وجهة نظر

21 سنة من خطاب أجدير .. بين ثورة “التقنين” وبطء “التقعيد”

من طبيعة الإنسان أن يتطلع كل مرة لما هو أفضل، لذلك فهو كلما راكم مكسبا ينسى وضعه الأول، ليتطلع إلى مكسب جديد كلما ناله ينسى حالته السابقة من جديد، فيتدمر كل مرة من وضعه الراهن ويتطلع لمراكمة مكاسب تلو المكاسب، و هي نزعة تتعلق بتطور الإنسان وحاجياته، وهي تساهم بالتأكيد في تقدم العالم الذي ليس سوى نتاجا لتراكمات الأفراد وتطور طموحاتهم في شكل جماعات.

إن كان مفيدا أن نحاول في كل مرة العودة إلى حالتنا الأولى لنقارنها مع واقعنا الراهن، مع أخذ التطورات التي حدثت بين الحالتين بعين الإعتبار، فذلك لا يجب بأي شكل من الأشكال، أن يفرمل إرادتنا وطموحنا في المضي قدما في تحقيق المزيد من التطلعات. إن هذه المقاربة مهمة في تقييم ما تحقق لقضية ما، في إطار عقلاني نسبي، دون غض الطرف عن الانتكاسات و العراقيل التي وجب معرفتها جيدا لتجاوزها وفتح آفاق أرحب وأعمق.

خطاب أجدير لسنة 2001 إذا قرأناه بتمعن وتجرد، فقد كان تاريخيا و ثوريا بكل المقاييس، كان تعبيرا عن إرادة ملكية واضحة للرقي بالحقوق اللغوية والثقافية بوطننا، وتجاوز التهميش الذي طال الأمازيغية لعقود. و كي نتأكد من صحة ما نزعمه، علينا أن نعود إلى ذلك الوقت بالضبط لنستقرأ مواقف الطبقة السياسية والنخب الثقافية و فئات عريضة من الشعب تجاه الأمازيغية آنذاك، مواقف كانت “متخلفة” بشكل كبير، لم تتخلص من رواسب عقيدة “الفكر الواحد” و “اللغة الواحدة” التي بصمت مرحلة تأثرت بشكل كبير برياح شرقية مغلفة “بالقومية” حينا و ب”إقحام الدين” في الإقصاء أحايين أخرى.

لقد تفاجأت الأغلبية بالفعل بمضامين خطاب أجدير، بل إن الحركة الأمازيغية نفسها بتياراتها الكثيرة لم تكن تنتظر تلك السرعة التي نقلت الأمازيغية من مرحلة إلى أخرى جديدة، لأنها كانت تعتقد أن الوصول إلى تلك النقطة يتطلب نضالا وترافعا يطول لزمن أوسع. نفس الشيء وقع في سنة 2011 حينما صارت الأمازيغية رسمية مثل العربية، و من يشك في ذلك فليعد إلى مضامين مذكرات الأحزاب السياسية حول اقتراحاتها المرتبطة بالتعديل الدستوري، ستتفاجؤون فعلا بذلك الجمود و النكوص الذي يطبع مواقفها تجاه هذه المسألة.

حتى لا نكون عدميين، فالأمازيغية راكمت مكاسب كبرى وغير مسبوقة خلال العهد الجديد، مكاسب واكبتها الكثير من العراقيل بسبب جيوب مقاومة بقيت صامدة في خنادقها الإيديولوجية، نخب لم تعِ بعد أن هذا التنوع الذي يثري هويتنا الجماعية “تمغربيت” يمكن جعله رافعة للتنمية و الوحدة الوطنية، بعيدا عن أي تعصب أو تمييز، وأن الأمازيغية كانت و ما تزال جوهرا للثقافة المغربية بالإضافة إلى المكون العربي-الإسلامي و اليهودي، و غير ذلك.

اليوم و قد صارت الأمازيغية لغة رسمية، فهي ما زالت تتخبط في مشاكل متعددة تفرمل إدماجها الكامل، بعيدا عن الخطاب الحزبي الشعبوي الذي يستخدم الأمازيغية مدعيا خدمتها، و بعيدا كذلك عن الأصوات الطوباوية التي تضرب كل شيء في الصفر. عوائق يمكن ذكر بعضها:

– البطء الذي واكب مجهود المؤسسات وعلى رأسها “الإيركام” في مجال “المعيرة” و تحقيق تراكم كبير في مجال الإنتقال السريع من الطابع الشفهي إلى المكتوب، و جعل وحدة اللغة الأمازيغية ملموسة في حياة الناس، مع أهمية الإنجازات التي لا يمكن نكرانها.

– مشاكل مرتبطة بالانتقال من “القوانين” الطموحة إلى “التقعيد” الذي بقي محتشما، و قصور في إرادة الإدماج لدى قطاعات و مسؤولين في مختلف المجالات، حيث لم يَسِر تعميم الأمازيغية بعد 21 سنة من خطاب أجدير، بالسرعة المأمولة في كل أسلاك التعليم في إطار مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع أطفال المغرب إسوة بالعربية، بالإضافة إلى بطء إدماجها في الإعلام الذي لم يتطور كثيرا منذ 2010، وضعية تطال قطاع العدل و غيرها من القطاعات.

– مشاكل مرتبطة بالعقليات، حيث تم التركيز على تطوير القوانين و الإدماج “البطيء”، دون الإهتمام اللازم بتوعية المواطنين الناطقين بالأمازيغية أو الدارجة أو الحسانية أو الفرنسية، بأهمية تملك الأمازيغية لغة وثقافة كملك للجميع بدون استثناء، و أنه لا يستقيم اختزال لغتا الهوية في المنطق البراغماتي المرتبط بالعولمة، أو ب”صناعة الصواريخ” و “الطائرات” و بأفضلية “اللغات الأكثر انتشارا”. تقدير خاطئ، لأن مسألة اللغات الوطنية تتجاوز ذلك كله، إنها مرتبطة بمعرفة “الذات” وتحصينها و تنمية حس الإنتماء و تقوية المناعة الوطنية، لأنها جزء أساسي من منظومة الهوية، و تعد الهوية الوطنية من المرتكزات التي تساعد على بناء مجتمع متماسك يتوحد جميع كل أفراده بغض النظر عن اختلافاتهم، من خلال قبول و تملك الجميع لثقافات ولغات الجميع، تحت منظومة مشتركة نسميها في أدبياتنا (مشروع حزب التجمع من أجل التغيير الديمقراطي) ب “تمغربيت”.

– جوانب مرتبطة بالفرنسية التي ظلت لغة للإدارة و القطاع الخاص و جزء مهم من منظومة التعليم و الإعلام، حيث أن النخب الفرنكوفونية ما زالت تنظر إلى الأمازيغية كما العربية بنظرة “التعالي”، في مقابل اعتقادها بسمو الفرنسية وثقافتها، وهناك دوما حتى داخل النخب التي تدافع عن اللغتين العربية والأمازيغية، من يحاول خلق النزاع بينهما لتظل الفرنسية سائدة في النهاية، بينما في الواقع لا يوجد أي تناقض بين صيانة اللغات الوطنية و الانفتاح على لغات العلم والمعرفة والتكنولوجيات الحديثة. مع الإشارة إلى ضرورة الإنتقال التدريجي من الفرنسية إلى الإنجليزية.

– تواري الحركة الأمازيغية وارتباكها بعد سنة 2011، بسبب عدم قدرتها على مواكبة التطورات التي حصلت بعد دسترة الأمازيغية، و هي مطالبة بتطوير مطالبها وآليات اشتغالها وأدبياتها حتى تواكب السياق الجديد و توسع آفاق عملها و استراتيجياتها للترافع لصالح الأمازيغية بمنطق التنوع المقوي والمعزز للوحدة الوطنية.

لا شك أن هناك مشاكل وعراقيل أخرى كثيرة تفرمل تسريع إدماج الأمازيغية فعليا، بين ما هو ذاتي و ما هو موضوعي، والمطلوب اليوم هو مراجعة المقاربات، و فتح نقاش عمومي للتحسيس والتوعية بكون الأمازيغية ركيزة أساسية للهوية الوطنية، و أنها لا تعني اللغة فقط بل تلك الثقافة التي تجمعنا مع شعوب شمال إفريقيا، و بإمكانها أن تبني لنا جسورا معها لصالح الوحدة و التنمية. كما أننا ننسى كثيرا أن الأمازيغية ترتبط بمسألة القيم، قيم “التشبث بالأرض” و الوطن، و التضامن (تيويزي) و التعايش والإنفتاح. كما أن تَمَلُّك تاريخنا العريق الممتد لعشرات القرون، يمكن تحويله إلى ثروة وطنية لا مادية في صالح التموقع بشكل أقوى إقليميا ودوليا، و في التقدم و بناء المواطن الوطني الفخور بوطنه المستعد للتضحية من أجله وإعلاء رايته بين الأمم. وهذه كلها أمور وجب أخذها بعين الإعتبار في مسألة الإدماج والتعميم.

إن إعادة الإعتبار للأمازيغية وجعلها في المستوى الذي تستحقه، لا يمكن اختزاله أبدا في القوانين و كتابة تيفيناغ على الجدران، بل إنها مسؤولية وطنية يجب أن نجعل كل المؤسسات وجميع المغاربة يقتنعون بأهميتها و ينخرطون جميعا في تملكها و تطويرها و الإقبال عليها، كجزء مهم من مجهود يروم تحصين الوطن عبر تطوير وترسيخ “منظومة تمغربيت” التي تجمع كل مكوناتنا اللغوية و روافدنا، كركائز تحمل صرح وطننا الواحد الموحد.

إن الأمازيغية ملك لكل المغاربة، وجعل كل المغاربة يتملكونها و يقبلون على تعلمها و ترسيخ قيمها، جنبا إلى جنب مع المكون العربي- الإسلامي و اليهودي، مع الإنفتاح على كل ما هو مفيد في الحضارات الكونية، ضرورة ملحة للسير قدما بثبات إلى الأمام في أفق بناء نهضة “تمغربيت” المأمولة. وإن ما تحقق إلى اليوم، و إن كان جيدا تقييمه بشكل موضوعي، فهو قابل لاستثماره والبناء عليه للمضي قدما بسرعة تأخذ بعين الإعتبار مسألة الفعالية والنجاعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *