وجهة نظر

بوصوف يكتب: رئاسيات فرنسا .. بين انتصار العيش المشترك ومقاومة الفكر العنصري المتطرف

في الوقت الذي كان أنصار الرئيس إيمانويل ماكرون يتبادلون التهاني على نغمات النشيد الوطني قرب برج إيفيل بعد اعلان نتائج انتخابات رئاسية عاصفة كانت أشبه بالحرب، انتهت إحدى جولاتها يوم 24 أبريل 2022، بتثبيت ماكرون لولاية ثانية بقصر الإليزيه، بدأت عملية إحصاء خسائر هذه الجولة من الحرب على أفكار اليمين المتطرف العنصري التمييزي الداعي الى الكراهية، والتضييق على مكتسبات المهاجرين و”شيطنة” الجاليات المسلمة.

الأكيد أنه لابد من الإشارة إلى الدلالات السياسية لضحايا الجولة الأولى ليوم 10 أبريل، ونعني بها الأحزاب التقليدية والتي فقدت فعاليتها وبريقها إذ لم تعد تغري الناخب الفرنسي، بدليل حصول مرشحة الحزب الجمهوري “فاليري بيكريس” على 4,7 في المائة فقط من الأصوات وهي نسبة متدنية، وحصول “آن هيدالغو” عمدة مدينة باريس عن الحزب الاشتراكي على نسبة 1,7 في المائة فقط، على الرغم من أن الحزبيْن معا تقاسما عمر الجمهورية الخامسة، برئيسيْـن اثنيْـن من الحزب الاشتراكي وخمسة رؤساء من الحزب الجمهوري (اليمين)، فهل هذه النتائج هي إعلان عن نهاية الأحزاب التقليدية؟

كما رصدت عين المراقبين النِسَب المتقاربة بين كل من ماكرون ومارين لوبان (يمين متطرف) وميلونشون (يسار راديكالي) حيث لم تصل كلها إلى 30 في المائة، مع مرور كل من ماكرون ولوبان إلى الجولة الثانية، لكن ميلونشون وحزبه “فرنسا الأبية” تموقع كلاعب مهم في المشهد السياسي الفرنسي. جولة يوم 10 أبريل كانت مناسبة أيضا لتقليم أحلام “إيريك زمور” اليميني المتطرف والمثير للاشمئزاز والذي لم يتجاوز نسبة 7 في المائة رغم كل ذلك “الشو الإعلامي” الذي أحاط به نفسه.

من جهة أخرى، قاد الحديث عن نوايا تصويت انصار ميلونشون في الجولة الثانية ليوم 24 أبريل، ألى التطرق إلى تحديد ملامح أنصار حزب “فرنسا الأبية” حيث توزعت بين الغاضبين من السياسات الاجتماعية لحكومات ماكرون “السترات الصفراء والمتقاعدين”، وأيضا الجاليات المسلمة بفرنسا والتي وجدت نفسها مضطرة لإختيار الأخف ضررا في ظل تصدر الحجاب والدبح الحلال وفضاءات عبادة المسلمين، لجدول النقاش السياسي في زمن الانتخابات بفرنسا، وبين المقاطعين إذ فاقت النسبة 28 في المائة وهي أكبر نسبة مقاطعة منذ سنة 1969.

لقد اعتبر العديد من المراقبين أنه لا يمكن اعتبار فوز ماكرون بولاية ثانية بمثابة انتصار حاسم في الحرب على اليمين المتطرف، بل هو انتصار في إحدى جولاتها فقط، إذ لُوحظ أن اليمين المتطرف الفرنسي مافتيء يكسب المساحات منذ النّزال الأول بين الرئيس جاك شيراك ولوبان الأب سنة 2002، حيث فاز شيراك بنسبة 82,2 في المائة، مرورا بجولة ماكرون وماري لوبان سنة 2017 حيث فاز ماكرون بنسبة 66 في المائة، ووصولا عنذ نتيجة جولة 24 أبريل 2022 بفوز ماكرون على مارين لوبان بـ 58في المائة، وهو ما يعني فوز بطعم المرارة، مقابل التقدم بصمت لليمين المتطرف من جهة وتمدد نسبة المقاطعين والأوراق البيضاء من جهةٍ أخرى.

