مجتمع

الدقة المراكشية.. فن روداني رزين طوره المراكشيون ومسه سرطان التفاهة والإشهار (فيديو)

“الدقة صبحات مراكش يتيمة فيها، وكل مكان في مراكش مخير راه تشوه”، هكذا تأسف المعلم الحاج عبد الله إيوي، أحد أقدم مقدمي الدقة المراكشية العريقة، على حال تراث الدقة الفني الذي أضحى اليوم، سلعة المهرجانات والتظاهرات الفنية الرائجة، وبضاعة للساعين وراء ربح نقرات النت وحملات الإشهار.

الدقة، أو الكور، أو العيط، كلها صفات تصبو في فن الدقة المراكشية العتيق، بتعابير كلامية وازنة وعميقة، قوامها مدح كبار شخصيات الدين والعلم والمقاومة، الذين شهد لهم تاريخ مراكش العريق بالنضال والأبهة والورع والزهد، وليس “سفيه الكلام” الذي تردده مجموعة من الفرق التي عانقتها موجات التفاهة لتحقيق أرباح “الأدسنس”.

من تارودانت إلى مراكش 

ساهمت المعاملات التجارية أساسا في نقل هذا الموروث الغنائي من تارودانت إلى مراكش، زمن الدولة السعدية، وأدخل عليها المراكشيون تحسينات على مستوى الآلات الموسيقية والمضمون، إذ كان “عيط” الرودانيين وفق حديث المعلم إيوي، يدور حول مدح شيخ الزاوية الرودانية، مولاي بوعمر.

وقد أخذ أهل مراكش الكلِم والوزن الغنائي، وزادو عليه مدح الصالحين والعلماء الذين اشتهرت بهم مدينتهم عبر تاريخها، كما أضافوا عليه على المستوى الموسيقي آلة “القراقش” الكَناونية.

يقول الحاج إيوي، في لقاء مصور مع جريدة “العمق”، “إن مراكش مدينة الصلحاء والأولياء، فمع كل خطوة بعد بابها الكبير، تجد قبور الصالحين وعلماء المدينة، بل لكل حومة في المدينة القديمة ضريح ولي من أولياء الله الصالحين”.

وفي هذا، نظم أهل مراكش هذه البيوت، للدلالة على كثرة الصلحاء وأولياء الله:

اللي خفاه الصَّلاح يجي لبلادنا 

يقصد ناس مدينة الحضر 

مراكش بلاد لقطاب والتنوير

يزور ناسها ويتزه فقبوب سلطنا

ويسلم لرجالها سبعة

ويعد ترابها قدم بفقير..

لكُل حُومة عِيطُها..

وصل اجتهاد المراكشيون في فن “العيط” حد تميز واختلاف نُظم الأبيات الشعرية وطريقة لعب الكور بين “أحوام” المدينة، فأضحت كل حومة تلعب بطريقتها الخاصة مع احترام أصول الدقة، ولهذا نسمع كور حمر، وكور باب دكالة، وكور الزاوية.. وغيرهم.

يتابع المعلم عبد الله إيوي، حديثه، ويكشف مقدم الفرقة شخصية فريدة، وذو نباهة مجتمعية عالية، متمكن مع حومته ويعرف خباياها، وعند كل أمسية غنائية، يتأهب لضمان سير أطوار السهرة بشكل سلس لتجاوز حدوث أي مشاكل، وله صلاحية اختيار من سيلعب الدقة من غيره.

فبالقدر الذي يسهر مقدم الفرقة على احترام “المازن” بأذنه الموسيقية الساحرة التي تتحكم في أزيد من أربعين شخصا، تجده أيضا مجندا أيضا لضمان راحة الحاضرين من المشوشين، وفي حالة ما أراد دخيل ما أن يخرق الأعراف، يتم تكبيله حتى الصباح في أحسن الأحوال، وإلا فإنه يعرض نفسه للضرب المبرح بعد تحذيره.

هنا يقول نظم العيط: 

شوف الدقة بصوتها مع الليل ** غابو ناسها ماحضرو شي ليها

واللي فزعي وما يعرف يدوي ** لله واش جابو لينا لهنايا

 فراق الفْراجة..

يتحسر المعلم إيوي، في ذات اللقاء، للحال الذي وصلت إليه الدقة اليوم، فإلى زمن قريب كانت تنظم في الهواء الطلق (السويقة)، إلا أنها اليوم، أصبحت تشكل تهديدا كبيرا على مزاوليها والحاضرين معاً، وتحتاج إلى تواجد السلطات الأمنية والمحلية للسهر على تأمين الفضاء الذي تنظم فيه، بعدما كانت تقام بشكل عفوي.

لهذا، يسترسل المعلم إيوي، أصبح روادها والراغبين في الانتشاء بميزانها يستأجرون فضاءات خاصة من أجل إحياء هذا الفن الذي طاله النسيان والتهميش، وزاده الترامي عليه من طرف دخلاء، هدفهم الفرجة والمال أكثر من أي شيء. 

نبكي والنوح على فراق الفراجة ** وهذا مكتاب الباري تعالى

سيدي ربي نرجاك يالعالي ** ازيان حالنا وترخص فيه كل مسالة

الدقة وعاشوراء..

في أيام مضت، لا تشبه أبدا أيامنا هذه، كان المراكشيون يخرجون أفواجا لحضور طرح الدقة أو العيط، شيوخا وكبارا وأطفال، ومن مختلف الأجناس، خاصة أيام عاشوراء، يقول الحاج عبد الله، أن عروض الدقة أيام عاشوراء كانت تمر في احترام تام، ففي كل حومة ودرب بالمدينة القديمة تخرج النساء والأطفال الصغار  للعب في “السويقة” باحترام للتقاليد والأعراف، ثم يدخلون  بيوتهم مع منتصف الليل، ليستمر الراشدون من الذكور في السهر حتى آذان الفجر.

كما تتزاوج ليالي عاشوراء، وفق كلام الحاج عبد الله، كل الفنون الشعبية الموروثة، فيضرب الصحراويون الذين يشتغلون في الحمامات على آلة “أقلال”، ويخرج الأمازيغ لغناء أحواش بآلاتهم الخاصة، كما تجد مجموعات “كناوة” يغنون ويرقصون. كل هذه الفرق تؤدي وصلتها الغنائية (طرح)، خاص بها وسط تشجيع واحترام لهم حتى الآخر، وسط تناغم ثقافي أخاذ.

العيط والنزاهة

بعد الانتهاء من عرف زيارة القبور يوم عاشوراء، يستريح رواد الدقة المراكشية ليلتين أو ثلاث، ليقوم في اليوم الموالي بتنظيم ما يعرف عند المراكشيين بـ”النزاهة”، ويتم جمع مساهمات من الساكنة بالتوازي مع تبريكات عاشوراء.

فبعد أن يجمع الأطفال والشباب “فلوس النزاهة”، يضعونها عند مقدم الفرقة، ويتم اقتناء ذبيحة، غالبا ما تكون كبشا، وغيرها من المقتنيات التي تحتاجها “النزاهة” التي قد تستمر لأيام وأيام، حسب المبلغ الذي تم جمعه.

وتكون فئة الطلبة والفقهاء الذين يدرسون الأطفال، أول المعروضين للنزاهة في يومها الأول، وفي اليوم الثاني يحضر الشباب والأطفال الصغار رفقة فرقة الدقة، ويتم إكرامهم جميعا دون استثناء.

يعلق المعلم إيوي، على هذا، ويقول: “هذا العرف لم يبقى منه شيء في يومنا هذا، فلم يعد أمامنا أي مكان صالح للنزاهة والاستجمام، لقد حرمنا من كل الفضاءات الخضراء التي كنا نرتادها، بسبب انتشار العمران، وإذا أردت مناظر طبيعة فما عليك إلا طلب ضيعة أحد أو الخروج عن مراكش بأزيد من 40 كلمتر”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *