رمضانيات

كسر الرتابة.. علم النفس يوضح قيمة إحدى هدايا رمضان الثمينة 

لا شك أن حياة شخص لا يحضر فيها شهر الصيام تختلف عن حياة شخص يحضر فيها رمضان بدورته السنوية، وإيقاعه اليومي طيلة شهر كامل. و مع أن الشخصين قد يتفقا في الانتماء الديني والعقدي، فأبرز أوجه المقارنة المنطقية بينهما تكمن في تأثيرات الصيام على الحياة اليومية خلال رمضان.

فدخول شهر الصيام يحدث انقلابا كبيرا في عادات الصائم، ويخرجه من الرتابة التي قد تطبع حياته اليومية طيلة 11 شهرا، ليدخل نظام عيش جديد، يطبع عاداته في الأكل والشرب، وعاداته في النوم، وعاداته الخاصة من تدخين وممارسة رياضة، والقراءة،…، وعاداته الاجتماعية المختلفة.

وفي الوقت الذي نلتفت فيه فقط إلى ألم مفارقة عاداتنا، منتظرين عيد الفطر لنستعيدها من جديد، نغفل عن أثمن هدية يقدمها لنا شهر الصيام، فنحرم أنفسنا من الاستمتاع بها والاستفادة منها. وهذه الهدية ينبهنا إليها علم النفس الحديث، حسب الجزيرة نت.

الروتين يحمينا

الالتزام بروتين يومي جيد يفيدنا كثيرا في الإنتاجية، نمضي قُدما في التعلُّم والعمل والإنجاز، نتمكَّن من إرساء عادات صحية وتغيير أخرى، ونشعر بالأمان الدائم، والسيطرة على أمور حياتنا، ينخفض مستوى التوتر إذ ليس علينا التفكير كثيرا في كل شيء، لقد سبق لنا التخطيط واتخاذ العديد من القرارات وتبقى فقط التركيز على اتخاذ خيارات جيدة أقل.

مع تحقيق مزيد من الإنجاز يرتفع مستوى الرضا عن الحياة، ونكون أكثر قدرة على التأقلم مع المشكلات التي قد تواجهنا، ونكون أكثر قدرة على إدارة مشاعر القلق جيدا، يخفت إلى حدٍّ كبير صوت مخاوفنا ونعيش كما لو أننا لن نواجه أي تحديات. لكن مع كل المزايا التي يُقدِّمها لنا الالتزام بالروتين، فإن كسره يمنحنا فوائد الشعور بالفضول والإثارة وخوض تجارب جديدة، بحيث يبدو أننا نحتاج بين الحين والحين إلى أن نفكر في طرق أكثر حيوية للتفاعل مع العالم بكسر الروتين قليلا.

يمنحنا كسر الروتين كذلك فرصة لتقييم نمط حياتنا، إذ إن عاداتنا قد لا تكون مناسبة ونحتاج إلى تغييرها. نحن نتحدث هنا عن أنه حتى الإجراءات الروتينية التي أثبتت فعاليتها ربما يكون من الأفضل أن تتعرَّض لصدمة تكسر هذا الثبات بين الحين والآخر، ما ستختبره عند المرور بهذه التجربة يشبه قيامك برحلة في مكان مختلف يملؤك بالشعور بالحيوية، فمع الحرية والشعور بعدم الالتزام بشيء ما تكون أمام تجارب جديدة.

الحيوية التي نفتقدها أحيانا

في دراسة نشرتها مجلة “نيتشر نيوروساينس” (Nature Neuroscience) عام 2020، وجد الباحثون أن التجارب الجديدة والمتنوعة ترتبط بمستويات أعلى من السعادة، كانت تغييرات مثل الركض في مكان جديد أو تغيير قائمة الموسيقى المعتادة قادرة على إحداث الفرق لدى المشاركين في التجربة، وبتتبُّع الحالة العاطفية لهم لعدة شهور، لاحظ الباحثون أن تقييمات المشاركين لحالتهم المزاجية كانت إيجابية في الأيام التي طرأ فيها تغيير على حياتهم بزيارة مكان جديد مثلا، ومن خلال تصوير أدمغتهم بالرنين المغناطيسي وجد الباحثون نشاطا أكبر في منطقة الحُصين والجسم المخطط (وهي مناطق الدماغ المرتبطة بمعالجة التجارب الجديدة والشعور بالمكافأة)، وفي المجمل كان التنوع في الروتين اليومي والتعرُّض لتجارب جديدة مرتبطا بحالة مزاجية أكثر إيجابية.

إلى جانب شعورنا بالإثارة، فإن القيام بشيء جديد يزيد مستويات الدوبامين فيجعلنا أكثر سعادة. في دراسة نشرتها مجلة “نيورون” (Neuron) عام 2006، أفاد الباحثون أن الدوبامين يزيد لدينا عند اختبارنا لتجارب جديدة أيًّا كان نوعها.

قام الباحثون بتجربة ردود فعل مجموعات المشاركين على مجموعات مختلفة من الصور، المجموعة الأولى شاهدت صورا لأشياء متشابهة جدا مثل مجموعة من الأرائك أو مناظر طبيعية للجبال، بينما كانت المجموعة الأخرى تشاهد الصور نفسها لكن وضع بينها الباحثون عشوائيا صورا غير متوقعة لأشياء أخرى، وبمراقبة أدمغة المشاركين أثناء عرض الصور المختلفة، لاحظ الباحثون نشاطا في مراكز المتعة في الدماغ لدى المجموعة الثانية أدَّى إلى تدفق الدوبامين. في الواقع، فإن هذا الانجذاب نحو كل ما هو جديد هو ما قاد البشر إلى استكشاف بيئات وأشياء جديدة، وهذا هو ما يستمر في تحفيزنا ويجعلنا منتبهين، هكذا نشعر بالسعادة أكبر في مواجهة الأمور التي نفعلها قليلا.

خارج منطقة الراحة.. عقولنا تعمل أفضل

السر في فاعلية الروتين يكمن في قدرته على مساعدتنا في تجاوز المنعطفات التي تعترض طريقنا أحيانا، يقول بريجيد شولت، مؤلف كتاب “مُثقل: العمل والحب واللعب حين لا يمتلك أحد وقتا” (Overwhelmed: Work, Love and Play When No One Has The Time)، إن الروتين يحفظ لنا القوة الذهنية والإرادة من خلال توفير الطاقة التي يتطلبها اتخاذ القرار.

الأمر ذاته يؤكده آندي مولينسكي، أستاذ السلوك التنظيمي في كلية إدارة الأعمال الدولية بجامعة برانديز الأميركية، مُشيرا أن سبب حرصنا على اتباع روتين ما في يومنا هو أن نتجنَّب إرهاق اتخاذ قرارات متتابعة يوميا، اتباع الروتين يريحنا من تنظيم الوقت واتخاذ عدة قرارات حول ما سنقوم به لاحقا، كثير من أمورنا يكون محددا سابقا، وما علينا سوى تكرار ما اعتدنا عليه.

لكننا مع الالتزام بالروتين وعدم قطعه -على الأقل من وقت إلى آخر- ندخل فيما يُعرف بمنطقة الراحة التي تمنحنا الأمان والراحة باعتياد ما نقوم به، لكنها تمنعنا من المُضي قُدما في معترك الحياة، هل تعرف ذلك الشعور الذي يغمرك في رحلة تقوم بها إلى مكان جديد؟ الإثارة والحيوية والانبهار أحيانا، إنه يفيدنا حين نستحضره بين الحين والآخر بحيث تنتقل بين الشعور بالاستقرار والهدوء وما يصحبه من قدرة على الإنجاز، وبين الانفتاح على التجارب الجديدة وما يمنحه لنا من خبرات.

لا يتطلَّب الأمر القيام برحلة أو السفر إلى مكان جديد، يكشف علم الأعصاب عن أدلة متزايدة على مزايا تغيير أو كسر الروتين، بمجرد إضفاء تغييرات طفيفة على أنماط حياتنا اليومية، مثل اتخاذ طريق مختلف للعمل أو إعادة ترتيب الأثاث، هذا يكفي لتحفيز الخلايا العصبية ويزيد إنتاج المغذيات العصبية مما يساعد خلايا الدماغ على الازدهار.

يزيد هذا التغيير قدرتنا على التركيز، فعقولنا تميل عموما إلى ما هو جديد، وهذا أحد أسباب استجابتنا بسهولة للعوامل التي تُشتِّت انتباهنا، إننا نبحث عن الجديد في إشعارات الشبكات الاجتماعية أو غيرها من المشتتات، لكن تغيير الروتين يمنح عقولنا هذا التجديد فيزيد قدرتنا على التركيز.

كما يحد التغيير من ذلك الشعور الذي ينتابنا مع الالتزام الطويل بالروتين اليومي، أن نقوم بالعمل آليا، فعند تغيير عاداتنا يكون العقل مجبرا على الانتباه وإيلاء عنايته لما تقوم به، بداية بأبسط الأشياء، فكِّر فيما يحدث حين تُقرِّر مثلا أن تغير طريقك المعتاد إلى العمل، أو تتناول الطعام في مكان مختلف، تتعرض حينها لمحفزات جديدة غير معتادة، فتنشط أيضا منطقة الحُصين حيث نخزن الذكريات طويلة المدى، وتتأثر إيجابيا قدرتك على الاحتفاظ بالمعلومات، وتشعر بتواصل أعمق مع ذاتك خلال قيامك بالمهام اليومية المعتادة.

التزم بالروتين.. لكن ليس كثيرا جدا

بينما تفكر في موعد العودة للنظام اليومي العادي الذي كنت تتبعه قبل شهر رمضان، تذكَّر أن اتباع الروتين اليومي قد يسمح بتسلل الملل، كما يسمح أحيانا بتسلل العادات السيئة، وأن كسر الروتين يمنحنا الفرصة للنظر في الأمور وإعادة ترتيب عاداتنا اليومية. كذلك، فإن إدخال بعض التغييرات على عاداتنا بانتظام يزيد القدرة على الإبداع، فخارج منطقة الراحة تلتفت عقولنا لكل ما حولنا فتلهمنا أفكارا جديدة، وأكثر الدروس قيمة في حياتنا تعلمناها خارج منطقة الراحة.

تجربة أساليب وإجراءات جديدة أمر محفوف بالمخاطر، خاصة إذا كنت مستقرا على نظام جيد وتغييره ربما يعني لك المخاطرة بإنتاجيتك، لكن الأمر يستحق، الروتين الجيد يضمن لك الإنتاجية، لكن كسره بين الحين والحين ولو بأمور بسيطة، كأن تغير طريقك إلى العمل، أو تبدل الساعة المخصصة للقراءة لتكون في الصباح بدلا من المساء، أو حتى فيما هو أكبر كأن تُجرِّب طريقة مختلفة في أداء عملك، يُضفي الحيوية على حياتك، عموما لن تعرف أبدا أفضل روتين لك حتى تُجرِّب عادات جديدة، والوصول إلى الأفضل يتوقف على قدرتك على استبدال العادات الجيدة بالسيئة طوال حياتك.

فكِّر أيضا في أن تجربة طرق جديدة لفعل الأشياء لا يُجدي فقط حين تكون محتاجا إلى ذلك، فحتى حين تعتقد أنك وجدت الطريقة المثلى، فربما يكشف لك إثارة التساؤل من جديد عن إجابة أفضل، إن بعض أفضل النصائح والحيل هي تلك التي لم تعرف أبدا أنك كنت بحاجة إليها.

حسنا، يبقى الجزء الأهم من تحدي الالتزام بالروتين هو معرفة متى نحتاج إلى تغييره، وما ينصح به الخبراء هو اتباع روتين مستمر للعمل والإنجاز على أن يكون أمرا يمكن تطويعه باستمرار، مع ترك مساحة للاستراحة. البشر عموما يميلون لصنع العادات، لكن القدرة على التغيير مهارة حياتية ضرورية تماما مثلما هي القدرة على الالتزام بروتين ثابت. يبدو إذن أن شهر رمضان، كل عام، يعطينا فرصة لإعادة تأمل تلك الفكرة بعمق وهدوء.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • عمر
    منذ سنتين

    نصوم رمضان رغم صعوباته لأن الله أمرنا بذلك و الصيام ليس نزهة لأي صائم خاصة للمرضى و كبار السن. البحوث ينبغي أن تنصب على الصعوبات التي يلاقيها الصائمون لتبصبح هذه العبادة أيسر على الصائم خاصة في أيام الصيف الطويلة و الحارة مثل مشاكل الطعام و العطش وقلة النوم خاصة لتلاميذ الثانوي و المستخدمين المأجورين. الصيام لا ينبغي أن يحتكره الفقهاء