وجهة نظر

ملحمة إطفاء حرائق الغابات، دروس تتجاوز اللحظة..

منذ يوم الخميس و أخبار حرائق الصيف التي تضرب غابات بأقاليم العرائش و وزان و تازة و تطوان و القصر الكبير، تحتل المشهد التواصلي و لا تزال تشغل الرأي العام الذي يعيش على أمل انتصار سواعد أبناء الوطن في ملحمة محاصرة النيران، بفضل ما تمت تعبئته من إمكانيات مادية و بشرية مغربية خالصة.

إلى حدود الساعة، لم تسجل خسائر في الأرواح، لكن الأضرار المادية كبيرة و قد تصل إلى تدمير أكثر من 2.500 هكتار من المساحات الغابوية، مع تسجيل ترحيل استباقي لسكان 20 دوارا كانوا مهددين بخطر محاصرة بيوتهم بالنيران المشتعلة. لكن، رغم قوة الحرائق و تباعد المساحات المعنية في الأقاليم المتضررة، تصلنا صور و فيديوهات تنقل أجواء من التعبئة المشبعة بروح مقاومة رائعة يبصم عليها أبناء الشعب، من سلطات عمومية مختصة (وقاية مدنية، قوات مسلحة ملكية، درك ملكي، قوات مساعدة، أطر المياه و الغابات، سلطة ترابية، صحة عمومية) و عموم المواطنين الذين تطوعوا للمساعدة في المجهودات المبذولة.

و تشهد الصور على سلوكات إنسانية يطبعها التضامن و التآزر، و تكرس قيما و دروسا تتجاوز اللحظة. و قد استوقفتني عدة صور تنبعث منها مشاعر قوية تدعو للاعتزاز ببلادنا، سواء منها صور عناصر الوقاية المدنية و هم في قلب ألسنة اللهب، أو صور الشباب و هم يتسلقون الأشجار لتمرير خراطيم الماء في اتجاه بؤر النار، أو صور طائرات “الكانادير” المتخصصة في إخماد النيران و هي تقوم بطلعات جوية محفوفة بالمخاطر، أو صور عائلات تفترش الأرض غير بعيد من مكان حريق ترك أطلال منازلهم الطينية في مداشر عمرها بعشرات السنين، أو صور حملات تضامنية انطلقت للتخفيف عن الأسر التي فقدت كل شيء كانت تملكه قبل الحرائق.

و كأني بهؤلاء الأبطال جميعا، يتمسكون بالبقاء في موقع المعركة ما لم تحط الحرب ضد النيران أوزارها، و كلهم صمود و صبر و تحدي ممزوج بتسليم المؤمنين بقدر الله الذي لا راد لقضائه. و أجزم أنها صور ستوثق للتاريخ، لحظات كبرياء مغربي أصيل يقول أبطاله “نحن أصحاب الأرض… و سنقاوم مهما صعبت الظروف …!”، بشكل يتجاوز في قيمه و دلالاته، اللحظة و المكان، ليبرز أصالة نساء و أطفال و رجال المغرب المتفاعلين مع واقع تتعقد معالمه الاجتماعية و الاقتصادية بفعل توالي الأزمات التي تضرب العالم منذ الجائحة الوبائية، و ما تلاها من تضخم و غلاء الأسعار و جفاف غير مسبوق.

ما من شك أن ما أبانت عنه السلطات العمومية، المدنية و العسكرية، من قدرة على تثمين الخبرات و العقول المغربية، و تعبئة رصيد الموارد و الإمكانيات الوطنية، في مواجهة نيران الحرائق، يشكل دروسا يستفاد منها. و أكيد أن المسارعة لدعم الأسر المتضررة من الحرائق، والتخفيف عن النساء و الأطفال الذين أرعبتهم النيران، و عن الرجال الذين فقدوا مساكنهم و أشجار زيتون و بهائم كانت هي المورد و المعيل، كفيل بأن يقوي ديناميكية مجتمعية إيجابية، تلطف جوا عاما يبدو إيقاعه ميالا نحو التوتر و القلق من أثر غلاء الأسعار.

لذلك، تبدو مسؤولية الفاعل الحكومي كبيرة في التقاط الإشارة و القرب من انتظارات المواطنين، و التواصل النوعي معهم، و التزام السرعة في التفاعل مع المشاكل الاجتماعية، و الاجتهاد لإبداع حلول تتجاوز المقاربات التقنوقراطية و المحاسباتية لمحاصرة غلاء أسعار المواد الطاقية و الغذائية، و معالجة مخلفات العجز الاجتماعي المتراكم منذ سنوات بفعل سياسات عمومية غير ناجعة، و بسبب رداءة التدبير الذي تورطت فيه نخب سياسية تحملت المسؤولية في مراحل سابقة.

بكل يقين، يلزمنا انتماءنا لوطننا، الجميل بقيم أهله و تميز طبيعته، و المجيد بتاريخه و ثوابته، أن نقف صفا واحدا لحماية حاضر بلادنا و مستقبلها، ضد الفردانية التي اكتسحت منظومة القيم الاجتماعية، و ضد اللامبالاة و الانتهازية، و ضد الرداءة في الفعل و القول و التدبير، خاصة أننا في مرحلة توجس من المستقبل، يحتاج فيها المجتمع المغربي إلى أصوات الحكمة القادرة على أن تعيد الهدوء للأنفس، و طمأنة الناس إلى أن آذان من انتخبوهم ليست صماء عن سماع معاناة الفئات الهشة، و لا عن التفاعل مع التعبيرات المجتمعية لفئات واسعة من الطبقة المتوسطة.

لذلك، الظرف هو لالتزام نهج اليقظة الواعية بخطورة المشاكل التي يحملها السياق التاريخي و الجيوسياسي، و عدم التهوين من قيمة أي فعل/قرار إيجابي يمكنه التنفيس عن ضيق الناس، حتى يبقى الأمل و تتعزز الثقة في المستقبل. و لنا في الحرائق دروس تؤكد أن فتيلة نار صغيرة تنطلق من شجرة على الهامش، يمكنها أن تتحول لهبا مشتعلا في كل أشجار الغابة، إذا لم يتم الانتباه لصوت النار قبل أن تنتشر ألسنتها بفعل رياح قد تأتي من كل اتجاه، ثم لا نستطيع التحكم في مساراتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *