وجهة نظر

الأشباح الذين يثقلون ميزانيات الجماعات

حين تكتشف رئيسة مجلس العاصمة أن الموظفين الأشباح كائنات حية وتطيل الكلام عن الموضوع أمام منشط برنامج ذو قدرة كبيرة على الاستفزاز الجميل، فهذا فيه ما فيه من الكلام.
من زمان وأغلب من انتسبوا بإرادة أو بغيرها إلى فرق اللعب في مكاتب الإدارات العمومية يعرفون ظاهرة الحاضر الغائب. وقد تعودنا في زمان مضى حسب ظني عن وجود مكاتب فارغة يوجد بداخلها كرسي يحمل معطفا وبعض ربطات العنق.

وفجأة يظهر شخص كنت أظنه غير موجود يسلم علينا بأدب ويجري بعض المكالمات الهاتفية قبل ظهور الهاتف المحمول ثم يمضي. ولا نراه إلا بعد وقت طويل. وعلى العكس من هذا الشبح الذي كان يخشى الجميع قدرته على إيذاء من اقترب منه، كان الآخرون العاملون يخافون من وصول متأخر إلى مكاتبهم.

أتذكر أحد الموظفين في مصلحة كنت أرؤسها يصل إلى مكتبه قبل الجميع ويتولى تصفية ما لديه من أعمال يومية ثم ينصرف. كنت احترمه لأقدميته وإتقانه للتعامل مع الحسابات الخصوصية للخزينة والتي تتطلب كثيرا من التجربة.

هذا الموظف، رحمه ألله، كان لطيفا وجديا وكان يقدرني كأحد أبناءه رغم أني كنت، بكثير من الخجل، رئيسه. ولج إلى الإدارة التي كنت اشتغل بها سنة 1953 أي قبل ولادتي بأشهر. كان مهووسا بأناقة العمل و قليل الكلام. فاجأني في أحد الأيام حين تكلم ،مع مديري الذي كان يحاول إفراغ بعض المكاتب، بكثير من الصراحة وذكره بيوم وصوله إلى مديرية من أقدم مديريات وزارة المالية. آنذاك كنا مجموعة صغيرة في إدارة همها كبير ووسائلها البشرية محدودة جدا.

في بعض الأحيان كنا نقضي الليالي لإتمام مهمة وخصوصا حين أصبح صندوق النقد الدولي يتساكن معنا في مكاتب ضيقة. كنا نحرص على أن لا نزعجهم ولكن تساكني معهم في مكاتبهم في واشنطن لشهور أزال عن عيناي غشاوة السلطة الممزوجة بخبرة مالية محدودة والتي كانت توصف أنها دولية وأصبحت أمتلك أدواتها عن ظهر قلب مع الكثير من الزملاء.

ورجوعا إلى الموظفين الأشباح، وجب القول أن الممارسة السياساوية بعد 1977 خربت الوظيفة المحلية. أصبح بعض الاميين أمريين بالصرف وخاضعين للحي والمدينة والحزب والنقابة واستغلوا غياب إطار رقابي لوزارة الداخلية آنذاك لكي يضعون لوائح التعيينات بعد علمهم بنتائج الانتخابات. ويصل الرئيس الجديد وهو ملزم على تطبيق قرارات من كان قبله رئيسا. صحيح أن الوزارة الوصية أوقفت المهزلة ولكن آثار السنين التي مضت لا زالت حاضرة.

قدر لي أن افتحص إحدى البلديات القريبة من الرباط وفوجئت أن العاملين بها يفوقون بكثير حجم المهام الموكلة إلى البلدية. وأردت أن أحلل بنية توزيع الموظفين فاكتشفت أن 540 من بينهم موكل إليهم رعاية المناطق الخضراء.

قررت أن أزور جميع هذه المناطق فلم أجد سوى بعض البستانيين ولا أحد غيرهم. ولما طلبت من الرئيس في ذلك الزمن إعطاء أي جواب عن هذا الوضع ظل صامتا. ولأن متابعة الموضوع تحتاج إلى أشهر كثيرة تمت الإشارة إلى موضوع الأشباح دون القدرة على كشف هوياتهم وتفاصيل ملفاتهم.

وحكى لي أحد الزملاء أنه أكتشف بالصدفة وجود موظفين أشباح في إحدى الوزارات بعد مقارنة لوائح الموظفين الذين يشتغلون فعلا داخل المصالح والاقسام واللائحة التي يتم على أساسها صرف الرواتب والتعويضات فوجد أن الأمر يتعلق بأشباح غير موجودين. وبعد العلم بالموضوع، حكى لي ذلك الزميل أن المسؤول عن هذا الملف أقدم على الانتحار.

الآلاف من مناصب الشغل على صعيد الجماعات الترابية شكلية وتتطلب البحث الموضوعي و المساءلة. و إذ ذاك سيختفي الشبح الذي كان يحظى براتب وتعويضات أخرى. دولتنا دولة قانون أولا ودائما. والزيف لا بد أن ينكشف. يا كل عمداء المجالس أنتم مسؤولون عن محاسبة الأشباح. غدا تحاسبون أللهم إن المواطنون قد بلغوا.

ومن اللازم أن تتم الإشارة لكثير من موظفي الجماعات الذين يتحملون أعباء كبيرة ويقومون بواجبهم بكثير من الالتزام. كل هذا في وقت يقضي بعض زملاءهم وقتهم في المقاهي أو في مهن أخرى و هم محميون من المساءلة ومن الإجراءات التأديبية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *