منتدى العمق

الانتخابات الرئاسية الأمريكية بين الواقع والتوقع

كان الحدث الدولي الأبرز الذي فاجأ الجميع، هو إعلان وصول المرشح الجهوري المثير للجدل، “دونالد ترامب” إلى سدة الحكم، رغم أن كل استطلاعات الرأي وتوقعات المحللين، كانت ترجح فوز المرشحة الديمقراطية “هيلاري كلينتون”. وقد شكل هذا الخبر صدمة كبيرة داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، وأثار ردود فعل غاضبة وأخرى حزينة ومتخوفة، من أبرزها خروج متظاهرين أمريكيين للاحتجاج على وصول “ترامب” إلى البيت الأبيض، ورفضهم أن يكون رئيسهم الجديد.أما على المستوى الخارجي، فقد شكل فوز ترامب مفاجئة غير سارة لكثير من قادة وزعماء الدول الغربية والعربية والإسلامية، الذين كانوا يأملون في فوز كلنتون بالرئاسة، لعلاقاتها الودية معهم.

في المقابل، هللت الأحزاب اليمينية والمتشددة بالنتائج، خاصة اليمين في أوربا، وداخل الكيان الصهيوني،وقد اضطرت إدارة الحملة الانتخابية لـ “ترامب” لمطالبة القادة الصهاينة بالكف عن إظهار الفرحة بفوز مرشحهم، الذي سبق أن وعد في حملته الانتخابية أنه سينقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس المحتلة.. وكان أيضا بعض قادة الدول من المرحبين، من بينهم الرئيس الروسي وقائد الانقلاب في مصر.

لكن، السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه في هذا الباب هو: لماذا فاز ترامب رغم أنه كان المرشح الأقل حظا، وخسرت كلينتون التي كانت كل التوقعات والاستطلاعات تؤكد تقدمها؟

ربما لأول مرة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تكون النتائج مفاجئة ومخيبة لآمال الرأي العام الدولي،بعدما كانت توقعات وسائل الإعلام والصحافة واستطلاعات الرأي، تصب في صالح المرشحة الديمقراطية، وقد عكست الصحافة والإعلام الأمريكيين، خيبة الأمل التي أصيب بها كثير من الأمريكيين، من خلال ما تداولته أشهر المحطات التلفزية والصحف،من تحليلات ومقالات تناولت هذا الحدث الاستثنائي، بقدر من التشاؤم والقلق على مستقبل أمريكا والعالم، في ظل حكم شخص اشتهر بانغلاقه وتشدده.

على قناة [ س.إن.إن.] الأمريكية الشهيرة، استضاف برنامج حواري خاص بنتائج الانتخابات الرئاسية، خبيرة في السياسة الأمريكية، اعترفت صراحة بتوقعاتها الخاطئة وبخيبة أملها قائلة: ” إننا كنا خارج التغطية تماما، كل تحليلاتنا كانت منفصلة تماما عما يقع في الشارع”، فرد عليها المذيع: ” صحيح حتى نحن في الحقل الإعلامي، كنا منفصلين تماما عن الواقع”.

من جهتها، عبرت الصحف الأمريكية العريقة مثل “واشنطن بوسط” و”نيويورك تايمز” عن حالة التوجس والصدمة التي أصابت الرأي العام الأمريكي بعد إعلان نتائج الرئاسيات، وهكذا عنونت “واشنطن بوست” افتتاحيتها ب: “انتخاب ترامب رئيسا يهدد حقوق الإنسان في العالم”، واعتبرت أن السياسة الخارجية للرئيس الجديد، إذا جاءت وفق ما عبر عنه في حملته الانتخابية، أي التخلي عن سياسة الضغط على الأنظمة الاستبدادية، لاحترام حقوق الإنسان والحريات، فستكون لها عواقب وخيمة.

على نفس المنوال كتبت صحيفة “نيويورك تايمز” في افتتاحياتها: “علينا أن نُصرّ على الأمل، حتى وإن كان كل شيء يبعث على اليأس.. إنه لوضع مؤلم وغريب، هذا الذي يجد فيه كل مواذن نفسه، وضع يفرض عليك التعامل مع حقيقة أنه صار لديك رئيس متهور وغير كفء.. لكن لا يجب أن نستسلم للخوف والهلع..”.

وقد امتدت خيبة الأمل هاته، إلى أوساط المال والأعمال، التي كانت تراهن على وصول هيلاري كلنتون للرئاسة، لأنها وعدت بفتح المجال أمام الشركات الأمريكية للاستثمار في الخارج، في مقابل توعد ترامب بفرضه تعرفة جمركية مرتفعة إذا نقلت استثماراتها للخارج. وإذا كان ترامب لا يحظى بتأييد كبير داخل الولايات المتحدة، وخاصة وسط النخب المثقفة والسياسية والإعلامية والمالية، فكيف تمكن من الفوز؟

هناك مِن المراقبين مَن أرجع فوز ترامب إلى مرونة النظام السياسي الأمريكي، الذي يسمح بالتنافس السياسي على منصب الرئيس، بدون قيود صارمة.. في حين اعتبر البعض الآخر أن هناك عدة أسباب لبروز نجم ترامب، منها صعود السياسي المهني، حيث يمر النظام السياسي الأمريكي بدورات من التغيرات والأزمات، في معظم الأوقات تحدث هذه التغيرات تدريجيا، لكنها في بعض الأحيان تكون ثورية، وظاهرة ترامب تدخل في الدورات الثورية في التاريخ السياسي الأمريكي.. بحسب هذا الرأي.

وهناك من رد هذه النتائج المفاجئة، إلى الاستياء العام من “الطبقة المحترفة الحاكمة”، بفعل ابتعاد النخبة السياسية عن المشاكل اليومية للمواطن الأمريكي البسيط، وعندما يشعر المواطن بأن السياسيين لا يمثلون مصالحه، يتجه إلى اختيار من هو خارج النخبة السياسية التقليدية، وقد حدث ذلك تاريخيا عند انتخاب أيزنهاور الجنرال العسكري.

في حين اعتبر بعض المحللين أن فوز ترامب ناتج عن خطابه العنيف في مواجهة خصومه، وهو ما يعبر عن حاجة المجتمع الأمريكي إلى “زعيم” تتجسد فيه “القوة” من جهة، ومن جهة ثانية، فإن النتائج لها علاقة بالدينامية الديموغرافية التي تعرفها دوائر صناعة القرار في أمريكا.

ومهما اختلفت وتعددت الآراء والقراءات حول نتائج الانتخابات الأمريكية، فإنها تتكامل فيما بينها، كما أنها تكشف تعقيدات الحياة السياسية الأمريكية، وفي تقديرنا فإن الفوز المفاجئ للمرشح الجمهوري المثير للجدل، يعود بالدرجة الأولى إلى المزاج العام المتقلب للناخب الأمريكي، الذي يتكيف مع طبيعة التحولات الداخلية والتحديات الخارجية.

والواقع أن الدعاية الإعلامية المضللة والمتحيزة للمرشحة الديمقراطية كلينتون، واستطلاعات الرأي غير الموضوعية، إضافة إلى الدعم والتأييد الكبير معها داخل وخارج الولايات المتحدة، كانت وراء حجب الحقائق على الأرض، وأن النظام السياسي الأمريكي، القائم على القطبية الحزبية، يعرف دورات متعاقبة للحكم، وتداول على السلطة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وما دام الحزب الديمقراطي قد تولى الرئاسة لولايتين متتاليتين، ممثلا في الرئيس باراك أوباما، فإنه كان من المنتظر جدا أن يختار الناخب الأمريكي، المرشح الجمهوري، حتى وإن كان شخصية متعصبة وغريبة الأطوار، لأنه يبحث عن التغيير في السياسة الأمريكية، من أجل خدمة المصلحة العامة، وقد استطاعت إدارة حملة ترامب الانتخابية أن تلعب على وتر انكفاء المواطن الأمريكي على نفسه، ورغبته في التركيز على شؤونه الداخلية، والابتعاد عن التدخلات الخارجية.

وبناء على ما تقدم، يمكن القول إلى تصدر ترامب للنتائج الرئاسية الأمريكية، له عدة دلالات، فهو من جهة، هزم مرشحة الحزب الديمقراطي، ومن جهة أخرى أصاب مصداقية المؤسسات والمراكز البحثية التي قامت باستطلاعات الرأي بعيدة عن الواقع، وكشف زيف كثير من التحليلات والتوقعات التي تتداولها الصحافة والإعلام الأمريكيين.