منوعات

الضوء والدماغ .. كيف تؤثر الإنارة في مزاجنا؟

علاقة الدماغ بالضوء علاقة أكبر من أن تفسر بمجرد الأذواق الجمالية، فالضوء في الحياة، ليس فقط أحد مصادر الطاقة التي تعمل على استمرارها، بل هو أحد العوامل التي تساهم بقوة في تحديد سلوك الأحياء وبصم نظامهم المعاشي.

وقبل أن تتشكل علاقة جديدة لدماغ الإنسان بالضوء الذي صنعه عبر سلسلة من الاكتشافات والابتكارات، فهو قد أنشأ علاقة قوية ومتجذرة مع ضوء الشمس في أعظم تجلياته في تناوب الليل والنهار، ونام ليلا ونشط نهارا.

وبعد اكتشافه النار، وابتكار أشكال من الإضاءة سمحت له عبر التاريخ الطويل بمطاردة الظلام متى شاء، أصبح للضوء حضور جديد يتجاوز مجرد التغلب على إكراهات الظلام إلى وظائف أخرى تتعلق بالديكور والجمال، وتشكيل الفضاءات، وتكييفها مع متطلبات الأذواق.

واليوم يخضع تدبير الضوء إلى قواعد علمية تتعلق بالجوانب الصحية، وخاصة ما يتعلق بالمزاج، فتتم هندسة الإنارة وفق نشاط الدماغ المرغوب.

وحسب الجزيرة نت، تُغيِّر الإضاءة مزاجنا جذريا، في غرفة ذات أضواء دافئة نشعر بالهدوء والاسترخاء، بينما يمكن لتغيير الإضاءة في الغرفة نفسها إلى ضوء الفلورسنت الأبيض القوي أن يزيد نشاطنا وقدرتنا على التركيز والعمل، بالضوء يمكن خلق مساحات مريحة وتعزيز العمق والارتفاع، بحيث لم تعد المصابيح أداة بسيطة للحصول على الضوء فقط، إنها تمنحنا تجربة كاملة، تزيد مساحاتنا جمالا وتجعلها أكثر مناسبة لمتطلباتنا وحالتنا المزاجية.

نقضي اليوم أغلب أوقاتنا في إضاءة اصطناعية، وهذه الأضواء المتنوعة التي تحيط بنا تُحدث تأثيرات مختلفة في أجسامنا، كما تؤثر في صحتنا النفسية تأثيرا ملحوظا، بحيث صار علينا أن نستغرق وقتا أكبر أمام رفوف المحلات للاختيار من بين مئات المصابيح، والاهتمام بالبيانات المكتوبة عليها لنختار ما يناسبنا منها.

وكما تكشف لنا الدراسات حول تأثير الإضاءة، حسب نفس المصدر، فإن الأمر ليس رفاهية، فما حدود هذا التأثير؟ وكيف تختار الإضاءة المثالية في أركان منزلك؟

هكذا يفسر دماغنا الضوء

دعنا نتعرف بداية على أثر الضوء في دماغنا.

تتكوَّن “الساعة الرئيسية” التي تتحكم في إيقاع الساعة البيولوجية من مجموعة من الخلايا العصبية في الدماغ تسمى النواة فوق التصالبية (Suprachiasmatic nucleus) أو (SCN)، وهي تحتوي على ما يقرب من 20 خلية عصبية وتقع في منطقة ما تحت المهاد.

تتلقى هذه المنطقة معلوماتها عن العالم الخارجي من خلال شبكية العين، فتتعرف على الوقت وفقا لجودة الإضاءة المحيطة، إذ تحتوي على خلايا متخصصة حساسة للضوء، وهكذا تأخذ المعلومات حول طول النهار والليل من أعيننا، وتُفسِّرها وتُمرِّرها إلى الغدة الصنوبرية، التي تستجيب بدورها للإشارات القادمة، فتفرز هرمون الميلاتونين بشكل كبير خلال الليل استعدادا للنوم وتوقفه أثناء النهار لنبدأ في الشعور باليقظة.

يغمرنا الضوء الاصطناعي غالبا حتى خلال ساعات النهار، بشكل يؤدي إلى تدمير عمل النواة فوق التصالبية، مما يحرمنا من انتظام دورة النوم والاستيقاظ. نتيجة لذلك، عندما نختار إضاءة سيئة فإننا نُعرِّض أنفسنا لمشكلات صحية مثل إجهاد العين والصداع والإرهاق، وأخرى نفسية مثل التوتر والقلق خاصة في بيئات العمل الأكثر ضغطا.

في بيئات العمل تؤثر الإضاءة في أداء العاملين، وفق تقرير بحثي أعدته شركة “Staples”  في المملكة المتحدة حول تأثير الإضاءة في مكان العمل، أُجري مسح عبر الإنترنت لنحو سبعة آلاف من العاملين في المكاتب في عشر دول أوروبية بينها المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وهولندا والسويد في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018، ليكشف التقرير أن 40% من العاملين في المكاتب يعانون من الإضاءة السيئة بشكل يؤثر في إنتاجيتهم ورفاهيتهم، وأن 25% من الذين شملهم الاستطلاع يشعرون بالإحباط من الاضطرار إلى التعامل مع الإضاءة السيئة في أماكن عملهم.

في التجارب، قال 80% منهم إن وجود إضاءة جيدة في أماكن عملهم أمر مهم بالنسبة لهم، وذكر نحو 40% أنهم يعانون من إضاءة غير مريحة، وأن الوصول إلى ضوء الشمس الطبيعي محدود للغاية في فصل الشتاء، ولهذا السبب يشعر كثير منهم بالتوتر ويعاني بعضهم من الاضطراب العاطفي الموسمي (SAD)، وأكَّد 32% من المشاركين أن الإضاءة الأفضل ستجعلهم أكثر سعادة في العمل.

القلق وتأثر النوم

لا يزال حديثنا عن الإضاءة عموما، أما عن أنواعها، ففي دراسة حول تأثير ضوء الفلورسنت (fluorescent) على مرضى القلق نشرتها مجلة “كيورياس” (Cureus)  للعلوم الطبية العام الماضي، لاحظ الباحثون زيادة مدلات الشعور بالقلق لدى المصابين أصلا باضطرابات القلق مقارنة بغيرهم عند التعرض لضوء الفلورسنت، إذ شعروا بعدم الارتياح وأصابهم الصداع أحيانا، وفضَّل بعضهم مغادرة المكان بينما جاهد الآخرون للتكيُّف.

أوضحت دراسات سابقة أن ضوء الفلورسنت يزيد اليقظة ويؤثر سلبا في القدرة على الاسترخاء والنوم، وهذا يفسر نتائج الدراسة، فالمشاركون الذين يعانون من اضطرابات القلق يكونون بالفعل في حالة تأهب ويفتقدون للقدرة على الاسترخاء، وهي حالة يزيدها ضوء الفلورسنت، وبالتالي يزيد شعورهم بالقلق، بينما يستطيع المشاركون الآخرون الاستفادة من جوانب إيجابية للتعرض لضوء الفلورسنت، فيشعرون بالسعادة والنشاط جراء تثبيط إفراز الميلاتونين على الرغم من المعاناة من تدهور الحالة المزاجية وفقدان الدافع في اليوم التالي.

يُستخدم الضوء الأزرق على نطاق واسع في عالمنا اليوم، إلى جانب المصابيح فهو ينبعث من شاشات التلفزيون والهواتف المحمولة، يحيط بنا من كل جانب، ونظرا لقوته التي تزيد على 5000 كلفن فإن التعرض له لمدة ساعة واحدة في الليل كافية للتأثير في إنتاج الميلاتونين، مما يؤدي إلى تأخير وقت النوم لمدة قد تصل إلى ثلاث ساعات.

في دراسة أُجريت بجامعة غرناطة، قام الباحثون بتجربة تأثير الضوء الأزرق في قدرتنا على الاسترخاء بالمقارنة بالضوء الأبيض، ليجدوا أن أعراض الإجهاد التي تظهر في استجابات فسيولوجية مثل معدل ضربات القلب ونشاط الدماغ التي تؤثر سلبا في الصحة العامة كانت تختفي أسرع لدى المجموعة التي تعرضت للضوء الأزرق، ما أكَّد قدرته على منحنا شعورا بالاسترخاء بعد التعرُّض للإجهاد النفسي أكثر من الضوء الأبيض.

تعرف على الضوء حولك

لكن كيف يمكننا اختيار إضاءة مناسبة؟

وهنا نهتم بالجزء العملي، لدينا اليوم خيارات متعددة للمصابيح الذكية، علينا أن نعرف بعض الخصائص التقنية؛ شدة الإضاءة، ودرجة حرارة اللون (التي يمكننا تمييزها في لون الضوء المنبعث من المصباح)، ومقياس التجسيد اللوني (الذي يبدو في قدرة الضوء على كشف ألوان الأثاث والحوائط في المكان)، وهي تعتبر عوامل أساسية لإعداد المكان وتهيئة الأجواء داخله وفق وظيفته، وهي معايير يستخدمها المتخصصون في تحديد الإضاءة المناسبة.

تُقاس درجة حرارة اللون بمقياس كلفن الذي يوضح مستوى لون الضوء، ويتراوح المقياس من الضوء صاحب اللون الأكثر دفئا (1800 كلفن) الذي يميل إلى اللون الأصفر مثل ضوء الشمس، إلى أبرد درجة من الألوان التي توجد في الضوء الأزرق (تصل إلى 6500 كلفن)، كما يحدد المقياس نسبة الضوء الأزرق في الضوء الذي نتعرض له.

يبدو الضوء مائلا إلى اللون الأصفر الدافئ عندما يتراوح بين 2500-3000 كلفن، وهو يساعد في الاسترخاء أثناء القراءة والراحة، وبين 4900-6500 كلفن يبدو الضوء طبيعيا أقرب إلى اللون الأبيض، وهو يساعد في العمل المريح، أما حين يزيد على 6500 كلفن ويقدم مستوى كبيرا من السطوع ويميل إلى اللون الأزرق فإنه يساعد في زيادة التركيز والانتباه.

تحديد شدة الضوء، أي كمية أو كثافة الضوء الذي يسقط على نقطة معينة، يمكن قياسه بوحدة شدة الضوء في نظام الوحدات الدولي التي يُرمز لها بـ “لُكس” (Lux) أو (lx)، وهي كلمة لاتينية تعني “ضوء”، تميز عيوننا جيدا بين رؤية ما بين 0.1 لُكس في ليلة اكتمال القمر و100000 لُكس في يوم صافٍ في منتصف الشارع، والآن يمكننا التوجه إلى الغرف والأركان لنحدد الضوء المناسب لها.

فيما يتعلق بشدة الضوء المناسبة ينصح الخبراء بأن تتراوح بين 50-100 لُكس في الممرات، وأن تكون بين 100-200 لُكس في المطابخ، وألا تقل عن 500 لُكس في أماكن العمل، حينما تفتح النافذة في الصباح لتجلس بالقرب منها تطالع أحد الكتب فإن هذا الضوء غير المباشر يبلغ 10000 لُكس، ولهذا فما إن تصل درجة الإضاءة إلى أقل من 600-800 لُكس حتى يبدأ الدماغ في الشعور بحلول الليل ويهيئنا للنوم.

عند اختيار ضوء غرفة المعيشة وغرف النوم يُفضَّل استخدام المصابيح ذات الضوء الأبيض الناعم، من 2700 إلى 3000 كلفن، الذي يمنحنا الدفء والراحة، وهو مناسب للقراءة التي تسبق النوم، بينما يُنصح باختيار الضوء الأبيض المائل للصفرة الذي يتراوح من 3000 إلى 4000 كلفن في المطابخ والحمامات، أما المصابيح ذات اللون الأبيض الناصع، مع ألوان تتراوح بين 4000-5000 كلفن، التي تصدر درجات اللون الأبيض والأزرق، فهي تزيد من مستوى الطاقة، وتعتبر الخيار المثالي لمطبخك والمكاتب المنزلية. (10)

أبيض أم أصفر؟

عموما، سيكون علينا أولا أن نحدد وظيفة كل ركن في المنزل ليمكن اختيار الإضاءة المناسبة له، فنحدد مثلا هل سيُخصَّص المكان للراحة أم للعمل، ليمكننا معرفة ما إذا كنا في حاجة إلى درجة لون باردة أم دافئة على سبيل المثال.

في الغالب ما نقوم بمهام مختلفة في المساحة نفسها في المنزل، ونقضي فيها ساعات مختلفة خلال اليوم، وتبدل حالتنا المزاجية، ربما نتلقى مكالمات العمل ونمارس الرياضة ونجلس للاسترخاء ومشاهدة فيلم جيد في عطلة نهاية الأسبوع، لذا نحتاج إلى تكييف الإضاءة مع مزاجنا وعملنا، ولحُسن الحظ فالعديد من أنواع المصابيح الكهربائية المتوفرة اليوم يمكن تغيير لون الإضاءة بها حسب الرغبة، لذا أصبح ممكنا أن تختار المصباح ذاته في غرفتك وتغيير لون الإضاءة حسب الرغبة بدلا من شراء عدة مصابيح في كل غرفة.

أما عن لون الضوء، فتختلف خياراتنا وميولنا بالطبع، خاصة مع ما يُضفيه لون الضوء من ظل يغير لون الأثاث في المساحات، لكن عموما يكون الضوء الأبيض البارد هو الخيار الأفضل خلال ساعات العمل عندما تحتاج إلى أن تكون في كامل اليقظة والانتباه، بينما يكون عليك اختيار درجة حرارة اللون التي تقل عن 3000 كلفن حين تريد الاسترخاء والقراءة ليلا دون أن تتأثر ساعات نومك، وعموما حاوِل الحدّ من التعرض للضوء الأزرق خلال ساعات الليل لتجنب تأثيره الضار.

بعض التطبيقات يمكن أن تساعدك في اختيار الإضاءة المناسبة لغرفتك تحديدا، تطبيق “Lighting Calculations”، وموقع www.vonn، وهي تتيح لك إدخال بيانات تتعلق بمساحة الغرفة ولون الجدران ومصدر الضوء الذي تُفضِّله -من الأعلى أو ضوء جانب- بحيث يمكنك خلق مساحتك الخاصة بأعلى جودة ممكنة.

من خلال الإضاءة فقط إذن يمكن خلق مساحات مريحة وجميلة تمنحنا الشعور الذي نُفضِّله في كل ركن من أركان منازلنا، كما تُضفي مظهرا مختلفا لكل ركن يتناسب مع المهمة التي نقوم بأدائها وطبيعة الوقت من اليوم، تأثير تلك الأضواء التي تصاحبنا لساعات طويلة يستحق أن نتوقف بعض الوقت لاختيار الأفضل، لنحصل على الشعور الذي نُفضِّله في منازلنا، ولتساعدنا في القيام بمهامنا على النحو الأمثل.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *