لنا ذاكرة

وأد وسطو وتكافل.. هكذا أثرت المجاعات قديما على السلوك الاجتماعي للمغاربة

عاش سكان المغرب في القرون الماضية أوقاتا عصيبة جدا، بسبب شبح المجاعة الذي كان يجثم على صدورهم كلما طال تأخّر غيث السماء، فكان الجوع أحيانا كثيرة يستبد بالناس وينزع عنهم رداء إنسانيتهم، فدفعت غريزة البقاء عدد من الجوعى إلى السطو وافتراس الجيف وبيع النساء والأولاد ووأدهم حتى. لكن في المقابل استغل آخرون المساغب للتكافل مع الجياع واقتسام طعامهم معهم والتنافس في أعمال الخير.

وخلال مجاعات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر اضطر عدد من الجوعى إلى افتراس الحيوانات الأليفة كالقطط والكلاب، وأكل الخنزير، والجيف وحتى الآدمي، حسب ما أورد محمد الأمين البزاز في كتاب “تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب”.

تحليل الميتة

وتفيد بعض وثائق النوازل الفقهية بأن وخز الجوع دفع الجياع إلى اللجوء للفقهاء والعلماء للحصول على فتوى من أجل أكل بعض ما هو محرم في الإسلام، للبقاء على قيد الحياة، ومن الأسئلة التي كانت تطرح: هل يجوز أكل الميتة؟ وكان المفتون يجيبون بأن لا بأس للمضطر من أكلها والتزود منها، فإن استغني عنها طرحها إذا “أبيح له ذلك ليخلص نفسه من الموت”، كما نقل البزاز عن مخطوط بعنوان “أجوبة لنوازل فقهية”.

وكان المرء في بعض المجاعات لا يجد ما يسد به رمقه لأيام، فبالأحرى إعالة أسرة، لذلك لجأ آخرون إلى الفرار والهجرة نحو المجهول تاركين زوجاتهم وأطفالهم وراءهم، ومنهم من باعوا أولادهم ونساءهم؛ وكان هذا السلوك يطرح أيضا قضايا فقهية شائكة.

وفي هذا الصدد سئل محمد بن عبد الله السملالي عن الفار في زمن المسغبة هل يورث بلا حكم؟ فأجاب بأنه يورث بدونه لأن من خرج في سنة الجوع كان بمثابة الميت. كما سئل السكتاني عن نساء المفقودين في المجاعة هل يحق لهن الزواج وما الحكم إذا تزوجن وقدم أزواجهن؟ فأجاب بأن الفار تعطى له أحكام الميت لأن الغالب موته؟ بحسب ما أورد البزاز.

وأد وبغاء وردّة

ودفعت مجاعة 1878 رجلا من الصويرة إلى حافة اليأس، فحاول دفن ابنته الرضيعة وهي حية ترزق، مع جثة أمها، إلا أن الرضيعة انتشلت من التراب في آخر لحظة، فعوقب الأب على فعلته الشنعاء بأمر من العامل بأن طيف به على حمار في أزقة المدينة وجلد 300 سوط.

أما بعض اليهود فآثروا إعلان إسلامهم والارتداد عن اليهودية على الموت جوعا وذلك في سبيل الحصول على لقمة العيش. وهناك أيضا من اضطر لممارسة البغاء، الذي يزدهر دوما في ظروف البؤس، وفي هذا الصدد نقل البزاز عن نص يهودي يعود إلى سنة 1750 أن امرأة زنت خلال المجاعة بتطوان مع أحد الأغيار فولدت بنتا تكفلت بها عائلة هذا الأخير لتقوم بتربيتها على سنة الإسلام، كما نقل المصدر ذاته عن إحدى الرسائل، بأن ذِمّيا من نتيفة حاز خلال مسغبة 1878 امرأة مسلمة على وجه البغاء إلى أن أحبلها.

عدد كبير من الفقراء لم يجدوا سبيلا لإطفاء جوعهم غير السرقة والسطو على الممتلكات وقطع الطرق والفتك بالضحايا، وهي مظاهر كانت تتجلى في أعقاب كل مجاعة، كما ترافقها الاضطرابات الاجتماعية الناجمة عن البؤس واليأس.

تكافل الأولياء

مقابل هذه الصورة السوداء لعدد من الظواهر السلبية، حرص عدد من الأولياء والعلماء والصلحاء على رسم صورة وردية، بالتكافل مع المتضورين جوعا وإطعامهم، حيث تنافسوا في ذلك، واعتبروه أحد سبل الرقي في سلم الولاية ودرجات “الصلاح”، كما اتخذوه وسيلة لتوسيع قاعدة أتباعهم.

وفي هذا الصدد يشير عبد الهادي البياض، في كتاب “الكوارث الطبيعية”، إلى اهتمام الأولياء، خلال القرون الـ12 والـ13 والـ14، بتوفير الطعام للجياع، كما أنهم أحسنوا توظيف الطعام لاستمالة فئات عريضة من المنكوبين، الذين شكلوا فيما بعد دعامة مادية أهلتهم لصياغة تيار اجتماعي آمن بآرائهم البديلة في معالجة مضاعفات الكوارث الطبيعية، من خلال بعث شروط التكافل وفق فلسفتي الصدقة والإطعام.

وفي عام 1140 تعرضت مدينة أزمور لمجاعة شديدة فانتدب الشيخ أبو حفص عمر بن معاذ الصنهاجي نفسه للإسهام في إطعام الجائعين، فـ”جمع خلقا كثيرة من المساكين فكان يقوم بمؤونتهم، وينفق ما يصطاده من الحوت وغيره إلى أن أخصب الناس”، بحسب ما نقل البياض عن “التشوف إلى رجال التصوف” لابن الزيات.

وما فتئت مجاعة أزمور أن امتدت إلى أغمات قرب مراكش، فأعقبها في السنة التالية وباء زاد من معاناة الجياع فأسهم القاضي أبو بكر ابن العربي في إطعام بعض الجياع، فقال : “كنت بإيلان مجاعة خمس وست وثلاثين وخمسمائة، وقد ضاقت الأرض برحبها على المساكين (…) وكنت بدار غربة في حال كربة فرأيت الذي يلزمني منهم واحدة فأخذت اثنين وكنت آتيهم في كل يوم برغيفين “، بحسب ما ورد في “سراج المريدين”.

أطعمة الجوع

لكن كل هذا التضامن والتكافل والأعمال الإحسانية وغيرها، لم تكن كافية للتصدي لزحف الجوع في عدد من المساغب التي ضربت البلاد، كما أن تدخلات المخزن استحالت هزيلة أمام الحشود الغفيرة للمتضورين جوعا، لذلك حاول ضحايا الجوع التأقلم ما أمكن مع الأوضاع، وشكلوا قائمة طعامهم من بعض الأغذية التي لم تألفها بطونهم من قبل.

هكذا لجأ عدد من الأشخاص إلى أكل عدد من النباتات البرية، ومن هذه النباتات نبات “إيرني” الذي ارتبط اسمه بتاريخ المجاعات الكبرى في المغرب؛ ففي كل مجاعة كان الشغل الشاغل للفقراء الخروج بفؤوسهم إلى الخلاء للبحث عن هذا النبات الذي يساعدهم على البقاء، بحسب ما أورد البزاز.

وكانوا يغلون جذوره في الماء مرارا لإزالة مادته السامة، ثم تجفف بأشعة الشمس وتطحن فتعطي دقيقا يصنع منه خبز شديد البياض، لكنه عسير الهضم ويسبب اضطرابات حادة في جسم يكون الجوع قد أضعف مقاومته مما يؤدي إلى الوفاة، يضيف صاحب “تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب”.

كما دأب سكان المغرب خلال المساغب الكبرى على أكل الخروب والنبق والبلوط والخبازة والدوم. بدوره لعب شجر الأركان المقاوم للجفاف دورا كبيرا في مساعدة سكان عدد من الأقاليم على الصمود والبقاء على قيد الحياة.

وفي هذا الصدد نقل البزاز عن تقرير لرئيس البعثة الفرنسية العسكرية عن شهر أبريل 1893 ما يلي: “منذ ثلاث سنوات ومحاصيل الحبوب تأتي عاطلة على التوالي في إقليم الشياظمة، إلا أن السكان يتوفرون على إنتاج أشجار أركان مما ساعدهم على البقاء”.

أما سكان المناطق الساحلية فقدوا وجدوا ضالتهم أيام المجاعات في السمك، الذي يؤكل حتی بدون طبخ في أوقات الجوع الحاد، حيث ورد في إحدى رسائل النائب السلطاني بطنجة، زمن السلطان العلوي محمد الرابع، محمد بركاش، أن “الضعفاء يتخاطفون الحوت بشدة وازدحام ويأكلونه أخضرا”.

كما شكل الجراد وجبة دسمة على موائد الفقراء بالمغرب إبان المجاعات، فيستهلكونه مسلوقا بعد أن يذر عليه الملح والفلفل والخل، خصوصا إذا نجم القحط عن غزو أسراب هذه الحشرة، وفي هذا الصدد ينقل البزاز عن السفير البريطاني جون درومند هاي بأن سكان الصحراء كانوا يبتهجون عند قدومه ويسمونه “الخير”، إذ لا يلحقهم ضرر منه، في حين يقدم لهم وجبة لذيذة، كما يتيح لهم فرصة الهجرة إلى الأراضي الشمالية التي اجتاحها وهجرها سكانها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *