وجهة نظر

الإنترنيت .. حفار قبر الصحافة المكتوبة أم “هدية السماء”؟

قبل أشهر قرر طلال سلمان،مالك جريدة “السفير” اللبنانية، التوقف عن إصدار النسخة الورقية نهائيا و الاكتفاء بالنسخة الالكترونية فقط.هذا القرار المؤلم بإعدام واحدة من المنابر الاعلامية الرائدة في الوطن العربي منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي جاء بسبب الأزمة المالية الخانقة التي ظلت المجلة تعانيها في صمت منذ عقود.

“السفير”، التي ولدت كبيرة بخطها التحريري والأيقونات الإعلامية الكبيرة التي كانت تكتب فيها،و التي عرفت التوقف عن الصدور ثلاث مرات بقرارات حكومية وتعرض مقرها للقصف ومطابعها للنسف و رئيسها –طلال سلمان- لمحاولة اغتيال فاشلة في الثمانينات، لم تكن الأولى التي تحصل على شهادة الوفاة و لن تكون قطعا الأخيرة، لكن المكانة التي تحظى بها داخل و خارج الوطن العربي، لفتت مرة أخرى الانتباه إلى الأزمة التي يعانيها الإعلام المكتوب منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، نتيجة تنامي وانتشار التلفزيون والراديو و تراجع مستويات القراءة و استغلال الاشهار كوسيلة لترويض المنابر الإعلامية، فقد أصبح حصول جريدة ما على مساحات مهمة من الإشهار -حتى الحكومي منه- لا يكون بسبب عدد السحب اليومي و لكن بسبب الخط التحريري.

فقد لاحظ الصحفي الأمريكي “Jeff Jacoby” في مقالة بعنوان “هل ستقوى الصحف على العيش؟” نشرت على موقع ” The Boston Globe” قبل 9 سنوات أن عدد الأمريكيين الذين يقرؤون جريدة في اليوم قد تراجع من 70 في المائة بداية السبعينيات إلى 35 في المائة فقط سنة 2007، وإذا كان هذا هو الوضع في الولايات المتحدة، فيمكن تخيل الوضع في باقي الدول، وبخاصة منها الدول العربية، التي تصل فيها نسب القراءة بصفة عامة مستويات قياسية من التدني.

أدى ظهور الانترنيت نهاية القرن الماضي وسهولة انتشاره، حيث يرجح أن يكون اليوم أكثر من 6 مليار شخص يتوفرون على هذه الخدمة، إلى المساهمة بشكل كبير في إعادة بعث و إحياء الصحافة المكتوبة، خلافا لما ذهب إليه البعض من كونه – الإنترنيت- “هو حفار قبر الصحافة المكتوبة”.هذا الاستنتاج يزكيه اليوم التطور الكبير الذي لحق المقاولات الاعلامية التقليدية، حيث ظهرت نسخ إلكترونية لأقدم الصحف والمجلات العالمية لتصبح في متناول القراء أينما كانوا و في نفس الوقت بكبسة زر واحدة، بالإضافة إلى بروز مقاولات أخرى جديدة استطاعت أن تحقق في وقت وجيز شهرة واسعة في صفوف القراء، ومنافسة أعتى الصحف والمجلات.

بالإضافة إلى سرعة الولوج لهذه المواقع، التي استطاعت إلى حد كبير أن تخلق توازنا بانفلاتها من الرقابة التي مسخت الإعلام الرسمي، فقد قلل الانترنيت من تكاليف النشر و التوزيع، مما وفر هامشا ربحيا إضافيا لهذه المقاولات الإعلامية، ناهيك عن الاستفادة كثيرا من مداخيل الاشهار نتيجة توفير مساحات كافية و القدرة على تنويع المنتجات المستشهرة، وهو ما لم يكن متاحا في الإعلام الورقي، ونتيجة كذلك للوصول إلى جمهور واسع عبر العالم.

أما من الجانب التقني فقد مكنت هذه التكنولوجيا من دمج المواد المكتوبة مع الوسائط السمعية البصرية في مادة صحفية واحدة، لتوفير خدمة متنوعة، فورية و بجودة عالية، خالقة بذلك ثورة جديدة في مجال الاعلام والاتصال.ليس هذا فقط، بل هناك أيضا إتاحة إمكانية التحرير بعد النشر، سواء من أجل التصويب أو التصحيح، وسهولة الارشفة، وإمكانية الرجوع للمادة في وقت لاحق كلما دعت الضرورة ذلك، دونما الحاجة إلى توفير مساحة مكانية سواء داخل المقاولة أو البيت.

ولعل من أبرز إيجابيات المواقع الصحفية الالكترونية أيضا أنها وفرت إمكانية التفاعل مع المادة الخبرية عن طريق تقنية التعليق و المشاركة و التفاعل،ناهيك عن كون الانترنيت أصبح شبه مجاني، إذ يكفي أن يتوفر الشخص على جهاز ذكي ليتمكن من الولوج إلى هذه الخدمة عن طريق خدمة “الواي فاي” ذائعة الانتشار. هذا دون ذكر إمكانية الولوج إلى عدة منابر إخبارية محلية ودولية بالمجان، وهو ما لم يكن متاحا في السابق بسبب غلاء الصحف والمجلات.

إلى جانب كل ما يسبق تعتبر المواقع الالكترونية صديقة للبيئة مائة بالمائة، وهي ميزة إضافية مكنت المقاولات الصحفية من تفادي احتجاجات الجمعيات البيئية، بسبب استهلاكها لأطنان من الورق يوميا للنشر، وهو ما سينتج عنه حماية الغابات، و بالتالي المساهمة في الحد من التلوث، لاسيما مع تنامي الوعي بضرورة دمج التكنولوجيا العصرية في الصناعة، أيا كانت هذه الصناعة، لتجنب أثار التلوث على المناخ، وعلى حياة الانسان.