وإذا كانت رئاسيات فرنسا لسنة 2022، قــد جعلت من ماكرون ثالث رئيس فرنسي يحضى بولاية ثانية إلى جانب كل من فرانسوا متيران وجاك شيراك، فإنها كانت أول مرة يتم فيها الحديث عن ملامح “الناخب الإسلامي”، وعن الناخب من أصول مهاجرة، حيث جاءت كرد فعل على البرامج الانتخابية التي جعلت من الجاليات المسلمة والمهاجرين ككبش فداء بمناسبة كل نِزال انتخابي. فأغلب التحليلات ذهبت إلى أن “الناخب الإسلامي” اصطف إلى جانب حزب “فرنسا الأبية” نظرا لأدبياته القريبة من مشاكل الضواحي والمهاجرين وتبنيه للمجتمع المتعدد الثقافات.

الخروج القوي “للناخب الإسلامي” جعل النقاش السياسي حول الحجاب مثلا بمثابة تهديد للسلم المجتمعي وإعلان “الحرب الأهلية” وجعل المرشحيْن معا شديدي الحيطة في اختيار المصطلحات المناسبة أثناء مناظرة 20 أبريل مثلا وباقي التصريحات الإعلامية حول الإسلام والمسلمين بفرنسا.

فحصول مارين لوبان على نسبة 41,8 في المائة يحمل رسائل غير مطمئنة وتهديدا جديدا للنسق الحزبي التقليدي والسياسي الفرنسي، في أفق إجراء انتخابات تشريعية في شهر يونيو القادم، وهو ما يعني فرضية اكتساح المزيد من المقاعد بالجمعية العمومية الفرنسية من طرف حزب مارين لوبان، ومن طرف “حزب الاسترداد” الذي أعلن عن تنصيب ماريون مارشال لوبان كنائبة لايريك زمور، بمعنى آخر أن “إريك زمور” لم يقل كلمته الأخيرة بعد خسارته المدوية في الجولة الأولى يوم 10 أبريل، بل يستعد للتشريعيات القادمة، وهي الجولة التي ستجعل كل الخصوم السياسيين الفرنسيين على موعد حاسم آخر أي انتخابات البرلمان الأوروبي.

لذلك قُلنا إن فـوز يوم 24 أبريل هو فقط حلقة من مسلسل صراع سياسي وأيديولوجي قوي بين أنصار العيش المشترك والتعدد الثقافي والديني من جهة وبين القومية والحمائية ونظريات الاستبدال من جهة ثانية.

نعتقد أن “البروفايل” الجديد للناخب الإسلامي سيكون هو المعادلة السياسية الرابحة في كل الاستحاقات القادمة سواء التشريعيات الفرنسية أو البرلمان الأوروبي، إذ خروجه المنظم والمنتظم في رئاسيات سنة 2022 جعل منه من جهة “إبنا” للجمهورية الفرنسية ومتبنيا لمبادئها العلمانية حيث تلتزم الدولة بمسافة حيادية مع كل مظاهر التعدد الديني، كما ساهم خروجه أيضا في قطع طريق الإيليزيه على ممثلة اليمين المتطرف مارين لوبان، من جهة ثانية.

لا يجب أن تستغرق نشوة الفوز على أفكار الكراهية وعنصرية اليمين المتطرف، الكثير من الوقت، لأن “مارين لوبان” أعلنت اليوم بداية حملة تشريعيات يونيو القادم، وهي استحقاقات تدعو الناخب الإسلامي (حوالي خمسة ملايين) إلى المزيد من الانخراط في العمل الحزبي والسياسي ومغادرة حزب المقاطعين إلى حزب المُبَادِرين والمدافعين عن مبادئ الجمهورية وعلمانية الدولة وعن العيش المشترك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *