وجهة نظر

الشفافية الضريبية: أدواتها موجودة والباقي إرادة سياسية

حدد الدستور حقوق الوطن على المواطن في الإسهام في الدفاع عن حدوده وفي الإسهام، كل حسب قدراته، في الصرف على المرفق العام. والمقصود أن كل مواطن لا يحب بلده بالروح والجسد والمال حسب قدرته لا يمكن أن نصفه بشيء آخر غير الخيانة. والضريبة عنصر أساسي في ضمان استمرارية العيش المشترك. وما أكثر المشتكين من ثقل الضريبة وأغلبهم من أغنياء الوطن وليس ممن يؤدون يوميا واجباتهم الضريبية عبر استهلاكهم للمواد الغذائية والدواء والماء والكهرباء وخدمات وسلع متعددة. وهؤلاء لا يشتكون من الضريبة بل من ضعف مداخيلهم ووصولهم إلى خدمات صحية وتعليمية وقضائية تجعلهم يشعرون بحرقة الإنتماء للوطن.

الضريبة على القيمة المضافة جزء من العبىء الضريبي الذي يتحمله المواطن المستهلك ولا تتحمله المقاولة. كثير من الكذب و التحايل يلف هذه الضريبة غير المباشرة. من يبيع سلعة أو يقدم خدمة مقابل قيمة مالية هو مجرد محصل لضريبة عليه دفعها بدل المستهلك إلى خزينة الدولة. ورغم وضوح القاعدة الضريبية في مجال الضريبة على القيمة المضافة، تتفتق إمكانيات الذكاء السلبي لاستغلال مال دفعه المستهلك النهائي وتعرض له غشاش ومتهرب يريد تقليص قدرة الوطن لحماية حقوق المواطنين. وللتذكير فإن مبلغ الضرائب غير المباشرة والتي تؤدى من قبل الولادة وحتى بعد الممات يشكل مكونا هاما في بنية الضريبة سواء تعلق الأمر بما يتم تحصيله داخليا أو بمناسبة عمليات الاستيراد.

عملت الدولة منذ سنوات على تصحيح وضعية أثرت سلبا على بعض المقاولات وأغلبها شركات تنتمي إلى القطاع الخاص. وهذه الوضعية ترتبط بما يسمى بالمصدم. والأمر يتعلق بالفرق الذي تؤديه المقاولة المستوردة لسلع وخدمات وما تحتسبه، طبقا للقانون الضريبي، في فاتورتها على المتعاملين معها. وللمثال وللتبسيط كان المكتب الوطني للسكك الحديدية يستورد تجهيزاته مع أداء نسبة 20% كضريبة على القيمة المضافة والتي يجب أن يسترجعها من خلال الضريبة التي تطبق على مبيعاته لمستهلكي خدمات النقل السككي والتي كانت محددة في 14%. ونفس الأمر كان يهم مقاولات أخرى. ولهذا تم وضع نظام لتصفية المتأخرات وتوصل المتضررون من المصدم بجزء كبير من حقوقهم ومسلسل تصفية هذا الملف مستمرة.

و لكن الأمر الكبير لا زال يتعلق بالعدالة الجباءية. ولهذا تم عقد المناظرة الوطنية الثالثة للجبايات تحت شعار العدالة. ولكن تجري المياه بما لا تشتهيه السفن. ولأول مرة في تاريخ هذه المناظرات تم تهييئ أرضية ومعطيات وتم وضع نظام معلوماتي وبنك معلومات وشبكة تباذل معطيات عرت كل نقائص التحصيل الضريبي. وقيل عن المنهج الذي اتبعته الإدارة العامة للضرائب أنه خطير وأنه سيدخل البلاد في أزمة ثقة وقد يؤدي إلى زيادة حدة الأزمة التي تعيشها بعض القطاعات وعلى رأسها قطاع العقار. وقامت حملات مغرضة ضد الشفافية وصلت الى حد مقايضة أداء الضريبة بطرد عاملين في بعض القطاعات حيث تم اعتبار تشغيل عمال وموظفين خدمة اجتماعية تقوم بها بعض المقاولات وخصوصا في قطاع الصحة. وشهدت المناظرة الوطنية الثالثة حول الجبايات مشادات بينت أن العدالة الضريبية الدستورية لا زالت تواجه عراقيل كبيرة ممزوجة بخطاب خاطئ. ومع الأسف تقف القوى السياسية والنقابية موقف المتفرج السلبي إتجاه قضية كبرى تهم سير وديمومة المرافق العمومية.

الأنظمة المعلوماتية التي طورتها الإدارة العامة للضرائب فضحت ممارسات خبيثة في مجال الضريبة على الدخل المهني والضريبة على الشركات. ولضمان تليين الدخول إلى منطقة القانون بالنسبة للكثير من المهن الكبيرة، عقدت هذه الإدارة مشاورات مع المحامين والأطباء والمهندسين والموثقين ووضعت أمامهم كل المعطيات الحقيقية عن وضعهم الضريبي المختل. فاعترف البعض بالخلل والتهرب الضريبي ولجأ البعض إلى نهج وسائل تبرير تخالف المبدأ الدستوري الخاص بالمساواة أمام واجب أداء الضريبة. والادهى من هذا توصلت إدارة الضرائب بفضل كفاءة اطرها إلى الكشف عن أشكال خطيرة في مجال الغش. وهكذا أظهرت أنظمة المعلومات كيف أن شركات أقفلت أبوابها وتوقفت انشطتها لا زالت تصدر فواتير وصلت إلى مبلغ 53 مليار درهم قبل بدئ أشغال المناظرة الضريبية. ولأن مواجهة هذا الواقع صعبة اكتفت المناظرة بإصدار توصيات عن إمكانية تخفيف العبىء الضريبي على الدخل مع ربط هذا الإجراء بتوسيع الوعاء الضريبي. ومرت بضع سنين ومر القانون الإطار للضرائب ولا زال الحال في الغالب على ما هو عليه رغم ما تحقق . ضاق الأمر بمن سهروا على تطوير أساليب العمل المؤدية إلى الشفافية والعدالة الضريبية وانصرفوا بمرارة . كم نحن في حاجة إلى تلك الروح التي اشتغل بها أطر الإدارة العامة للضرائب بكفاءة عالية وروح وطنية لكي يتم تحقيق العدالة الجباءية. صحيح أن أزمة الكوفيد كانت صعبة لكنها لم تكن حاجزا بالنسبة لكل القطاعات في مجال تحقيق رقم المعاملات والأرباح.

العدالة الضريبية ليس وسيلة لتكثيف الضغط على المواطنين ولكنها مبدأ دستوري يساوي بين المواطنين في الحقوق و الواجبات. قد نختلف مع وزير العدل في بعض المواقف ولكن لا يمكن الإختلاف معه في مجال معاملة حاملي البذلة السوداء كباقي المواطنين في أداء الواجب الضريبي كل حسب قدرته وكذلك كل المهن وكل المقاولات وعموم المواطنين. ونفس الشيء يجب أن ينطبق في مجال الخدمات الصحية وما يحيط بها من ممارسات تقهر المواطن ويضيع معها حق خزينة الدولة. والأمر هنا لا يعني كل المواطنين الشرفاء وهم كثر وكذلك المقاولات المواطنة وهي كثيرة. القانون هو تلك القواعد العامة التي تطبق على الجميع من أجل ضمان استمرار العيش المشترك. فإما أن نستمر في مسلسل بدأ منذ سنوات وتمت عرقلة ديناميكيته، وإما أن نستسلم للضغط في إتجاه تبرير واقع قد يزيد من حجم مديونية الخزينة العمومية. وللتذكير وقف صف متراص ضد وضع نظام معلوماتي لتحصيل وضبط وعاء الضريبة السنوية على السيارات قبل سنوات فكانت النتيجة تقليص تكاليف التحصيل وزيادة مداخيلها بحوالي 20%. و وعلى السياسيين اتخاذ قرار دعم الإدارات العمومية لتحسين اداءها أو ترك الأمر على ما هو عليه. ولكن إختيار الدولة بعد وضع نموذج جديد للتنمية هو احداث القطيعة كاختيار إستراتيجي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *