وجهة نظر

أضواء على مؤتمر “حظر استعمال الدين في السياسة”

هناك الكثير من الزوايا المعتمة التي يجب تسليط الضوء عليها في أعمال مؤتمر “حظر استعمال الدين في السياسة” و الذي أعتبره مؤتمرا موجها للتجربة الإسلامية، بشكل خاص، و لا قدرة له على التدخل، مثلا، في التجربة الصهيونية التي تسعى إلى تكريس الطابع اليهودي ل (دولة) إسرائيل ! العلمانوي العربي يمتلك جرأة إيديولوجية مستفزة في نقده للتجربة الإسلامية، لكنه يقف مكتوف الأيدي أمام التجربتين اليهودية و المسيحية !

كمدخل منهجي، يجب التمييز بين الإسلام Islam كدين و بين الإسلاموية islamisme كإيديولوجيا، كما يجب التمييز بين العلمنة laïcité كتصور معرفي و بين العلمانوية laïcisme كتصور إيديولوجي.

في علاقة بالتصور الإيديولوجي الإسلاموي، لا يمكن للباحث المعرفي إلا أن يرفض التأويل السياسي الذي مورس على النص الديني الإسلامي من أجل المرور من الحاكمية الإلهية إلى الحاكمية السياسية. و نفس الأمر ينطبق على التصور الإيديولوجي العلمانوي الذي يختزل العلمنة المعرفية في التجربة العلمانوية الفرنسية و ربيبتها الأتاتوركية، في السياق الإسلامي، و هما تجربتان إيديولوجيتان مجردتان من المرجعية المعرفية المؤسسة.

أما في علاقة بالإسلام كتصور معرفي مؤسس للثقافة و القيم و التشريع، فهو جزء من نظامنا المعرفي و محدد لرؤيتنا للعالم، و من الوهم الإيديولوجي تصور القدرة على تجريد أمة من خصوصيتها الإسلامية بجرة قلم إيديولوجية عابرة !لكن، هذا لا يعني اختزال الإسلام في تلق نصي غفل و مجرد من الأدوات المنهجية على طريقة عصر الانحطاط، كلاّ الأمر يتجاوز هذا الاختزال بكثير، فالإسلام قبل أن يكون نصوصا هو كليات و مقاصد، و هذا يفتح المجال للانفتاح على التصورالحداثي للدين الذي يميز بين البعد الروحي العقائدي و بين البعد المادي التشريعي.

هذا التمييز بين الحابل المعرفي و النابل الإيديولوجي، يحتاج مرجعية معرفية مؤسسة. لذلك، يجب أن يناط الأمر بالباحثين، لأنه يتجاوز البريكولاج السياسوي الذي يتوهم حسم المسألة بجرة قلم عابرة، العناصر المعرفية في الثقافة تشبه العناصر الجينية في البيولوجيا، وليس بالإمكان القيام بتعديلات معرفية عميقة دون الوقوع في محظور تشويه الشخصية الجماعية، مثلما يحدث مع التعديل الجيني تماما .

من هذا المنظور، يمكن اعتبار استحضار تجربة “دير تومليلين” في سياق أعمال مؤتمر “حظر استعمال الدين في السياسية” إصرارا على تزييف الحقائق المعرفية إلى متلاشيات إيديولوجية رثة، و هذا ما يؤكده سياق تأسيس التجربة كما تؤكده الغايات التي أًسِّست من أجلها.

تم تأسيس “دير تومليلين” بمنطقة آزرو بالأطلس من طرف الاستعمار الفرنسي سنة 1952 في سياق حركة التنصير التي قادتها فرنسا من منظور استعماري. و هذا يؤكد على توظيف الاستعمار للدين المسيحي في السياسة، خلاف ما قد يستنتجه هواة (حقوق الإنسان) المسيسة عندنا !

و هنا، يجب التأكيد على كون منطقة الأطلس – آزرو خاصة- كانت بمثابة منصة إطلاق المشروع الفرنك-كولونيالي، على مستوى التعليم، قبل أن يتطور الأمر إلى مستوى مشروع التنصير. فمن هناك انطلقت تجربة المدارس الفرنسية-البربرية عبر تأسيس كوليج آزرو سنة 1927 الذي كان موجها لتشكيل نخبة فرنك-بربرية متصالحة مع المشروع الاستعماري، كانت وظيفتها مواجهة المشروع الوطني، في أفق تمثيل دور الفاعل الفرنكفوني بعد انسحاب الاستعمار.

هذا التداخل بين التعليم و الدين (كوليج، دير) ليس مشروعا بريئا البتة، بل يحمل بين طياته توجها استعماريا مفضوحا، يسعى إلى توظيف التعليم و الدين كأسلحة ناعمة لاختراق الدولة و المجتمع.

نؤمن و نسعى إلى نشر ثقافة التعددية و الاختلاف و الانفتاح، لكن يجب احترام ذكائنا الجماعي فهذه المفاهيم ليست دوال فارغة و مجردة، إنها علامات signes تتشكل من دال signifiant و مدلول signifier . المشكل ليس في الدال و لكن في مدلوله الذي يجب أن يعاد شحنه بثقافة و قيم وطنية أصيلة معرفيا بعد إفراغه من الشحنة الإيديولوجية. و هذا لن يتحقق إلا من خلال البحث الأكاديمي السوسيو-ثقافي الذي يمكنه وحده تخليص المفاهيم من الاختطاف الإيديولوجي.

* د. إدريس جنداري – باحث 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *