مجتمع

“أيادي الخير”.. طلبة مهندسون يتحدون 700 كيلومترا لفك العزلة عن دواوير “منسية”(فيديو)

ورود تتناثر في سماء الصحراء، وكؤوس حليب الناقة مصحوب بحبات تمرٍ توزع على شباب امتزجت بوجوههم ملامح الفرحة والاستغراب في الآن ذاته، في وقت شرع أطفال يرتدون لباسا تقليديا أصيلا في دق طبول الترحيب بالضيوف القادمين من مكان بعيد وهم يتمايلون على نغمات فلكورية محلية.

كانت تلك الصورة التي رسمها ساكنة دوار “اقايكيرن” التابع لجماعة “اقايغان” بإقليم طاطا، وهم يستقبلون أزيد من 80 طالبا مهندسا في طور التكوين بالمدرسة العليا للكهرباء والميكانيك بالدار البيضاء، قطعوا 700 كيلومترا وتحملوا عناء السفر للوصول إلى أقصى الجنوب الشرقي لطاطا، لإدخال الفرحة على قلوب الأهالي وفك العزلة عن دواوير “منسية” بالحدود المغربية.


ينتمي هؤلاء المهندسون الشباب إلى نادي “انسيم الخير” الذي يعود تأسيسه إلى سنة 2010، ويضم طلبة مهندسين بشعبة الميكانيك والكهرباء مؤطرين من فاعلين رائدين في العمل التطوعي ومن خريجي المدرسة، يشتغلون بطريقة منظمة ومتناسقة أشبه بـ”خلية نحل” من دون كلل أو ملل.

“صخرة” التمويل !
خولة الحمداوي “المسؤولة عن التمويل” بالنادي هي واحدة من هؤلاء المهندسين الشباب الذين لم يجعلوا الدراسة هدفهم الوحيد، وحملوا على عاتقهم مسؤولية الإسهام في تأطير المجتمع ومساعدة الفئات الهشة، والتي تقول لجريدة “العمق”: “نحمل على عاتقنا تنفيذ مشروعان مهمان في كل قافلة، وهما كهربة المنازل وتجهيز الآبار بالمضخات التي تعمل بالطاقة الشمسية”، وتضيف بكل ثقة: “تتطلب هذه المشاريع مبالغ مالية ضخمة، لذلك نحتاج باستمرار إلى البحث عن التمويل اللازم”.

ولأجل ضمان التمويل المطلوب، تطرق “الحمداوي” ورفاقها أبواب الشركات الكبرى التي تخصص جزءا من عائداتها لدعم مشاريع في إطار المسؤولية الاجتماعية، حيث توضح بهذا الشأن: “نطرق الأبواب، ونرسل الإيمايلات، ونشارك في اجتماعات باستمرار من أجل تقديم أفكار ومشاريع تنموية للمقاولات، ونكتسب في كل مرة –ولله الحمد- ثقة العديد من الشركاء”.

ولا يتوقف دور الشركات الممولة في توجيه التمويل للنادي، بل يتجاوزه إلى مراقبة طرق صرفه وآثاره المباشرة على الساكنة المحلية، وهو المسار الذي بسطته الحمداوي قائلة: “بعد منحنا مبلغ الدعم من طرف شركة فإنها تبعث إلى القافلة التي ننظمها ممثلين عنها، للسهر على معاينة طريقة تنفيذ المشاريع، ومراقبة أوجه صرف أموال الدعم، ومشاركة النادي تجربتهم التي تختلف من منطقة إلى أخرى”.
وفي القافلة التي حطت رحالها بطاطا بعد سفر شاق امتد لـ12 ساعة كاملة، قدرت المتحدثة تكلفتها المالية بحوالي 210 ألف درهم (21 مليون سنيتم).

أربع تشكيلات
رغم الأجواء الجميلة التي خيمت على ظروف الاستقبال الذي خصصته الساكنة للضيوف المحملين بالهدايا، فإن المهندسين المتطوعين سرعان ما تفرقوا لأداء المهمة التي جاؤوا من أجلها بعد انقسامهم إلى أربع مجموعات.
تكلفت المجموعة الأولى بتركيب الألواح الشمسية فوق أسطح المنازل المتفرقة في دوار اقايكيرن بجماعة اقايغان، بينما سلك أفراد المجموعة الثانية طريقا صحراويا مليئا بالصخر والشوك لإنارة ظلمة دوار قريب من الشريط الحدودي يسمى “دوار خنگ سيدي رزوگ” الذي ترتبط ساكنته بأرض جافة تنبث بها أشجار نخيل هزمتها توالي سنوات الجفاف فيبست أغصانها.

واللافت في هذه المنطقة التي تفتقد لكل مقومات العيش الكريم، إصرار أبنائها –كما عاينت “العمق” على مواجهة شبح الجفاف بكل السبل، بما في ذلك اللجوء إلى تخزين مياه الأمطار في أكياس بلاستيكية ضخمة، فيما لم يجدوا بدا من وضع أسلحتهم على الأرض فيما يخص تدريس أبنائهم، حيث هزمهم بُعدُ المدرسة وانعدام النقل المدرسي.

أما المجموعة الثالثة فقد قطعت ما يزيد عن 6 ساعات للوصول إلى دوار “امسكين” التابع هو الآخر لجماعة اقايغان باقليم طاطا، من أجل تركيب لوحات شمسية لمنزلين فقط يقعان بصحراء قاحلة ليصل مجموع المنازل التي تم تجهيزها بالألواح الشمسية إلى 20 منزلا.

فيما تكلفت المجموعة الرابعة بتجهيز البئر الوحيدة بدوار اقايكيرن، والذي استغرق العمل فيه يومين كاملين من أجل تركيب ألواح شمسية كبرى لضخ المياه الصالحة للشرب التي سيستفيد منها 102 منزل، و600 فرد، بحسب ما أفاد به أحد الفاعلين الجمعويين الذين ساعدوا النادي في تنزيل مشاريعهم التنموية بالمنطقة.

وفي الوقت الذي كان الطلبة المهندسون منشغلين بأداء مهامهم التي أتوا من أجلها، كان الفرح يُشِعُّ في وجوه أهالي المنطقة، لدرجة أن شيخا كهلا لم يتمالك نفسه وصرخ بأعلى صوته: “شكرا لأنكم فكرتم فينا !”، وما زاد من فرح هذا الرجل المسن ذلك المصباح الذي أنار ظلمة غرفته المغطاة بالقصب وجريد النخل بعد الضغط على الزر.

عطاء المهندسين لم ينحصر في تخصصهم فقط، بل شاركوا تلاميذ مدارس “اقايكيرن” فرحة تزيين ساحة المدرسة وطلاء جدران أقسامها بالوان مبهجة، ونظموا أنشطة ترفيهية تخللتها مسابقات وجوائز أدخلت السرور في نفوس التلاميذ.

في كل قافلة ينظمها نادي “انسم الخير”، تسافر الحافلات محملة بكميات كبيرة من المواد الغذائية والملابس الكافية للصغير والكبير، حيث استفاد ما يزيد عن 160 أسرة، خلال هذه الرحلة الإنسانية.

ولا تقل مهمة توزيع هذه المساعدات صعوبة عن مَهمات المجموعات الأخرى، بل كانت أكثر المجموعات عدادا لأن الأمر يتطلب جردا، وتدقيقا ومعاملات إنسانية تليق بطبيعة الساكنة المحافظة، حيث استفادت كل أسر الدوار من مؤونة تكفيهم لما يزيد عن شهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *