أخبار الساعة، منوعات

هل تفجع الحيوانات وتبكي موتاها؟

بعيدا عن الإسقاطات التي يقوم بها الناس عادة في تفسير بعض سلوك الحيوانيات بسلوكهم الشخصي، يتجنب علماء سلوك الحيوان وصف ردود أفعال الحيوانات واستجاباتها بمشاعر إنسانية مثل الحزن. لكن ثمة أدلة متزايدة من أنواع مختلفة من الكائنات، من القطط والكلاب إلى الجمال والزرافات والدلافين، تشير إلى أن البشر ليسوا الكائنات الوحيدة التي تحزن لخسارة أحبائها.

وتشير تلك الملحوظات إلى أنه على الرغم من أن الطريقة التي نحزن وننتحب بها قد تكون بشرية بحتة، فإن القدرة على الشعور بالحزن لها جذور عميقة تتجاوز البشر.

في التقرير التالي نقدم لقراء “العمق المغربي” مقالا علميا لـ”باربرا جيه .كينج”، وهي عالِمة متخصصة في الأنثروبولوجيا البيولوجية، يناقش بالمنطق العلمي مسألة الحزن والأسى لدى الحيوانات.

وتقول العالمة في مقالها المنشور على موقع “العِلم”:

على متن باخرة بحثية تشق المياه قبالة خليج أمفراكيكوس، شاهد “جون جونزالفو” أنثى دولفين من الدلافين ذات الأنف على شكل زجاجة (والمعروفة أيضًا باسم دلافين أنف الزجاجة) في حالة من التعاسة والبؤس الواضح. فقد كانت تدفع مرارًا وتكرارًا دولفينًا حديث الولادة، يبدو وليدها -ولا شك- بعيدًا عن قارب المراقبين وضد التيار باستخدام خطمها وزعنفتها الصدرية. بدا الأمر وكأنها تحاول أن تدفع صغيرها إلى الحركة، لكن دون جدوى، إذ كان الصغير ميتًا. ونظرًا لأنه كان يطفو تحت أشعة الشمس الحارقة المباشرة في يوم حار، بدأ جسده في التحلل سريعًا، وكانت الأم من حين لآخر تزيح بعض أجزاء الجلد الميت والنسيج المتهدل من على جثة الصغير.

وعندما استمرت أنثى الدولفين على هذا المنوال في اليوم الثاني، بدأ القلق يتسلل إلى جونزالفو وزملائه على متن القارب. فبالإضافة إلى ما كانت تفعله بجثة الصغير، لم تكن تأكل بصورة طبيعية، وهو سلوك محفوف بالمخاطر على صحتها نظرًا للأيض المرتفع الذي تتميز به الدلافين. ومن بين ما يقرب من 150 دولفينًا يعيشون في خليج أمفراكيكوس، اقتربت ثلاثة دلافين أخرى من الأم وصغيرها، ولكن لم يتدخل أيٌّ منها لمقاطعة سلوك الأم أو سار على نهجها وفعل كما تفعل.

وبينما كان جونزالفو، عالم الأحياء البحرية بمعهد تثيس البحثي في ميلانو بإيطاليا، يشاهد ما يحدث من على متن القارب في عام 2007، قرر أنه لن يُخرِج جثة الصغير ليجري عليها التشريح كما كان يفعل في المعتاد لأغراض بحثية. وقد قال جونزالفو لـ”العلم” في عام 2013: “ما دفعني لعدم التدخل فيما يحدث كان الاحترام، لقد كنا محظوظين لرؤية هذا الدليل الواضح على الرابطة القوية بين الأم وصغيرها لدى دلافين أنف الزجاجة، وهي نوع من الكائنات أعكف على دراسته منذ أكثر من عقد. لقد كنت مهتمًّا بمشاهدة ذلك السلوك الطبيعي أكثر من اهتمامي بمقاطعته بالتدخل المفاجئ وإزعاج أُم تمر بمحنة واضحة. والتعريف الذي أضعه لما رأيته هو الحزن والانتحاب”.

هل كانت أنثى الدولفين حزينة بالفعل على وليدها الميت؟

قبل عقد من الزمان، كنت لأجيب على مثل هذا السؤال قائلةً: “لا”. بصفتي عالِمة متخصصة في الأنثروبولوجيا البيولوجية ودرست الإدراك والعاطفة لدى الحيوانات، كنت سأدرك مدى المرارة التي يوحي بها سلوك الأم ولكني كنت سأقاوم تفسيره بأنه حزن وانتحاب.

على غرار معظم علماء سلوك الحيوان، فقد تعلمت وصف ردود الأفعال هذه بلغة حيادية مثل “تغير السلوك كرد فعل لموت حيوان آخر”؛ ففي النهاية، ربما تكون الأم مرتبكة فقط لأن الحالة الغريبة الساكنة لصغيرها قد أصابتها بالحيرة. فقد جرت العادة على أن إسقاط المشاعر الإنسانية مثل الحزن على الحيوانات الأخرى سلوك عاطفي وغير علمي.

أعتقدُ أن جوانزالفو كان مُحِقًّا في حكمه على أن الدولفين الأم كانت في حالة من الحزن لوفاة صغيرها.

في عام 2016، نشرت ميليسا ريجينيت من جامعة ميلانو-بيكوكا وزملاؤها تقريرًا مدهشًا يصف 14 رد فعل للموت في سبعة أنواع من الحيتان والدلافين، من بينها أدلة واضحة على الحزن والانتحاب.

فعلى سبيل المثال، في البحر الأحمر بالقرب من مصر، أخذ دولفين بالغ من دلافين أنف الزجاجة في مس جثة دولفين صغير مرارًا وتكرارًا ويدفعه في الماء. وبجمع هذه الأدلة معًا، فإن الأمثلة الجديدة تجعل رؤية مشاعر الحزن لدى الثدييات واضحةً للغاية.

وفي حقيقة الأمر، في غضون السنوات القليلة الماضية، ظهرت كمية كبيرة من الملحوظات الجديدة وعمليات الرصد لاستجابات الحيوانات وردود أفعالها تجاه الموت، مما دفعني إلى التوصل إلى نتيجة مذهلة مفادها أن الثدييات والقردة العليا والأفيال ومجموعة كبيرة من الكائنات الأخرى، تتراوح من حيوانات المزارع إلى الحيوانات الأليفة المنزلية، ربما، وفق ظروفها وشخصياتها الفردية، تشعر بالحزن عندما يموت أحد أقربائها أو أصدقائها المقربين.

إن كون أنواع من الكائنات، على هذا النطاق الواسع، وبينها أنواع تربطها علاقة بعيدة بالبشر، تحزن لموت أحبابها، هو حقيقة تشير إلى أن قدرة البشر على الحزن ربما تضرب بجذورها عميقًا.

تعريف الحزن

منذ عهد تشارلز داروين قبل قرنين من الزمان، احتدم الجدال بين العلماء حول ما إذا كانت بعض الحيوانات تُبدي عاطفة أكثر من تلك المرتبطة بالرعاية الأبوية أو جوانب أخرى من البقاء والتكاثر.

اعتقد داروين أنه، نظرًا للعلاقة التطورية بين البشر والحيوانات الأخرى، فلا بد وأن العديد من المشاعر متشابهة بين مختلِف الأنواع. فقد قال، على سبيل المثال، بوجود مشاعر الحزن والغيرة بين القردة، وكذلك المتعة والاستياء. ولكن عزو مشاعر كهذه إلى الحيوانات كان يومًا بعد يوم يخرج عن دائرة الآراء العلمية التي تحظى بتأييد جمهور العلماء.

وفي وقت مبكر من القرن العشرين، أحكم النموذج السلوكي سيطرته بما ينطوي عليه من إصرار على أن السلوكيات الملحوظة فقط على الحيوانات، وليس مشاعرها الداخلية، هي التي يمكن دراستها دراسة محكمة. ثم بدأت الحياة تعود بالتدريج إلى الاقتناع العلمي بوجود مشاعر لدى الحيوانات، ويرجع الفضل في هذا جزئيًّا إلى الروايات من الدراسات الميدانية طويلة الأمد حول الثدييات كبيرة الدماغ.

فمن تنزانيا، رَوَتْ جين جودال بتفاصيل تُفطِّر القلوب تدهوُر صحة الشمبانزي الصغير المسمى “فلينت”، ثم موته من الحزن بعد أسابيع فقط من وفاة أمه “فلو”. ومن كينيا، قالت سينثيا موس إن الفيلة تهتم بأصدقائها وتعتني بهم وهم يحتضرون وتربت على عظام أقربائها الميتين.

وبدأ علماء الأحياء الميدانيين وعلماء الأنثروبولوجيا يطرحون أسئلة حول ما إذا كانت الحيوانات تحزن لوفاة أصدقائها، وكيف تحزن.

لدراسة الحزن بين الحيوانات وفهمه، احتاج العلماء إلى وضع تعريف يميز الحزن عن المشاعر الأخرى. وفي حين أن “رد فعل الحيوان تجاه الموت” يشمل أي سلوك يأتي به أي حيوان عقب وفاة حيوان صديق له، فإن العلماء على الأرجح يشكون بقوة في وجود مشاعر الحزن عندما يفي رد الفعل هذا ببعض الشروط:

أولًا، أن يختار اثنان (أو أكثر) من الحيوانات قضاء الوقت معًا في سلوكيات تتجاوز تلك الهادفة إلى البقاء على قيد الحياة مثل البحث عن الطعام أو التزاوج.

وثانيًا، عند موت أحد الحيوانات، يغير الحيوان الناجي روتينه السلوكي المعتاد، ربما يأتي ذلك على هيئة تقليل الوقت المخصَّص لتناول الطعام أو النوم، أو ربما اتخاذ وضع جسماني أو ظهور تعبيرات على وجهه توحي بالاكتئاب أو الاضطراب والتشوش، أو بصفة عامة لا يستطيع ذلك الحيوان الاستمرار في حياته والاستمتاع بها.

أما داروين، فكان يجمع بين الحزن والأسى غير أن الشعورين مختلفان، والاختلاف الأساسي بينهما يكون في قوة المشاعر، فالحيوان الحزين يكون مهمومًا وبائسًا أكثر، وربما لمدة أطول.

الدولفين الأم تحمل جثة وليدها على زعنفتها الظهرية في المياه قبالة مدينة دانا بوينت بولاية كاليفورنيا
Credit: Courtesy of Captain Dave’s Dolphin and Whale Watching Safari, Dana Point, Calif.

 

غير أن هذا التعريف الذي يتكون من شقين معيب، ومن بين أسباب ذلك افتقار العلماء إلى وسيلة قياسية لتقييم ما يعنيه بالضبط أن يكون الحيوان “مهمومًا وبائسًا أكثر”. وهل يجب أن تختلف معايير الحزن وفقًا للنوع؟ هل من الممكن أن يتخذ الحزن لدى بعض الحيوانات أشكالًا يصعب على البشر تفهُّمها وإدراك أنها حالة حزن وانتحاب لوفاة رفيق؟

لا تزال البيانات غير متاحة للإجابة عن هذه الأسئلة. بالإضافة إلى هذا، فإن الأمهات أو المسؤولين عن الرعاية الذين يتعهدون الأطفال حديثي الولادة بالطعام أو بالحماية، ثم يتوفى هؤلاء الأطفال في نهاية المطاف، لا يمكن القول بأنهم يستوفون الشرط الأول (أن تتجاوز العلاقة السلوكيات الهادفة إلى البقاء على قيد الحياة) غير أنهم من بين أقوى الأفراد المرشحين للمعاناة من الحزن الناجم عن موت أحدهم.

ستساعد الدراسات المستقبلية عن حزن الحيوانات وانتحابها على صقل هذا التعريف، أما في الوقت الحالي، فإنها تساعد على تطوير التقييم الجوهري لردود فعل الحيوانات عندما يموت الآخرون من حولهم.

على سبيل المثال، في بعض الأحيان تحمل الأمهات من قردة البابون والشمبانزي في البرية في أفريقيا جثث أطفالها لعدة أيام، أو أسابيع بل وحتى شهورا، وهو سلوك ربما يبدو على السطح دليلا على الحزن، غير أنها ربما لا تُبدي أي مؤشرات خارجية تدل على الاضطراب أو الأسى والحزن. وعندما تستمر الحيوانات في ممارسة سلوكياتها الروتينية، مثل التزاوج، فإن سلوكياتها هذه لا تفي بالمعايير الموضوعة لتقييم الحزن.

نماذج من حزن الحيوانات

على أية حال، ثمة مجموعة كبيرة من الأنواع تظهر لديها السلوكيات التي تناسب تعريف الحزن الذي يتكون من شقين، من بينها الفيلة.

من بين الأمثلة المثيرة للاهتمام بصورة خاصة على حزن الفيلة تلك الحالة التي تحدث عنها إيان دوجلاس هاميلتون، من جمعية “أنقذوا الفيلة”، وفريقه في محمية سامبورو الطبيعية في كينيا، حيث تابعوا في عام 2003 ردود أفعال الفيلة تجاه احتضار أنثى الفيل القائدة في القطيع والتي كان يُطلق عليها “إليانور”.

عندما انهارت إليانور على الأرض، هُرِعت أنثى أخرى تقود عائلة أخرى يُطلق عليها “جريس” إلى مساعدتها على الفور، واستخدمت أنيابها لمساعدة إليانور على الوقوف على أقدامها مرة أخرى. وعندما سقطت إليانور مرة أخرى، ظلت جريس معها، تحاول دفعها بجسدها على الأقل لمدة ساعة، على الرغم من أن عائلتها قد انطلقت لتواصل طريقها. ثم ماتت إليانور، وعلى مدار الأسبوع التالي، أظهرت إناث من خمس عائلات -من بينها عائلة إليانور- اهتمامًا خاصًّا بالجثة. وبدت بعض الفيلة غاضبة، فأخذت تدفع الجثة وتلكزها بخراطيمها وأقدامها، أو تتمايل جيئة وذهابًا وهي واقفة فوقها. وبناءً على رد فعل الإناث (طوال تلك الفترة لم يأت أيٌّ من الذكور لزيارة الجثة)، استنتج دوجلاس-هاميلتون أن الفيلة تُبدي ما يُعرف باسم استجابة عامة للاحتضار والموت؛ الحزن ليس لخسارة قريب فقط، لكن أيضًا لخسارة أفراد من عائلات أخرى.

والثدييات البرية أيضًا يبدو أنها تُبدي ردود أفعال حزينة بصورة عامة. في عام 2001، لاحظ فابيان ريتر، من مركز أبحاث الثدييات، على جزر الكناري أنثى دولفين من نوع الدلافين خشنة الأسنان تدفع جثة صغيرها وتسحبها بطريقة تشبه كثيرًا تلك الطريقة التي اتبعتها أنثى الدولفين قبالة خليج أمفراكيكوس بعد ذلك مع جثة وليدها. غير أنها هذه المرة لم تكن وحدها، إذ كان يسبح إلى جوارها اثنان من الدلافين البالغة بشكل متزامن في بعض الأوقات، وفي أوقات أخرى كانت مجموعة تتكون من 15 دولفينًا تغير سرعة سباحتها كي تضم إليها الأم وجثة وليدها. وقد كانت مثابرة الأم لافتة للنظر، وعندما بدأت قواها تخور في اليوم الخامس، انضم إليها الحارسان ودعما جثة الوليد على ظهريهما.

والزرافات أيضًا يبدو أنها تشعر بالحزن. في عام 2010، في محمية سويسامبو في كينيا، وضعت زرافة روتشيلد صغيرًا له ساق مشوهة. كان الصغير يسير أقل من غيره ويظل ساكنًا في مكانه أكثر من غيره من الصغار، وعلى مدار فترة عمر الصغير التي لم تتجاوز أربعة الأسابيع، لم تر زو مولر -عالمة البيولوجيا في الحياة البرية التي تعمل في مشروع زرافات روثشيلد القائم في كينيا- الأم على مسافة تبعد أكثر من 20 مترًا من صغيرها. وعلى الرغم من أن الأفراد في قطيع الزرافات غالبًا ما تقوم بمزامنة أنشطتها، أي أنها على سبيل المثال تبحث عن الطعام معًا، فإن تلك الأم خالفت ذلك النمط وفضلت البقاء بالقرب من صغيرها. وعلى غرار الدولفين الأم في خليج أمفراكيكوس، ربما تكون قد خاطرت بصحتها عندما فعلت هذا، رغم أنها في هذه الحالة فعلت هذا لحماية صغيرها الذي لا يزال على قيد الحياة.

وفي أحد الأيام، اكتشفت مولر أن القطيع منهمك في سلوك غير تقليدي، إذ كانت سبع عشرة زرافة من الإناث، من بينهن أم ذلك الصغير، في حالة من اليقظة والاضطراب وهن يُحدِقن برقعة من أشجار كثيفة، حيث كان الصغير قد مات في تلك البقعة قبل ساعة واحدة. وقد أبدت الإناث السبع عشرة اهتمامًا شديدًا بالجثة ذلك الصباح، إذ كن يقتربن منها ثم يبتعدن مرة أخرى. وبحلول ظهيرة ذلك اليوم، ارتفع العدد إلى 23 أنثى و4 صغار، وحاول البعض لكز الجثة بخطمه، وفي المساء اجتمعت 15 أنثى بالغة حول الجثة بشكل أقرب مما كُنَّ عليه طوال اليوم.

وعلى مدار اليوم التالي، جاءت العديد من الزرافات إلى جثة الصغير، واقترب بعض الذكور البالغين لأول مرة، على الرغم من أن الذكور لم تُبدِ أي اهتمام بالجثة، بدلًا من ذلك كانت تركز على البحث عن طعام أو تتفحص الحالة التناسلية للإناث. وفي اليوم الثالث، وجدت مولر الزرافة الأم وحدها تحت شجرة على بعد 50 مترًا تقريبًا من المكان الذي مات فيه الصغير، غير أن جثة الصغير نفسها لم تكن في مكانها. وبعد بحث، وجدتها مولر وقد التهمت الحيوانات المفترسة نصفها، في المكان تحت الشجرة التي كانت الأم تجلس أسفلها في وقت مبكر. وفي نهاية اليوم التالي اختفت الجثة تمامًا، إذ كانت الضباع قد أخذتها.

إن الزرافات حيوانات اجتماعية بشدة، فبعد إخفاء الطفل الوليد بعيدًا عن الأنظار في مكان آمن مدةَ الأسابيع الأربعة الأولى من حياته، فإن الأمهات أحيانًا يشتركن في نظام رعاية للصغار؛ إذ تقوم واحدة بالاعتناء بالصغار في حين تبحث الأخريات عن طعام. لم تستخدم مولر كلمة “حزن” أو “حداد” في وصف الموقف الذي شهدته، غير أن هذه الحالة كانت ثرية بالمعلومات بشكل خاص؛ إذ لم يتغير سلوك الأم فحسب ولكن أيضًا سلوك العديد من الإناث في القطيع بصورة ملحوظة عقب وفاة ذلك الصغير. وعلى الرغم من استحالة استبعاد تفسير آخر، فإن حقيقة أن الإناث قد تجاوبن بتنظيم حماية ضد استيلاء الحيوانات المفترسة على الصغير يجعل من المرجح بشدة أن مشاعر الحزن كانت تسيطر عليهن.

لا تزال عمليات الرصد المفصلة للحيوانات البرية، كتلك التي رصدتها مولر، نادرةً إلى حد ما، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب؛ فربما لا يكون العلماء في المكان المناسب في الوقت المناسب لرصد ردود الأفعال بعد وفاة أحد الحيوانات، وحتى إذا كانوا حاضرين، ربما لا تظهر السلوكيات التي تنم عن الحزن. وفي هذه المرحلة المبكرة من الأبحاث حول شعور الحيوانات بالحزن، ربما توفر لنا عمليات المراقبة في حدائق الحيوان والملاجئ، وحتى في منازلنا، بعض الأدلة.

لا يمكن أن أتخيل وصف سلوك القطة السيامي “ويلا” دون أن أستخدم كلمة “حزن”. على مدار 14 عامًا، عاشت ويلا مع شقيقتها “كارسون”، في منزل كارين ورون فلو في فيرجينيا. كانت الشقيقتان تنظفان وتعتنيان ببعضهما وتسترخيان معًا في أماكن مفضلة محددة من المنزل وتنامان وجسداهما متعانقان، وعندما كانت كارسون تخرج من البيت لزيارة الطبيب البيطري، كانت ويلا تبدو مستاءة ومضطربة إلى حدٍّ ما حتى يجتمع شملها مع شقيقتها. وفي عام 2011، ازدادت مشكلات كارسون الصحية المزمنة سوءًا، فاصطحبها الزوجان إلى الطبيب البيطري مرة أخرى، ثم نفقت كارسون في أثناء نومها. في البداية، تصرفت ويلا كما كانت تفعل عندما كانت شقيقتها تبتعد عنها مدةً قصيرة، ولكن في غضون يومين أو ثلاثة بدأت تطلق أصواتًا غريبة، تبدو كالنواح والعويل، وتبحث عنها في الأماكن التي كانت تفضِّلها هي وكارسون، وحتى عندما بدأت هذه السلوكيات الصادمة تختفي، ظلت ويلا خاملة وواهنة القوى لعدة شهور.

أنثى الغوريلا تمسك بجثة صغيرها في إحدى حدائق الحيوان في مونستر بألمانيا. على الرغم من أن هذا السلوك غير كافٍ لإثبات الحزن على الموتى، فإن الأمهات التي تفقد صغارها من أقوى الحيوانات المرشحة للشعور بالمرارة والحزن لفقد حيوان آخر.

أنثى الغوريلا تمسك بجثة صغيرها في إحدى حدائق الحيوان في مونستر بألمانيا. على الرغم من أن هذا السلوك غير كافٍ لإثبات الحزن على الموتى، فإن الأمهات التي تفقد صغارها من أقوى الحيوانات المرشحة للشعور بالمرارة والحزن لفقد حيوان آخر. 

 

لا شك أن إخلاص الكلاب لرفاقها من البشر يُضرب به المثل، وربما يكون حزنها كذلك. في بعض الأحيان، يذهب زوار مدينة طوكيو إلى محطة قطار شيبويا لرؤية تمثال كلب من نوع أكيتا اسمه “هاتشيكو”، كان ينتظر صديقه هيدسابورو أوينيو يوميًّا لأكثر من عقد في أثناء عودته من عمله على متن القطار. ولكن أوينو، الذي كان أستاذًا جامعيًّا، وافته المنية فجأة في مكتبه بالجامعة، وبالتالي لم يعد قَط إلى المنزل برفقة هاتشي (كما أصبح الكلب يُدعى)، غير أن الكلب ظل مترقبًا ينتظر عودة صديقه بكل أمل حتى مات هو الآخر. وهذا الإخلاص الشديد يوجد أيضًا في علاقة الكلاب ببعضها وليس علاقتها بالبشر فحسب. فقد أثبت المشروع الخاص بدراسة حزن الحيوانات التابع للجمعية الأمريكية لمنع القسوة ضد الحيوانات أن ثلثي الكلاب تظهر عليها تغيرات سلوكية تدل على استياء عاطفي، يستمر حتى ستة أشهر، عندما يموت كلب آخر يعيش معها في نفس المنزل.

وتعكس هذه الإحصائيات تجربة عائلتي أيضًا. فابنة عمي كوني هوسكينسون لديها كلب من نوع ترير الحريري، يُدعى “سيدني”، شعر بحزن عميق مرتين: عندما توفي جورج زوج كوني، وبعدها عندما نفق الكلب الثاني “أنجل”، الذي أحضرته كوني إلى المنزل عندما كان عمر سيدني 13 عامًا، إثر تعرضه لأزمة قلبية حادة مفاجئة. ومن دون رفقة صديقه الكلب، الذي كان ينام معه، وظل أسابيعَ يبحث عنه في المنزل، أصبح سيدني يأكل أقل من المعتاد، وفقد وزنه، ولم يمر وقت طويل حتى نفق في أثناء نومه.

متسلسلة الأسى

من المنطقي أن نعتقد أن الأنواع التي تعيش لفترات طويلة والتي تجمع أعضاءها علاقات وطيدة في ثنائيات مقربة أو مجموعات عائلية أو قطعان ربما تشعر بالأسى والحزن أكثر لوفاة رفاقها أكثر من الأنواع الأخرى. ولكن لا يزال الباحثون لا يعرفون ما يكفي من المعلومات حول حزن الحيوانات لتأكيد هذا الزعم؛ إذ نحتاج إلى اختبار هذه الفرضية عن طريق مقارنة ردود الأفعال تجاه الموت بصورة نظامية في مجموعة متنوعة من الأنظمة الاجتماعية الحيوانية، من الحيوانات الاجتماعية التي تتحرك في قطعان دائمًا إلى تلك الحيوانات التي لا تجتمع معًا إلا للطعام أو التزاوج.

رغم ذلك، فإن الأمر لا يتوقف على الاختلافات على مستوى الأنواع فحسب، نظرًا لأن الاختلافات في السياقات الاجتماعية الفورية وشخصيات الأفراد تجعل الأمر أكثر تعقيدًا.

على سبيل المثال، في حين أن ترك الحيوان الحي يرى جثة رفيقه الميت في بعض الأحيان يمنع أو يقلل فترة البحث المليئة بالأسى والنواح، فإنها في أحيان أخرى لا تساعد على الإطلاق، وهو ما يدلل على درجة الاختلاف بحسب الأفراد في ردود أفعالها تجاه الموت داخل الأنواع.

وبالمثل فإن الأدلة على مشاعر الحزن لدى القردة البرية التي تعيش في مجتمعات متماسكة محدودة بصورة مثيرة للدهشة حتى الآن، في حين أن العلاقات في الأنواع التي يغلب عليها الطابع الفردي من الحيوانات، مثل القطط المنزلية، ربما تتطور بين حيوانين أو أكثر من الأصدقاء أو الأقارب، حتى إن حزنها ربما ينافس مستوى الحزن لدى الحيوانات الاجتماعية.

وعلى الرغم من ذلك، بدأ الضوء يُسلَّط على مواقف تدل على مشاعر الحزن لدى القردة البرية، بما في ذلك قردة المارموست التي تعيش في أمريكا الجنوبية، وقردة السيتشوان فطساء الأنف، وقردة المكاك البربري. وفي كتابي الذي صدر بعنوان “كيف تحزن الحيوانات” How Animals Grieve، أسرد بعض الأمثلة من الأرانب والخيول والطيور، وكذلك الحيوانات الأخرى التي ناقشناها في هذا المقال. وفي كل نوع، أجد متسلسلة من الحزن، إذ يبدو بعض الأفراد لا يأبهون لموت أحد رفاقهم، في حين يبدو غيرهم شديدي الاضطراب والأسى من جرَّاء هذه الخسارة.

تؤدي الاختلافات الإدراكية أيضًا دورًا في حزن الحيوانات. فمثلما أن هناك مستويات مختلفة من التعاطف تُعبر عنها الأنواع المختلفة، بل والأفراد المختلفة داخل النوع الواحد، فلا بد وأن هناك مستويات مختلفة من الفهم والإدراك عندما تحزن الحيوانات. هل تدرك بعض الحيوانات نهائية الموت؟ أو هل لديها تصور ذهني لفكرة الموت؟ إننا لا نعرف إجابة هذا السؤال ببساطة؛ إذ ما من أدلة تشير إلى أن الكائنات غير البشرية تتوقع الموت كما نفعل نحن البشر، وهي قدرة نلمسها بقوة تقف وراء الكثير من أبرز الأعمال الأدبية والموسيقية والفنية والمسرحية، وهذا يسبب للبشر قدرًا هائلًا من المعاناة العاطفية.

بل ربما تصبح القدرة على الحزن لوفاة الآخرين ذات تكلفة باهظة لأي حيوان على المستوى الجسدي والعاطفي، لا سيما في البرية حيث تحتاج الحيوانات لأن تكون متيقظة ومفعمة بالطاقة من أجل البحث عن الطعام والتزاوُج وتجنُّب الحيوانات المفترسة. فلماذا تطور الحزن في المقام الأول إذًا؟

ربما يكون الانسحاب الاجتماعي الذي غالبًا ما يصاحب حزن الحيوانات، ما لم يتفاقم الأمر، متيحًا لها بعض الوقت للارتياح ومن ثَم التعافي العاطفي الذي يؤدي بدوره إلى نجاح أكبر في تكوين علاقات وطيدة جديدة. أو كما يقول جون آرتشر في كتابه “طبيعة الحزن” The Nature of Grief: “ربما يمكن النظر إلى تكلفة الحزن على أنها مقابل الفوائد العامة التي تشملها ردود الأفعال والاستجابات للفراق” التي نراها عند افتراق فردين تربطهما علاقة وطيدة ولكن تجبرهما الظروف على الافتراق.

في ظل هذه الظروف، فربما يبحث الشريكان المفقودان عن بعضهما ومن ثَم قد يجتمع شملهما مرة أخرى ويستكملا حياتهما. ومن ثَم، فإن السلوك التكيفي قد لا يكون الحزن في حد ذاته، وإنما المشاعر الإيجابية القوية التي تمر بها الكائنات قبل ظهور الحزن في الصورة، والتي يتشاركها اثنان أو أكثر من الحيوانات والتي تعزز بقوة مستوى التعاون بينها في رعاية الصغار والاعتناء بهم أو المهام الأخرى المرتبطة بالحصول على الموارد.

ثمن الحب

من هذا المنظور، ربما نربط بين الحزن والحب، وينتهي الأمر هنا، أي أن الحزن ينتج عن ضياع الحب.

في دراسته للمشاعر في مجموعة متنوعة من الأنواع، اعتنق مارك بيكوف -عالِم البيئة وعالِم دراسة سلوك الحيوان من جامعة كولورادو بولدر- فكرة أن الكثير من الحيوانات تشعر “بالحب” مثلما تشعر “بالحزن”، هذا رغم أنه يرى أن هذه المفاهيم من الصعب تعريفها بدقة. ويقول إننا نحن البشر لا نفهم تمامًا معنى الحب، ولكننا لا ننكر وجوده، أو قدرته على تشكيل الاستجابات العاطفية.

ويروي بيكوف في كتابه “الحيوانات مهمة” Animals Matter قصة أنثى قيوط تُدعى “موم” كان يراقبها على مدار عدة سنوات في أثناء دراسات سلوكية في منتزه جراند تيتون الوطني بولاية وايومنج.

في مرحلة ما، بدأت موم تقوم برحلات قصيرة وحدها بعيدًا عن القطيع، وكان صغارها يبتهجون بشدة عند عودتها؛ فكانوا يلعقونها ويتدحرجون في سعادة عند أقدامها، ثم رحلت عنهم موم للأبد. فكان بعض القيوط في قطيعها يقطعون المكان جيئةً وذهابًا، وآخرون بحثوا عنها منطلقين في الاتجاه نفسه الذي ذهبت فيه موم، وقد كتب بيكوف يصف الموقف: “لقد افتقدتها عائلتها”. وعندما ناقش بيكوف هذا الأمر معي، عزا رد فعل القطيع إلى حبه لموم، وقال إنه بصورة عامة احتمالات الحب قوية بين أنواع من الكائنات مثل القيوط والذئاب والكثير من الطيور، لأن الذكور والإناث تدافع معًا عن المناطق التي تعيش فيها، وتربي الصغار معًا، ويفتقد أحدهما الآخر عندما يفترقان.

غالبًا ما يتشابك الحب مع الحزن في عالم الحيوانات في تبادل قوي. وربما يكون الحب بين الأفراد هو الذي يساعد على توقع متى ستعبِّر تلك الحيوانات عن الحزن أكثر من مدى الترابط الاجتماعي داخل النوع. فهل هناك شك حقيقي في أن ويلا، التي تمثل نوعًا من الكائنات لا يُعرف عنها الطبيعة الاجتماعية (وهي القطط المنزلية)، قد أحبت شقيقتها كارسون، أو أنها عانت حزنًا عميقًا بعد وفاة شقيقتها؟

وبيننا نحن بني البشر، أصبح التعبير عن الحزن أقوى من خلال الطقوس الثرية بالرمزية. فقبل ما يقرب من 100 ألف عام، كان سلفنا من الإنسان العاقل يزين الجثث بمُغرة حمراء، وهو سلوك فسره علماء الآثار بأنه نوع من التزيين الرمزي (وليس الوظيفي). وفي موقع في روسيا يُطلق عليه “سانجير”، دفُنت جثتان لولد وفتاة عمرهما أقل من 13 عامًا قبل 24 ألف عام، ومعهما الكثير من الأشياء في القبر تتراوح بين أنياب حيوان الماموث إلى حيوانات منحوتة من العاج، ولكن كان الشيء الأكثر إثارة للدهشة هو تلك الآلاف من الخرز العاجي التي وُجدت في قبرهما، والتي غالبًا ما كانت محاكة في الملابس التي دُفنت بها الجثتان (وتحللت بمرور الوقت). لا بد وأن مجموعة ليست بالصغيرة من ذلك المجتمع البشري القديم في “سانجير” قد اجتمعت لإعداد تلك الطقوس الجنائزية، فكل واحدة من تلك الخرز استغرقت ساعة أو أكثر لصنعها. وعلى الرغم من أن إسقاط مشاعر حديثة على مجموعات سكانية قديمة أمر محفوف بالمخاطر، فإن الأمثلة على حزن الحيوانات التي يغطيها هذا المقال تدعم تفسير الدليل الأثري تفسيرًا عاطفيًّا: لقد حزن أسلافنا قبل عدة آلاف من السنوات لموت أطفالهم.

وفي العصر الحديث، لم يعد الحزن مقصورًا فقط على الأقارب أو الشركاء الاجتماعيين أو حتى الأفراد الآخرين في نفس مجتمع المرء. فالنُّصُب التذكارية العامة في حديقة هيروشيما التذكارية للسلام، والنصب التذكاري للإبادة الجماعية في كيجالي برواندا، والنصب التذكاري لقتلى اليهود في أوروبا في برلين، وموقع برجي التجارة في مانهاتن، وموقع مدرسة ساندي هوك الابتدائية في نيوتاون في كونيتيكت، جميعها يعكس بوضوح قوة الحزن والأسى على المستوى العالمي.

إن قدرة البشر على الإحساس بالأسى والحزن لموت أشخاص غرباء لا يعرفونهم تستند على ركيزة تطورية. ربما تكون طريقة البشر في التعبير عن حزنهم فريدة، ولكن تلك القدرة البشرية على الشعور بحزن عميق في حد ذاتها شيء نتشاركه مع غيرنا من الكائنات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *