أخبار الساعة

فن الامتنان .. اعتراف بالنعم يجعلك تنعم بالسعادة

يتعلق الامتنان من الناحية اللغوية بالشكر والاعتراف بالجميل لمن قدم لك معروفا، وينتشر في الحياة الاجتماعية كعملة يتبادلها الناس فيما بينهم بعبارات الشكر والامتنان المختلفة، والتي أبدع الناس في صيغها حتى توازن المعروف الذي تلقوه من غيرهم.

لكن الامتنان يتجاوز مجرد التعبير للغير بالإشارة أو الكلمة، إلى اعتراف داخلي وعاطفة إيجابية اكتشف العلماء آثارها النفسية القوية، ودعوا إلى عدم غفلة الشخص عن الامتنان لنفسه، حتى يستفيد من نتائجه وحسناته، وصاغوا قواعد ومبادئ لما أسموه “فن الامتنان”.

لكن البعض يحرص على أن ينحصر الامتنان في شكلياته من خلال التعبير بالكلمة أو الإشارة لغيرهم، متجاهلين عمقه النفسي، فيحرمون أنفسهم من فوائده النفسية عليهم قبل فوائده الاجتماعية مع غيرهم، كما يغفل الناس عادة الالتفات إلى أنفسهم بالامتنان لها بما أنجزت وحققت وامتلكت، مما يضيع عنهم الاستفادة من أحد منابع السعادة والعيش بسلام مع ذواتهم.

ما الامتنان؟

تعني كلمة الامتنان، حسب الجزيرة نت، التقدير والشكر لما يتلقاه الفرد من أشياء جيدة في الحياة، سواء أكانت هذه الأشياء مادية أو غير مادية. فيمكنك الامتنان لأجل وجود المال والمنزل والسيارة، كما يمكنك الامتنان لأجل وجود الشعور بالرضا وراحة البال والاطمئنان والأمان. يُعبّر الكثير منّا عن امتنانه بقول “شكرا” لشخص ساعدنا أو قدّم لنا هدية.

لكن من منظور علمي، حسب نفس المصدر، الامتنان ليس مجرد تصرف أو كلمة، إنه أيضا عاطفة إيجابية تخدم أغراضا صحية، فيمكن اعتبار الامتنان تقديرا عميقا تنتج عنه مشاعر إيجابية تدوم لفترة أطول.

ووفقا للدكتور “روبرت إيمونز”، من جامعة كاليفورنيا، فإن الشعور بالامتنان ينطوي على مرحلتين: المرحلة الأولى هي الاعتراف بوجود الخير في حياة المرء، وأننا تلقينا شيئا ما يُثلِج الصدر. خلال هذه المرحلة يحدث التأكيد بشكل عام على أن الحياة جيدة، وتحتوي على أشياء تستحق العيش. أما المرحلة الثانية فتتمثل في الاعتراف بأن بعض مصادر هذا الخير تكمن خارج الذات.

يمكن للمرء أن يكون ممتنا للآخرين والحيوانات والعالم، ولكن ليس لنفسه. المقصود هنا أنه خلال عملية “الامتنان”، يُدرك الناس جوانب الخير في حياتهم، ويدركون عادة أن مصدر ذلك الخير يكمن جزئيا على الأقل خارج أنفسهم. لذا، يساعد الشعور بالامتنان الأشخاص على التواصل مع شيء أكبر من أنفسهم بوصفهم أفرادا، سواء أكان هذا الشيء هو الأشخاص الآخرين حولهم، أو الله بوصفه قوة أعلى تسوق الخير لهم.

خلال إحدى الدراسات، طلب اثنان من علماء النفس، هما الدكتور “روبرت إيمونز”، والدكتور “مايكل إي ماكولو” من جامعة ميامي، من جميع المشاركين كتابة بضع جمل كل أسبوع حول أحداث حياتهم. كتبت المجموعة الأولى عن أشياء كانوا ممتنين لها حدثت خلال الأسبوع، أما المجموعة الثانية فكتبوا عن الأشياء التي كانت تزعجهم وتُشعِرهم بالضيق، المجموعة الثالثة كتبوا عن الأحداث التي أثرت عليهم بشكل عام ومحايد مع عدم التأكيد على كونها إيجابية أو سلبية.

بعد 10 أسابيع، كانت المجموعة التي دونت أشياء تُعبر عن الامتنان أكثر تفاؤلا وشعروا بتحسن في حياتهم، أيضا لاحظ الباحثون أن هذه المجموعة مارست أيضا تمارين رياضية أكثر وكان لديها معدل زيارات أقل للأطباء من أولئك الذين ركزوا على أسباب الانزعاج والضيق في حياتهم.

فوائد الامتنان وفقا للدراسات والبحوث العلمية

توسع علم النفس الإيجابي في نطاق البحث حول أهمية الامتنان، بقيادة الباحث “روبرت إيمونز”. حيث ألّف إيمونز العديد من الأوراق البحثية حول سيكولوجيا الامتنان، وأثبت أن الشعور بالامتنان يمكن أن يؤدي إلى زيادة مستويات الرفاهية في حياة الناس. فمثلا، وجدت الدراسات أن التعبير عن شكرك يمكن أن يؤدي إلى تحسين شعورك العام بالرفاهية، وتوصلت أيضا إلى أن الأشخاص الممتنين أكثر قبولا وأكثر انفتاحا وأقل عصبية.

لهذا السبب يرتبط الامتنان سلبيا بالاكتئاب، وإيجابيا بالرضا عن الحياة، إذ وجدت دراسة أن الامتنان كان له تأثير -وإن كان هذا التأثير محدودا- على الحدّ من أعراض القلق والاكتئاب. حاليا يدخل الامتنان -بشكل جانبي- في نطاقات العلاج النفسي للاكتئاب والقلق.

كذلك يُعَدّ الامتنان أداة قوية لتقوية العلاقات الشخصية، حيث يميل الأشخاص الذين يُعبّرون عن امتنانهم لبعضهم بعضا إلى أن يكونوا أكثر استعدادا لمسامحة بعضهم عند ارتكاب الأخطاء، كما أنهم يكونون أقل نرجسية. كذلك فإن تقديم الشكر لأولئك الذين ساعدوك يُقوّي من علاقاتك ويعزز بشكل عام قدرتك على تكوين العلاقات والحفاظ عليها.

من الفوائد النفسية أيضا ما وجدته دراسة أُجريت عام 2014 من أن ضبط النفس قد زاد بصورة ملحوظة عندما اختار الأشخاص الشعور بالامتنان. لضبط النفس أهمية بالغة في مختلف جوانب حياة الشخص، بدءا من الالتزام بالواجبات والمسؤوليات وتطوير وتنمية المهارات والتفوق، وصولا إلى مكافحة العادات الصحية السلبية مثل الإقلاع عن التدخين والإفراط في تناول الطعام. يساعدنا ضبط النفس على الالتزام بـ”الخيار الأفضل” لصحتنا على المدى الطويل، ولمستقبلنا المالي ورفاهيتنا.

مما سبق، يمكن أن يوفر لنا الشعور بالامتنان التصميم وقوة الإرادة التي نحتاج إليها لاتخاذ خيارات في حياتنا تخدمنا عاطفيا وجسديا على المدى الطويل، وهو ما أكدت عليه دراسة أُجريت عام 2018، والتي وجدت ارتباطا بين ضبط النفس/الصبر من جهة، والامتنان من جهة أخرى. خلال الدراسة كان الأشخاص الممتنون يؤخرون المكافآت الخاصة بهم بدرجة أكبر من غيرهم. يشير الباحثون إلى أن هذا له آثار تمتد إلى ما هو أكثر من الشؤون المالية للفرد، مُؤكدين أن زيادة مستويات الشعور بالامتنان يمكن أن تساعد الأشخاص على اتباع سلوكيات إيجابية متعلقة بالصحة.

الامتنان أيضا لديه القدرة على تحسين سلوكك بشكل عام، فقد توصلت دراسة أُجريت عام 2006 إلى أن هناك علاقة إيجابية بين السلوك الاجتماعي الإيجابي والشعور بالامتنان. وجد الباحثون أن الامتنان يُسهّل عليهم تقديم المساعدة للآخرين، فيساعد الأشخاص الممتنون الأشخاص الذين ساعدوهم، كما أنهم يساعدون الغرباء أيضا.

وجدت الأبحاث أيضا أن الامتنان يمكن أن يُحسن من صحتك الجسدية، إذ أظهرت دراسة أُجريت عام 2014 وجود علاقة إيجابية بين الامتنان، والصحة البدنية ذاتية التقييم والميل إلى ممارسة الأنشطة الصحية والاستعداد لطلب المساعدة فيما يتعلق بالمخاوف الصحية. إضافة إلى الفوائد الصحية الجسدية والنفسية السابقة، أظهرت أدلة أن الامتنان يمكنه أن يُحسّن من نوعية نومك، تحسين نوعية النوم الذي تحصل عليها هو أمر في ذاته قادر على تحقيق العديد من الفوائد الجسدية والنفسية، بالإضافة إلى كونه يزيد من تركيزك ويُعزز من إنتاجيتك في العمل والدراسة.

كيف يمكنك أن تصبح أكثر امتنانا للأشياء الجيدة في حياتك؟

لا يعني كون الامتنان أمرا جيدا أنه أمر يسهل الشعور به دائما. قد يتعارض الشعور بالامتنان مع بعض الميول النفسية المتأصلة بعمق في النفس البشرية، والتي منها مثلا الأنانية والغرور، هذه الصفات تعني أنه عندما تحدث أشياء جيدة لنا، نقول إن ذلك بسبب شيء فعلناه، ولكن عندما تحدث أشياء سيئة، فإننا نلوم الآخرين أو الظروف. الامتنان يتعارض مع هذا، لأننا عندما نشعر بالامتنان، نمنح الفضل للآخرين في حدوث أشياء جيدة في حياتنا، حتى وإن كُنّا قد أنجزنا بعضا من أسباب حدوث هذه الأشياء بأنفسنا.

إذا لم تكن لديك القدرة على الشعور بالامتنان، فيُمكنك اكتساب هذا الشعور تدريجيا من خلال بعض التمارين والعادات، صحيح أن الامتنان هو شعور قد يكون لديك بشكل فطري وعفوي، لكنه أيضا ممارسة يومية يمكنك تنميتها من خلال بعض التمارين التي منها “رسم خرائط الامتنان”.

للقيام بهذا التمرين، عليك أن ترسم لوحة بصرية تحتوي على كل الأشياء التي تشعر بالامتنان من أجلها، بمجرد الانتهاء من ذلك، يمكنك وضع هذه اللوحة في مكان بارز لتذكير نفسك بهذه الأشياء كل يوم. هناك طريقة بصرية أخرى لممارسة الامتنان، وهي تدوين ملحوظات قصيرة عن الأشياء التي تشعر بالامتنان من أجلها، والاحتفاظ بها في وعاء. إذا شعرت بأنك بحاجة إلى تذكر الأشياء الجيدة في حياتك لتوليد الشعور بالامتنان، فسيكون عليك فقط قراءة الملحوظات التي دونتها سابقا.

يُمكنك أيضا كتابة يوميات خاصة بالامتنان، هذا الأمر يُشبه كتابة يومياتك والأحداث التي مررت بها خلال اليوم، الفارق هنا يكون في أنه بدلا من إعادة سرد أحداث اليوم بشكل محايد أو سلبي، ستسجّل فقط الأشياء التي تشعر بالامتنان من أجلها. ليس عليك أن تُدوّن الكثير، فمذكِّرات الامتنان الخاصة بك يمكن أن تكون بسيطة مثل قائمة محددة النقاط بالأشياء الجيدة التي مرّت عليك خلال اليوم.

قد يكون من الصعب على البعض إدراك الأشياء الجيدة من الأساس حتى يتمكنوا من تدوينها، لتخطي هذه العقبة يكون على المرء التفكير في الأشياء اليومية التي يستمتع بها، مثل فنجان جيد المذاق من القهوة، أو الاستماع إلى أغنيته المفضلة على الراديو. يُمكن أيضا التركيز على اللحظات الإيجابية التي حدثت في الماضي، مثل المواقف السعيدة أو المشاعر الدافئة أو الكلمات الطيبة التي حصل عليها الشخص من الآخرين. يمكن للشخص الراغب في تنمية الشعور بالامتنان التفكير في الأشخاص الذين ساعدوه بحبهم ودعمهم والذين ظلوا إلى جواره في الأوقات الصعبة والجيدة.

إذا لم يكن لديك وقت للكتابة، فيمكنك فقط توجيه الشكر لشخص ما بشكل معنوي، فقد يساعدك مجرد التفكير في شخص فَعَلَ شيئا جيدا من أجلك وتوجيه الشكر له عقليا على الشعور بالامتنان. يمكنك أيضا التفكير في الأهداف التي حققتها والمهارات التي أتقنتها والمواقف التي أظهرت قدراتك، سيساعدك تذكر هذه الأشياء على الشعور بالامتنان وتعزيز احترامك لذاتك. أيضا يمكنك أن تحيط نفسك بصور الأشخاص أو الحيوانات الأليفة أو الأماكن التي تلهمك بمشاعر الامتنان كلما رأيتها.

يمكنك أيضا زرع الامتنان من خلال ممارسة اليقظة الذهنية، اليقظة هي ممارسة تركيز انتباهك عمدا على شيء ما. فمجرد تركيز انتباهك لبضع دقائق على شيء إيجابي في حياتك يمكن أن يزيد من شعورك بالامتنان. عندما تبذل جهدا لتركيز عقلك وأفكارك على الأشياء الجيدة التي يمكن أن تشعر بالامتنان تجاهها، سيترتب على هذا لاحقا إدراك المزيد من الأشياء الجيدة تلقائيا، فقد أظهرت فحوصات الدماغ للأشخاص الذين يعززون الامتنان حدوثَ تغيّرات في قشرة الفص الجبهي تجعلهم أكثر عرضة للشعور بالامتنان في المستقبل.

في البداية يكون الأمر صعبا، لكن مع الممارسة اليومية تبدأ نفسك بالاستجابة، ومع الممارسة لفترة أطول يصبح الامتنان عادة في حياتك، هنا تظهر النتائج الإيجابية، والتي ربما لم تكن لتلاحظها في البداية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *