منوعات

حسن طارق يكتب: النصف الممتلئ من البلوكاج

يحيل التعقد في مسار تشكيل الحكومة إلى أثار النظام الانتخابي النسبي، وإلى أعطاب الحياة الحزبية، لكنه بشكل مفارق يمكنه، كذلك، أن يُقرأ كدليل على تحولات عميقة تخترق بصمت وبعمق في الآن ذاته، حياتنا السياسية.

ذلك أن الأمر يتعلق في النهاية بتمرين حقيقي لممكنات التأويل البرلماني للنظام السياسي، حيث تشكيل الحكومة، يصبح مسألة أحزاب وتحالفات ونتائج انتخابات واختيارات الإرادة الشعبية.

وهو ما يعني عودة للسياسة وللقرار الشعبي إلى منطقة ذات حساسية خاصة في هندسة توزيع السلط، ظلت حكرا على تقدير القرار السيادي، وعلى الأجوبة التكنوقراطية.

خلال هذا التمرين، لاحظنا كيف أن دمقرطة التداول العمومي، أبطلت السحر الذي طالما غذى تناول الأنتلجنسيا القانونية للوثيقة الدستورية.

وكيف أننا عشنا حالة تملك عمومي واسع لمقتضيات القانون الأسمى، وهو ما يعني تقدما كبيرا في اكتساب الثقافة القانونية والدستورية للمواطن.

ضمن السياق نفسه، تابعنا تزايدا للطلب الواسع للرأي العام على تعميم تفاصيل المفاوضات وخبايا اللقاءات الحزبية، وهو ما أفضى إلى حالة تورط أكبر للسياسيين في شرط الشفافية، ليس بالمعنى المتعلق بسهولة الحصول على المعلومات، ولكن أكثر من ذلك، بالمعنى الذي أصبح فيه الرأي العام فاعلا له تأثير متزايد على الأحداث والوقائع، بحيث لم يعد القرار السياسي قادرا على تجاهله.

في العمق، كانت السياسة تتحول شيئا فشيئا، من معارك وتفاوضات وتسويات، تجري في دوائر مغلقة بين محترفي التنظيمات الحزبية (apparatchik)، وبين ممثلي الدولة، لتصبح عبارة عن تفاعلات عمومية/علنية وسط الساحة العامة.

إنها السياسة المغربية التي ظلت تعرف بالأساس كترتيبات فوقية، باتت تستعيد قدرتها الجزئية على صناعة المفاجأة. حيث نعرف أين ننطلق، ولا نعرف إلى أين سنصل. نعرف مواقف الفاعلين واتجاهات موازين القوى، لكننا لا نعرف شكل المخرجات وطبيعة التفاعلات النهائية.

هي السياسة إذن، وقد أصبحت نسبيا أكثر تحررا من ثقل “الإدارة”، وأكثر قربا من منطق “الإرادة”. حيث “الميكافيلي الصغير” (الموجود في الافتراض أو الواقع)، والذي يدبر من وراء ستار، خيوط اللعبة ورقعتها، حركات اللاعبين وسكناتهم، لم يعد قادرا على ضبط كل إيقاع العملية السياسية.

ذلك أن التقاليد السياسية المطمئنة لصلابة الشرعيات النازلة من “فوق”، أصبحت تتعايش مع نمط جديد من الشرعيات الصاعدة من “تحت”.

وبشكل تدريجي أصبحت الحياة السياسية تتحرك من دائرة التدبير التقديري المتوفرة على هوامش واسعة من الخيارات والبدائل، إلى دائرة الشكلانية المقيدة بالمساطر والنصوص والقانون، والملتزمة بحد أدنى من قواعد الشرعية.

السبب في ذلك، أن المساحة بين ما تريده الدولة وما يسمح به المجتمع، أصبحت أكثر حركية وديناميكية.

ما وقع يمكن تلخيصه في حقيقتين: الحقيقة الأولى أن 7 أكتوبر كانت عنوانا لكل هذه التحولات، والحقيقة الثانية أن المجتمع الذي صنع 7 أكتوبر لم يتبخر في الليلة الموالية.