطنية للتعامل مع التكنولوجيات الحديثة والبحث العلمي، والتحلي بالشجاعة في إجراء مراجعة عميقة للمناهج والمقررات الدراسية على نحو يمكننا من تأصيل وترسيخ قيم “تمغربيت” فى كيان المواطن المغربي، كسلاح لمواجهة تحولات العالم وتجدياته، والتصدي لمحاولات التذويب العالمية (العولمة) والإقليمية، كما يجب علينا العمل على خلق إعلام حقيقي يسوق عظمة تاريخنا، ويساهم في بناء الإنسان المغربي الواعي والقادر على المساهمة في بناء نهضة الوطن، والمتحلي بالمبادئ الكونية لحقوق، الإنسان ليكون فاعلا أساسيا فى حوار الثقافات، محافظا في نفس الوقت على الهوية الجماعية للمغاربة، وهنا لا بد أن نشير إلى أنه بإمكاننا الاستفادة من ايجابيات العولمة بما يخدم تقدمنا ومصالحنا العليا، منفتحين على كل الحضارات لكن دون فقدان جوهرنا، ولا شك أن أجدادنا كانوا دوما منفتحين متعايشين، مع مختلف الثقافات التي احتكوا بها من عهد الرومان وما قبله إلى اليوم، في سيرورة من التأثير والتأثر، بدون مركب نقص.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *