منوعات

علماء نفس: خطابات التنمية الذاتية التحفيزية تسبب الإدمان وتنشر الإحباط وعدم الرضا

هناك من يفاجأ بتوجيه أي انتقاد لخطابات وبرامج التنمية الذاتية والتنمية البشرية التحفيزية، ذلك أننا نعيش على وقع صيحة تمكنت من فرض نفسها خلال العقود الأخيرة، وأن تسجل مختلف المضامين المتعلقة بها حضورها الملفت على الأنترنيت، وأن تستقطب اهتمام قاعدة عريضة من طالبي سندها.

وانتشرت خطابات هذا “الفن” الذي لا يرضى رواده بوصفه بأقل من كونه علما قائما، وذلك عبر المحاضرات، والدورات التدريبية، والتأليف، والمقالات التحفيزية، وحملات الإشهار للبرامج والتداريب، إضافة إلى شخصيات تحولت في فضاءات هذا “الفن” إلى زعامات حقيقية، تمارس ليس فقط التوجيه والنصح والإرشاد والتدريب، بل أيضا العلاج النفسي حتى من الاكتئاب.

هذه الظاهرة لفتت انتباه الخبراء وخاصة علماء النفس، وانتبهوا إلى مضاعفات خطاب التنمية الذاتية التحفيزية على الأشخاص، لينتهي الأمر ببعض علماء النفس باتهامها بالتسبب في الشعور المستمر بالإحباط لدى البعض بدلا من تحفيزهم، ويسوق المنظّرون لهذا الاعتقاد أسبابا نفسية لذلك.

وبالإضافة إلى الأسباب النفسية التي سنأتي على ذكرها، حسب الجزيرة نت، هناك عامل اقتصادي في علاقته بشبهة الاستثمار في استدامة الإحباط، ما يدفع فئة معينة من الناس إلى الحرص على استمرار استهلاك للخطابات التحفيزية والتنمية الذاتية. ذلك أن هذه الصناعة تحقق لأصحابها مليارات الدولارات سنويا.

ما سبق، حسب نفس المصدر، يثير تساؤلا غير مجاب عنه بوضوح: هل تعتاش بعض خطابات التنمية الذاتية على إشعار الجمهور بالتحفيز مع قليل من الإحباط لضمان استمراره في استهلاك المحتوى وكسب أمواله؟

صناعة تحقق أرباحا بالمليارات

وفقا لأبحاث سوق التنمية الذاتية، فإن أرباح هذا السوق بلغت 9.9 مليارات دولار في عام 2016، ونمت إلى 11 مليار دولار في 2020، ومن المتوقع أن تنمو السوق العالمية إلى 13.2 مليار دولار خلال العام الحالي.

ووفق الأرقام التي نشرتها مواقع مهتمة بهذه الصناعة مثل “بيزنس واير” (Business Wire)، و”ماركت ريسرش” (Market Research)؛ فقد تصدر جيل الألفية جمهور المستهلكين أصحاب الفضل في نمو هذه الصناعة، وقد أبلغ 94% من جمهور هذا السوق من جيل الألفية عن استعدادهم لإنفاق ما يقرب من 300 دولار شهريا على تحسين الذات، بمختلف خدمات ومنتجات هذا السوق، من الاستماع إلى خطابات المتحدثين التحفيزيين، أو الالتحاق بالدورات التدريبية عبر الإنترنت، وبرامج التدريب، والندوات، والكتب الإلكترونية، والتطبيقات، وخدمات التدريب الشخصي وغيرها من الخدمات.

وتشير هذه الأرقام إلى أن المتحدثين الأميركيين، الذين يزيد عددهم على 5 آلاف، يجنون أكثر من 1.6 مليار دولار سنويا، و296 مليون دولار يحصل عليها 17 فقط من هؤلاء المتحدثين. أما بالنسبة لسوق التدريب الشخصي، فقد بلغت أرباح هذا السوق في الولايات المتحدة 1.29 مليار دولار في عام 2019. ونما سوق الكتب الصوتية عن تحسين الذات بزيادة قُدرت بـ20% في عام 2021 ليصل إلى 541 مليون دولار.

الإحباط من السعي وراء تحسين الذات

جزء رئيسي من الهدف وراء خطابات التنمية الذاتية هو تحفيز الشخص على تحسين ذاته ونمط حياته وزيادة إنتاجيته من خلال تنظيم وقته، وبذل المزيد من الجهد، والسعي وراء الأفضل، وغيرها من النصائح المرتبطة بثقافة الإنتاجية.

لكن هل يسبب هذا السعي إلى أمر من المفترض أنه إيجابي؛ الكثيرَ من المشاعر السلبية؟

هنا يشير كال نيوبورت، الأستاذ بجامعة “جورج تاون” والكاتب في صحيفة “ذا نيويوركر” (The New Yorker)  إلى تجارب أشخاص نمت لديهم مشاعر سلبية مثل التوتر، والانشغال أكثر، والشعور المتزايد بالإحباط والذنب إذا لم تحقق هذه الإنتاجية.

وربط نيوبورت مصطلحات مستخدمة في التنمية الذاتية مثل “زيادة الإنتاجية” بسياقات اقتصادية ونشأة الرأسمالية، مشيرا إلى مصطلح “منتج” لعالم الاقتصاد الأسكتلندي آدم سميث في كتابه “ثورة الأمم” عند وصفه للعمالة التي أضافت قيمة للموارد، بمعنى أن النجّار الذي يحول كومة من الألواح الخشبية إلى خزانة هو “منتج”، لأن الخزانة تساوي أكثر من تكلفة الألواح الأصلية، لذلك يرتبط هذا المصطلح بشكل أساسي بالاقتصاد، لكنه اعتبر الإنسان جزءا من الأدوات التي تحقق إنتاجا.

ورغم ذلك، كانت الإنتاجية في العقود الماضية تركز أكثر على الأدوات والمدخلات وتحسين الأنظمة، لكنها بدأت تأخذ منحى آخرا في التاريخ الاقتصادي الحديث حينما ركزت على الأشخاص.

لا تكمن المشكلة في الإنتاجية التي تركز على الأشخاص بحد ذاتها، بل في الطريقة التي تحقق هذه الإنتاجية، إذ قد تكون سامة حينما تؤثر سلبا على الشخص “المنتج” وتركز فقط على تحقيق زيادة أكبر من الإنتاج بغض النظر عن تأثير ذلك على هذا الفرد الذي يعمل لساعات إضافية لتحسين الإنتاجية وزيادتها، بدلا من قضاء وقت أطول مع العائلة أو أخذ وقت لممارسة الرياضة أو الراحة، ما يجعلها تشكل عبئا وليس إنجازا.

وتغفل الإنتاجية التي تركز على الأشخاص جانبا مهما، وهو حاجتهم إلى الوقت للراحة وإعادة الشحن والاستجمام، لأنه دون هذه الأشياء يصبح الشخص أقل إنتاجا، وقد يحبطه هذا الشعور في ظل سعي أكبر لإنتاجية لا يستطيع تحقيقها مع حاجته لهذه الراحة، كما يسبب شعورا دائما بالضغط والملاحقة من مهام غير منجزة، وتصبح حينها “إنتاجية سامة”.

إدمان “تحسين الذات

الرغبة في تحسين الذات ليست أمرا سيئا، لأننا مصممون على التطور والتعلم منذ طفولتنا حتى كهولتنا، لكن ماذا إن حاولنا التطوير من أنفسنا في مجال ما ولم ننجح، قد يصيبنا ذلك بالإحباط رغم أن بعض طرق التطوير وتحسين الذات تحتاج فترات زمنية أطول مما نمنح أنفسنا، والملام هنا خطابات التنمية الذاتية التي تنادي بتطوير ذاتنا في مدة زمنية معينة ووضع خطة وجدول زمني لذلك، وتقدم نصائح بطريقة استهلاك أوقات فراغنا.

وأشار تقرير موقع “فيري ويل مايند” (Very Well Mind) المهتم بمواضيع الصحة النفسية والجسدية إلى نقطة أخرى تتعلق بـ”إدمان التنمية الذاتية” والشعور بعدم الرضا من الوضع الحالي بشكل مستمر، ما يعني تركيز الجهود لتحسين أفكارنا وسلوكياتنا وحياتنا بشكل مستمر، وهو أمر مرهق لأنه يشعر الشخص على الدوام بـ “عدم الكفاية”، عدم كفايتنا نحن أو كفاية ما حققناه، فنركض وراء تحقيق المزيد في دائرة غير منتهية من “تحسين الذات”.

وتحدث خبير الصحة العقلية الدكتور غريغوري غانتز عن علامات هذا الإدمان مثل السعي وراء تحقيق هدف ما بشكل يجعله أولوية على باقي الأشياء في حياة الشخص، أو الشعور بالقلق وأن الأمور تخرج عن سيطرته إذا لم يصل لنقطة أو هدف معين.

خيبة الأمل والاندفاعية

ماذا يحدث عندما يخبرك شخص ما باستمرار بكل الطرق التي تحتاجها للتحسين ولا تجدي نفعا معك وتحقق بها النتيجة المستهدفة؟ يمكن أن يقودنا إلى الشعور بالخجل من أنفسنا، وأننا “مخيبون للآمال”. كما أن السعي وراء المزيد والمزيد من تحسين الذات قد يدفعنا إلى اتخاذ قرارات مندفعة فقط لتحقيق هذا الهدف، مثل المشاركة في برامج تدريب معينة أو تحميل تطبيقات ما للوصول لهذا التحسين المنتظر، دون النظر بدقة وتأنٍ في مدى جدواه لنا، ففي النهاية نحن أشخاص مختلفون ولكل منّا طريقته في التعامل مع الأشياء.

“الأنانية”

تحسين الذات بطبيعة الحال يتعلق بالذات، وإذا كانت المساعدة الذاتية عبارة عن حلقة لا نهائية من التحسينات الذاتية والنمو الشخصي فقط، فقد يؤثر ذلك على الأدوار الاجتماعية الأخرى، كوننا جزءا من المجتمع ولنا أدوار أخرى نؤديها لا تركز علينا فقط. لذلك ينصح موقع “6 سكندس” (Six Seconds) المصمم لبرنامج يدعم الذكاء العاطفي، بضرورة النظر إلى الآخرين ورؤيتهم في خضم هذا الكفاح اليومي للتحسين الذاتي، وذلك عبر العمل من أجل تحسين حياة الآخرين حولنا، خصوصا إذا كانوا ضمن دائرة المسؤولية الاجتماعية كالأبناء والأسرة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *