وجهة نظر

الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان… قطعة أخرى تسقط من عقد الموضوعية والحياد

قبل 21 سنة، وبالضبط بتاريخ 08 يناير 2001 وجه صاحب الجلالة الملك محمد سادس رسالة سامية إلى المشاركين في المؤتمر الدولي الرابع والثلاثين للفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان الذي انعقد بالمغرب، مشيرا فيها إلى التحديات الناشئة التي تواجه الديمقراطية وحقوق الإنسان في العصر الراهن، وذكر من خلالها بالخطوات الشجاعة والمبادرات غير المسبوقة على مستوى المنطقة التي اتخذها المغرب في مجال حقوق الإنسان، وتعهد للمشاركين في هذا المؤتمر بتسوية ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وبإقرار ضمانات عدم تكرار هذه التجاوزات. وشكلت فيما بعد مضامين هذه الرسالة مرجعا لترافع الفعاليات الحقوقية المدنية للمطالبة بإحداث هيئة للعدالة الانتقالية، وهو ما تحقق بعد مضي ثلاث سنوات على المؤتمر.

احتضن المغرب فعاليات هذا المؤتمر وخص أشغاله برسالة ملكية سامية في سياق لم تكن فيه علاقة الفدرالية بالمغرب على وفاق تام، بل كانت هذه المنظمة تبدي تحفظات ومؤاخذات كثيرة على وضعية حقوق الإنسان بالمغرب آنذاك، ومع ذلك لم يكن هذا النقد الموجه لمسار حقوق الإنسان في المغرب مدعاة إلى وسم علاقة المغرب بالفدرالية بالتوتر وعدم التفاهم، بل كان المغرب ومن خلال الرسالة الملكية متفهما لأسلوب عمل الفدرالية، والأكثر من ذلك وصف منهجها وإن كان حادا أحيانا بالاحترافي والموضوعي والنزيه، ولا ادل على ذلك من أن أشغال المؤتمر الذي نظم بالمغرب أسفر ولأول مرة عن انتخاب رئيس لا يحمل الجنسية الفرنسية منذ تأسيس هذه المنظمة سنة 1922، وهو السنغالي صيديكي كابا رئيس المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان بدكار.

استحضرت هذه المعطيات التي تفصلنا عنها أزيد من عقدين من الزمن، فقط لفهم مفارقة تهم اضطراب المقاييس لدى هذه المنظمة. فمما لا شك فيه أن وضعية حقوق الإنسان في المغرب بمختلف مستوياتها وأصنافها عرفت تحسنا كبيرا من حيث القانون والممارسة مقارنة بحالها في بداية الألفية، هذا يعني ببساطة أن الموضوعية تقتضي أن يزداد التعاون والاعتراف بالجهود المبذولة كلما تحسنت وضعية حقوق الإنسان وليس كلما ساءت، اللهم إلا إذا أضحت تتحكم في سلوك الفدرالية اعتبارات أخرى غير تلك التي كانت عليه من موضوعية وحيادية واحترافية ونزاهة.

تفاعلا مع ما ورد في تقرير الفدرالية الصادر يوم الجمعة 29 يوليوز 2022 حول ما سمته بسوء المعاملة ضد المعتقل سليمان الريسوني، أتساءل متى كان تقييم وضعية حقوق الإنسان ينصب حالة بعينها كمؤشر وحيد للحكم على منظومة حقوقية مركبة بطبيعتها؟ وحتى إذا ما سايرنا هذه المنظمة في تركيزها المريب على هذه الحالة، ألا تقتضي الموضوعية استحضار مختلف الروايات المتعلقة بها، وخاصة موقف المؤسسات الرسمية من كل ما أثارته الفدرالية في وثيقتها؟ أوليس من الإنصاف الالتفات إلى تقارير ومذكرات مؤسسات وطنية ودولية راقبت كافة أطوار محاكمة سليمان الريسوني ابتدائيا واستئنافيا؟ اعتقد أن امتلاك النزر القليل من الموضوعية يفرض على كل منتصر لحقوق الإنسان استحضار مواقف كل الأطراف، وبعد ذلك لها كل الحق في ترجيح أيهما كان متماسكا وصادقا.

وفي تذكيرنا للمنظمة بقواعد العمل الحقوقي غير المسيس لا نلزمها ببذل مجهود زائد في البحث والتقصي، بل فقط الاكتفاء بالمعطيات الرسمية التي أبدتها المؤسسات الرسمية في تقاريرها وبلاغاتها منذ اعتقال المعني بالأمر، وهي كفيلة بتقويم هذا الانحراف غير المسبوق للمنظمة، ونخص بالذكر تقارير المجلس الوطني لحقوق الإنسان وبلاغات النيابة العامة والمديرية العامة للأمن الوطني وكذلك المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج… ناهيك عن تصريحات هيئة دفاع الضحية.

لا شك أن اصطفافا غير محسوب وتقديرا سيئا للوضع وانحيازا واضحا ضد حقائق الواقع من شأنها هدر رصيد قرن من عمل ومصداقية هذه المنظمة. أوليس خفة وتحاملا غير مبرر تصديق سردية لا يقبلها عقل ولا يبررها علم، وهي خوض شخص ما 122 يوما من الاضراب عن الطعام، ومع ذلك تابع أطوار محاكمته وترافع بكل قدراته العقلية والبدنية أمام الهيئة القضائية. هذا في الوقت الذي تؤكد فيه الدراسات العلمية أن قضاء أربعين يوما من الإضراب عن الطعام تعرض السلامة الصحية للفرد لخطر حقيقي ولموت محقق، فقد تتعرض بعض الانسجة الحيوية للتلف وتظهر تشققات عميقة على مستوى الجلد وتصاب الأعضاء الرئيسية في الجسم بالقصور، مما يؤدي إلى تلفها ويزداد بذلك احتمال الموت بعد مضي أربعين يوما، أما الخروج بعاهات مستدامة فهو في حكم المؤكد طبيا.

لا يمكن لهذا الخروج غير الموفق للفدرالية الذي لا تعززه الظرفية ولا تبرره مستجدات طارئة على مستوى ملف المعني بالأمر يمكن من خلالها ربط هذه الوثيقة بتاريخ إصدارها، حيث أن المعطيات المتضمنة فيها لا تبرر اختيار هذا التوقيت بالضبط لإصدارها، إلا إذا ما تم ربط هذه الوثيقة بتقارير أخرى صدرت عن منظمات غير حكومية أخرى في نفس التوقيت وحول قضايا مختلفة، وكأنه تبادل أدوار بين هذه المنظمات التي أفسدت مسارها لاضطلاعها بأدوار غير تلك التي أحدثت من أجلها. وهو ما يرجح فرضية وجود خطة منسقة بين هذه المنظمات لاستهداف بلدان بذاتها والتشويش على مسارها وخياراتها، لا لشيء إلا لكونها استعادت سيادة قرارها في تدبير علاقاتها الخارجية، متجاوزة بذلك المربع المرسوم لها من طرف القوى الاستعمارية السابقة، كما تمكنت هذه البلدان من الحفاظ على استقرارها وسلامة أراضيها ودحر الاطماع التفكيكية والانفصالية لعملاء الداخل والخارج في سياق إقليمي أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه مضطرب.

كما لا يليق بمنظمة تجر ورائها تاريخا تليدا لقرن من الدفاع عن حقوق الإنسان أن يظل هاجسها ترصد أخطاء هذا وذاك، دون التنويه والإشادة بقرارات شجاعة لا تقدم عليها إلا دول امتلكت إرادة صريحة واتخذت خيارات لا رجعة فيها في مجال حقوق الإنسان، ويتعلق الأمر أساسا بإيداع المغرب مثلا لوثائق المصادقة على البروتوكول الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والبروتوكول الملحق باتفاقية سيداو في أبريل 2022، واللذان يتعلقان بمنح الأفراد الحق في اللجوء إلى آليات الأمم المتحدة من خلال رفع التظلمات والشكايات ضد المغرب إذا ما تعرض هذا الفرد لانتهاك حق من الحقوق المتضمنة في هذه الاتفاقيات الدولية. مما يعني ببساطة أن سليمان الريسوني وغيره بإمكانهم مقاضاة المغرب دوليا بعد استنفاذ سبل الانتصاف على المستوى الوطني.

ألا تستحق هذه الخطوة إشادة من طرف هذه المنظمات أو على الأقل ذكرها في ثنايا وثائقهم غير المنصفة، ولو من باب “نعم ولكن”.

إن تعزيز الممارسة الاتفاقية للمغرب في مجال حقوق الإنسان من خلال فتح المجال للانتصاف على المستوى الدولي لا يمكن فهمه إلا بربطه بالتراكمات الإيجابية التي أقدم عليها المغرب منذ ثلاثة عقود ، ولا يمكن إدراكه إلا بربط هذه الخطوة بتعهد صاحب الجلالة للمؤتمرين من الفدرالية في الرسالة السامية المذكورة التي أورد فيها “أن إيماننا بدور المجتمع المدني وبدوركم (يقصد الفدرالية) كفاعلين في هذا المجال هو الذي جعل مملكتنا تساهم بدور فعال في احتضان وتبني إحداث اليات دولية لحماية المدافعين عن حقوق الانسان (يقصد الإعلان العالمي للمدافعين عن حقوق الإنسان المعتمد سنة 1998 بمبادرة مغربية). وإذ نقوم بذلك فإننا ندري التحديات التي تواجه العمل التطوعي خاصة في حقول تتنازعها الصراعات والحساسيات”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *