وجهة نظر

من ذكريات طفولتي

ولد أبي سنة 1932 من أب عربي وأم أمازيغية، وهو صبي اضطر إلى الهروب مع والده الذي كان من كبار البلد لمدينة فاس ، هرب والده رحمه الله من المستعمر، لأنه قتل قائدا من جيش المستعمر الإسباني آنذاك.

ذهب جدي وجدتي وأبي للاستقرار بمدينة فاس غير أن الحنين والحزن على إبنتهم الوحيدة المتزوجة التي تركوها وراءهم، جعل جدتي تقرر الرجوع لتفقد أحوال ابنتها فتوفيت هناك.

بقي والدي وجدي بأحد أحياء مدينة فاس القديمة يكترون بيتا متواضعا، هم أصحاب الملك يعملان أجيرين، لكن سرعان ما مرض جدي وتوفي فترك أبي إبن الرابعة عشر يتيم الأب والأم غريب البلد.

اضطر أبي للعمل في جميع المجالات جمع الورق المقوى، النجارة، حمل السلع…، انضم إلى حزب الاستقلال آنذاك وكان من رجال الحركة الوطنية، اللذين تخصصوا في تهريب المقاومين المبحوث عنهم من طرف الاستعمار الفرنسي من فاس إلى طنجة، وبعدها عند انقسام حزب الاستقلال فضل أن يتبع محمد بن الحسن الوزاني في تأسيس حزب الشورى والاستقلال، لكنه بعد الاستقلال اعتزل السياسة لقناعة منه أن دوره توقف عند الاستقلال.

كبر وكبرت تجربته معه، قام بالتجارة والصناعة ورجع إلى أخته يتفقد حالها فوجدها قد أصبحت أرملة بسبع يتامى، أعالها وواضب على زيارتها وتفقد أمرها رغم بعد المسافة، استقر حاله على ممارسة مهنة رصاص، فتح محلا وشغل شبابا معه وعلم الكثيرين، لكن العمر مر به بسرعة ولم ينتبه أنه قد فات الأربعين دون أن يكون أسرة.

تزوج من والدتي ولم تنجب له إلا فتاة، كنت قرة عينه وكان ولا زال حبيبي الوحيد، كان يحملني على كتفيه وكنت أمسك برأسه الأصلع اللامع من أشعة الشمس.

كان أبي قصير القامة لكنه كان رفيع الصوت، وكانت نساء الحي تهابه، فعندما يفتح محله لا تطل النساء من السطوح ولا من النوافذ خوفا من أن ينهرهن، كنت أفتخر وأنا أسمعهن يتحدثن عنه بخوف واحترام، كانت نظراته لي كلها حنان وحب وإعجاب، ورغم أن الحديث كان يدور بينه وبين أمي حول عدم استطاعتهم إنجاب ولد يحمل إسمه ويكون عونا له عند الكبر، لكنهما لم يتكلما أبدا في الأمر أمامي.

أدخلني روض قرآن وعلمني الكتابة والقراءة في سن مبكّر وبعدها سجلني في مدرسة العدوة بنات بمدينة فاس، أصر أن يعلمني أحسن تعليم لكنه منعني من الخروج للعب مع الأطفال أو المبيت في بيت غير بيتنا، كان لي شعر طويل، فكان ينتظر دائما أن أنام ليأتي ويربط ظفيرتي مخافة أن تلتوي على عنقي، كان يتفقد حالي مرات عديدة بالليل إن سعلت جاءني جاريا وإن لم يسمع لي حسا جاء جاريا، كان يخاف علي من نسمة الهواء.

كبرت وبدأ يأتي إلى المدرسة كعادته لملاقاتي لكنه كان يبتعد بعض الشيء وإن ذهبت جارية لملاقاته وجدته جامدا لا يبتسم ويسرع في المشي حتى يبتعد عن جموع التلاميذ والآباء، سألته يوما: لماذا يا أبي تبتعد عن باب المدرسة لطالما كنت الأول الذي أراه عند الباب؟
قال لي وفي نبرته مزيج من الخجل وعزة النفس: أخاف أن تستحي من قصر قامتي أمام زميلاتك.

لم يكن يعلم أنه بنظري أقوى الرجال وأجملهم وأكثرهم رجولة، أخبرته أنني أفتخر بكونه أبي وأنني سأحزن إن فكر غير ذلك، وداعبته قائلة يكفي أنك أنجبت فتاة بمائة رجل، تأتيك دائما بالمرتبة الأولى، ومنذ ذلك اليوم وأبي يستقبلني عند باب المدرسة بابتسامة عريضة.

كبرت وكبر حبه في فؤادي، وفي يوم من الأيام أخبرني قائلا: يا ابنتي لطالما شرفتيني أمام الأهل والمعارف، كنت نعم البنت، لكنني لا أخفيك أنني ينقصني الولد، تنقصني ضحكات وركض أطفال في هذا البيت العريض، أعلم أنك تُحبين الدراسة لكنني أريدك أن تتزوجي وتنجبي لي أولادا، فلا تنتظري أن أموت حتى تنجبي أولادا فأحرم من رؤيتهم وحملهم وتقبيلهم.

يومها فقط علمت مدى حرمان أبي.
أحبك أبي وأتمنى أن تكون راضٍ عني.
كل عام وأنت أبي حبيبي.
#من_ذكريات_طفولتي