وجهة نظر

العنف الناعم

كثيرة هي الندوات الفكرية والملتقيات الدراسية والأيام والحملات التحسيسية والدعائية التي عقدت وتناولت ظاهرة العنف ضد المرأة عموما أو ضد الزوجات خصوصا، بحيث نال هذا الأخير نصيبه من الاهتمام والدراسة والبحث من قبل مختف المهتمين من مختلف الحقول المعرفية، خاصة في علم الاجتماع، علم النفس، والقانون… بل وتعبأت له كذلك مختلف الهيئات السياسية والجمعوية والإعلامية والحقوقية، النسائية منها أو المختلطة، مستثمرة تارة السياق الدولي أو موظفة تارة أخرى لوقائع وأحداث عنف أسرية في السياقات المحلية، الأمر الذي أثمر بعد سنوات من النضال والترافع المتواصل، في مختلف هذه السياقات، صدور القانون الشهير ب 13/103 الموسوم بقانون مناهضة العنف ضد النساء. والذي حمل في مادته الأولى تعريفا يسعى الى الاحاطة بكل الأفعال التي من شأنها أن تفسر أو توصف بأنها شكل من أشكال العنف ووجه من وجوهه…

فجاء منطوقها كالآتي:” كل فعل مادي أو معنوي أو امتناع، أساسه التمييز بسبب الجنس، ويترتب عليه ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي للمرأة”

من خلال قراءة سريعة لمفاهيم ومضمون هذه المادة،نخلص إلى أن المشرع ميز بين مستويين، مستوى الفعل والامتناع من جهة، ومن جهة ثانية بين المستوى المادي الملموس الذي يأخذ شكل سلوك مادي، وبين المستوى المعنوي والرمزي. وكل هذه المستويات معلقة بالنص الصريح على حصول الضرر ووقوعه، والذي قد يتنوع بدوره بين الجسدي، النفسي أو الجنسي والاقتصادي للمرأة، هذا الضرر الذي يستلزم الجزاء كما يقتضي الجبر في فلسفة ومبادئ القانون، غير أن لفظ المرأة في نص هذه المادة لتفيد الجنس في عموميته من غير تمييز بين مركزها أو موقعها الاجتماعي(أم، زوجة، أخت… صديقة أو زميلة في العمل، أجيرة أم ربة عمل…) وهذا ما جعل هذا التعميم يسقط في التعويم، على اعتبار أن المركز الاجتماعي للمرأة يتضمن من خلال السياقات المختلفة تفسيرا ما لحدوث أو حصول العنف، الذي تختلف أسبابه فقد يكون في شكل ردة فعل على عنف بيني متبادل، بوجهيه المادي أو الرمزي. أو نتيجة تراكمات نفسية واجتماعية واقتصادية يصعب معها تحديد السبب الحقيقي والمباشر لحدوث أو الحصول العنف.

إن هذا التعميم وعدم التمييز بين المراكز الاجتماعية أو الوظيفية للمرأة من جهة، وعدم التدقيق في شكل وطبيعة ونوعية العنف، جعلا هذا القانون أداة توظف من داخل لعبة الصراع الاجتماعي اليومي، الناتج عن الاحتكاك اليومي المباشر، سواء في البيت أو مقر العمل أو في الشارع العام وفي مختلف الفضاءات العموميةّ، ثم إن الناظر في مجمل فصول هذا القانون، سيستشف منه إصراره الظاهر على اعتبار العنف خاصية وسمة ملازمة للرجل، ولعلاقته بالمرأة عموما، مهما كان موقعها منه، أما كانت أم زوجة، أختا، عمة، خالة، زميلة وصديقة أو مشغلة أو ربة عمل… كما أن هذا التوجه قد يوحي ثانيا بكون عالم النساء خال بشكل تام من العنف بينهن، علما أن الواقع يدحض ذلك بقوة في مختلف المستويات الفكرية والاجتماعية للنساء، إذ لم يكن من قبيل الصدفة أن الموروث الشعبي خلف لنا قولا مأثورا ينص على أن العدو الأول للمرأة هو المرأة … وأبرز مثال على ذلك ظاهرة العنف ضد الخادمات، وظاهرة الصراع الأزلي بين الزوجة والحماة، أو الزوجة وشقيقات الزوج، أو الزوجة وضرتها…

لايختلف اثنان في كون العنف بشكل عام ليس خاصية ملازمة للرجل أو المرأة، بل ملازمة للطبيعة البيولوجية والنفسية أو العصبية أو الوراثية الجينية لبعض الأشخاص من كلا الجنسين، والذي يتخذ شكل انفعالات عفوية ومعزولة، أو على العكس من ذلك، قد يكون مقصودا وممنهجا، ضمن دائرة الصراع الصغيرة أو الكبيرة، الذي تحكمه الأنانيات الفردية والرغبات والمصالح المتعارضة ، أو تثيره الطباع والأمزجة المتنافرة ولو سلمنا جزافا بكون العنف المادي ملتصق بالرجل، فإن نظيره المعنوي والرمزي يشكل السلاح المفضل والأداة السهلة للمرأة سواء في الدفاع أو الهجوم.

إن هذا الاستنتاج الذي تسنده وتدعمه العديد من الوقائع والأحداث، يقودنا إلى القول بأنه لم يعد مسموحا اليوم الحديث فقط عن العنف ضد النساء، بل يجب أن يعاد النظر في مقاربة هذا الموضوع في شموليته بشكل جذري وكامل. فالعنف كظاهرة اجتماعية خطيرة، لم يعد كما يتم تصريفه في ما قبل في اتجاه واحد، أي من طرف الرجل ضد المرأة، بل أضحى الأمر في الاتجاهين معا، نتيجة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقيمية… التي اقتحمت البنية الاجتماعية عامة والأسرية المغربية من دون استعداد مناعي، تربوي أو ثقافي.

وينبغي التأكيد على أن العنف في شكله المادي أصبح متجاوزا في قوانين الصراع الاجتماعي بين الجنسين، بعد أن حل محله بقوة العنف المعنوي والرمزي، بكل تجلياتهما التي كثفتها التكنولوجيا الحديثة المتمثلة في وسائط التواصل الاجتماعي المفتوحة، وما حملته من تلاقح ثقافي وسلوكي سلبي، طبع مع العديد من الظواهر الغازية، كما عرى أخرى كامنة ورفعها للأضواء، فأضحى داخل الأسر السباب واللعان وتبادل الشتائم والإهانات وفحش الكلام واقعا، كما أضحى التسفيه وتبديد الأموال والممتلكات للإضرار بالمصالح أو دفع المنافع حقيقة لا تحتاج إلى استدلال. دون اغفال اللجوء إلى السحر والدجل والشعوذة باستعمالات متنوعة بما فيها المأكل والمشرب كسلاح الضعفاء الماكرين. هذه السلوكات التي لا نجد لها تجريما قانونيا رادعا في منظومتنا، والتي قد ترقى بعض أفعالها إلى مستوى جريمة التسميم المنصوص على عقوبتها في الفصل 398 من القانون الجنائي، وإلى نوع من القتل البطيء، يستوجب أشد العقوبات. لأن هذه الممارسات تحصل بشكل تلقائي وآلي، وبفعل التراكم والتظافر، مشكّلة مقدمات لحدوث العنف المادي الذي يرقى إلى مستوى الفعل الجرمي بتداعياته التي تتجاوز الضحية والمعتدي إلى محيطهما الأسري والاجتماعي.

وهكذا يتحول الصبر على تحمل العنف المعنوي أو الرمزي إلى رد فعل مادي عنيف ينقل صاحبه من موقع الضحية إلى موقع المعتدي المجرم. فتختفي في ثانية أو لحظة أو ساعة، شهور وسنوات من الصبر والتسامح والتجاوز… لأننا نحاكم فقط رأس جبل الجليد ولا نهتم بقاعدته التي تتكسر عليها كل قيم الحلم والأمل والعفو والتعقل، لأن الظاهمرة تستفحل أساسا في المجتمعات والأوساط التي يتدنى فيها منسوب العقلانية والوعي بالسياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعيشة، حيث يسود منطق القوة والهيمنة أو تحكّم الرغبة في الإخضاع والردع بدل منطق الشراكة والتكامل، فضلا عن الفهم القاصر أو السيء لقيم الحداثة والتحرر والمساواة. كل ذلك أنتج لنا واقعا مفتعلا جديدا تؤثثه العديد من المشاهد والوقائع اليومية، سواء في الشارع العام أو على بداخل الفضاءات الافتراضية أو حتى داخل المؤسسات الرسمية كالمحاكم وأقسام الشرطة والدرك. من خلال مشاهد لرجال معنّفين أو منكسرين يتقدمون بشكاوى أو دعاوى قضائية لإنصافهم وحمايتهم، أو يلتئمون في جمعيات لنفس الغرض. فرغم حجم الإكراه الاجتماعي التقليدي الذي يرزح تحت ثقله الضحايا، إلى جانب باقي الاعتبارات الأخلاقية والقيمية التي تمنعهم من الحديث علنا، لاسيما مع غياب إطار قانوني ينصفهم، كالقانون المتعلق بمناهضة العنف ضد النساء، إلى جانب ما تشكله صعوبات الإثبات من تثبيط للإرادات، لكونه يحصل داخل البيت، و لا يمكن للزوج أن يصرخ طلبا للنجدة من لدن الجيران أو الأهل أو حتى الدفاع عن نفسه خوفا من سطوة القانون الذي غالبا ما يلصق الإدانة بالرجل ولو كان هو الخاسر أو كانت المعركة متكافئة.

وعرفت الآونة الأخيرة بداية فعلية لتعالي أصوات الضحايا الرافضين لهذه الظاهرة، مما جعل جمعية كانت مهتمة في الأصل بمناهضة العنف ضد النساء، تتبنى وتدافع وتترافع عن قضايا العنف النسائي ضد الرجال أمام المحاكم. غير أننا كباحثين ومهتمين من مختلف التخصصات والمواقع ملزمون ببحث ودراسة هذه الظاهرة من مختلف الجوانب وبمنطق علمي وأكاديمي من جهة ومن جهة ثانية، الترافع من أجل تجريم مرتكبيها وتخويل الضحايا حماية خاصة من السقوط ضحية للقانون. فكيف يمكن أن نفسر لجوء زوجة تدعي التشبع بقيم الحداثة والتحرر والمساواة في تجلياتها المتطرفة أو المتعصبة في أحسن الأحوال، ولا تعترف لزوجها لا بالقوامة ولا بالوجود الاعتباري في بيت الزوجية ولا خارجه، بل أنها لا تمكّنه في بعض الأحيان لا تمكنه حتى من حقوقه القانونية والشرعية، تحت مبررات تخلف و رجعية هذه القوانين وتلك الشرائع، فعندما تستحيل المعاشرة وتنتفي سبل الاستقرار والاستمرار الأسري، وينفرط عمليا عقد الزواج، تلجأ المرأة “الحداثوية” إلى المحكمة وتحتمي بهذه القوانين والشرائع لتطالب بما تضمنه لها من حقوق النفقة والسكن والحضانة والمتعة … وهي التي اتخذت الزواج مطية شرعية للحصول على المال أوالأبناء، ألا يشكل هذا الأمر نوعا جديدا من العنف المادي/ المالي والاقتصادي ضد الرجل؟ ألا يوظف القانون والشريعة من أجل مآرب لا تخفى خلفياتها ومحركاتها؟ ألا يشكل هذا تعسفا في استعمال الحق يعاكس روح وفلسفة القانون؟

إن هذا الطرح تؤكده بشكل قوي مؤشرات وإحصائيات الجهات المختصة، وما نسب الطلاق العالية التي تفصح عنها تقارير السلطات سنويا إلا تلك الشجرة التي تختفي من ورائها غابة تعج بكل أنواع المكائد والصراع الخفي والظاهر. فرغم ارتفاع المبالغ التي تحكم بها المحاكم في قضايا الشقاق والنفقة خاصة، فإن أغلب الرجال يدفعونها على مضض للتخلص من أوجاع سوء المعاشرة والابتزاز الذي يلاحقهم حتى عن طريق الاستدانة، فيما تفضل فئة أخرى الخضوع لمسطرة الإكراه البدني تواليا للتخلص نهائيا من دعاوى النفقة وإهمال الأسرة التي تلاحقهم إلى ما لا نهاية… لذلك نختم بسؤال إشكالي عريض هو: هل استطاعت مدونة الأسرة تحقيق العدل والاستقرار والأمن الأسري؟ ال لنخلص الى أن أكبر حيف وقع على الرجال في مدونة الأحوال الشخصية هو حرمانهم من حق الطلاق للضرر أسوة بتمكين النساء منه.

*حسن بلحبيب- باحث بسلك الدكتوراه بكلية الحقوق السويسي بالرباط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *