مجتمع

المهاجرات الإفريقيات بالمغرب.. بين سندان الاندماج ومطرقة الاستعباد

سكينة نايت الرايس*

تغادر العديد من المهاجرات من إفريقيا جنوب الصحراء بلدانهن تحت وطأة الفقر أو البطالة أو الحرب والنزاعات القبلية، ويتجهن صوب المغرب أملا في تحسين أوضاعهن الاجتماعية والاقتصادية.

ليليان وماريان (أسماء مستعارة بطلب من المهاجرات) هما مهاجرتان تلقيتا وعودا بالاشتغال في الخدمة المنزلية في المغرب مقابل أجور تمكنهن من رعاية أنفسهن وأسرهن اللواتي تركتاها في بلدانهما الأصلية، لكن سرعان ما وجدتا نفسيهما ضحية ممارسات استغلالية وانتهاكات تعسفية تحمل شبهة الاتجار بالبشر.

وعود كاذبة

عاشت الشابة الإيفوارية ليليان (24 عاما) في البيت الذي كانت تشتغل فيه بمدينة فاس مدة 9 أشهر لم تتقاض فيها درهما واحدا.

وعن ظروف التحاقها بهذا العمل، صرحت ليليان: “إحدى قريباتي هي من توسطت لي من أجل العمل لدى الأسرة، وعندما تواصلت مع ربة البيت اقترحت علي الحصول على السكن وعلى أجرة تقدر بـ1500  درهم شهريا، لكن سرعان ما اكتشفت أن الأمر لم يكن سوى وعود تنطوي على الكثير من الكذب”.

وأفادت ليليان بأن مشغلتها كانت ترفض دفع أجرتها بدعوى أنها تحملت تكاليف سفرها من ساحل العاج إلى المغرب، ثم قالت: “لقد بلغ بها الأمر حد منعي من الخروج ومن الاتصال بعائلتي، فقد سلبت مني هاتفي الشخصي كما قامت بحجز أوراقي الثبوتية وجواز سفري”.

عبودية مقننة

خلال سردها تفاصيل حكايتها، قالت ليليان: “لقد عشت عبودية مقنعة، فإضافة إلى الأشغال المنزلية التي كنت أقوم بها بشكل يومي، كانت مشغلتي تأخذني بسيارتها للاشتغال في منزل أختها ولدى ابنة زوجها، ثم تعيدني بعد أن أكمل مهامي التي لا أتلقى مقابلها أي أجر أو مكافأة”.

وتابعت بنبرة حزن: “معاناتي لا تقف عند هذا الحد، فقد تعرضت للعنف اللفظي والجسدي من طرف المشغلة التي كانت تضربني لأسباب واهية، كما أنها تعمد أحيانا إلى احتجازي داخل غرفتي ومنع الأكل عني لأيام”.

وعن رحلة هروبها، ذكرت ليليان أنها التقت برجل إفريقي خلال خروجها لرمي القمامة، حيث استفسرها عن وضعها بعدما عاين آثار عنف بادية على وجهها، ثم اقترح عليها دفع تكاليف سفرها إلى مدينة الدار البيضاء التي اشتغلت فيها مدة شهرين لدى أسرة أخرى قبل أن تلتحق بمدينة أكادير حيث تشتغل إلى حدود اليوم عاملة زراعية.

قطعت الغابات والصحاري وبت في العراء أياما متتالية

قصة ماريان (36 عاما) تحمل أوجها مختلفة من المعاناة، خاصة أن رحلتها من الكاميرون إلى المغرب لم تكن سهلة أبدا، حيث جابت الغابات والصحاري على الأقدام، وباتت في العراء دون أكل أو شرب ليالي متتالية.

وكأول وجهة لها، استقرت ماريان في الرباط حيث امتهنت التسول أحيانا وبيع الأكسسوارات النسائية أحيانا أخرى، قبل أن تقترح عليها إحدى معارفها الالتحاق بأسرة بمدينة ورزازات من أجل الاشتغال كخادمة، مقابل الحصول على الأكل والمبيت المجاني، وأجرة 2000  درهما شهريا.

التحرش الجنسي يعمق معاناة المهاجرات

بعينين تملؤهما الدموع، تروي ماريان قصتها: “لقد كنت مسؤولة عن أشغال البيت إضافة إلى الاعتناء بسيدة مسنة وطفل صغير، كنت أفعل ذلك كله دون الحصول على فلس واحد، ودون أن أحظى بيوم من الراحة”.

وأضافت بصوت متردد: “لقد عانيت من التحرش الجنسي من طرف أقارب مشغلتي الذين كانوا يتوافدون على منزلها باستمرار، الأمر الذي جعلني أعيش فترات من الخوف وانعدام الأمن.. لقد كنت دائما أوصد باب غرفتي بحاجز خشبي أو كرسي حديدي حتى أتمكن من النوم”.

وكليليان، لم تتلق ماريان الأجرة التي وعدت بها طيلة 8 أشهر أصيبت خلالها بورم ليفي في الرحم دون أن تتمكن من الذهاب إلى الطبيب، وهو ما اضطرها لترك منزل مشغلتها في الساعة 5 صباحا متجهة إلى مدينة أكادير، حيث حظيت بمساعدة جمعية تعنى بقضايا المهاجرين من أجل الحصول على العلاج.

الوضعية غير القانونية للمهاجرات تجعلهن عرضة للاتجار بالبشر

كشف المحامي والباحث في قضايا الإعلام والهجرة وحقوق الإنسان، الحسين بكار السباعي، أن المغرب استطاع من خلال حوكمة الهجرة أن يجعل من تناوله ملف المهاجرات والمهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء عملية تخضع لاحترام قانون حقوق الإنسان في معناها الشمولي، غير أن عددا من هؤلاء يقعون في قبضة سماسرة الاتجار بالبشر الذين يتوسطون لتشغيلهم في البيوت المغربية (بالنسبة للمهاجرات) أو في بعض الأوراش وفي الضيعات الفلاحية.

وأضاف السباعي أن الوضعية غير القانونية لهؤلاء المهاجرين والمهاجرات تجعلهم عرضة لمعاملات قاسية تمارس عليهم من طرف مشغليهم في أغلب الأحيان، مثل الاحتجاز ومصادرة جواز السفر والتعذيب والاستغلال والتحرش الجنسي، وهي الجرائم المنصوص عليها في الفصل 2-448 من القانون 27.14 المتعلق بمكافحة الاتجار بالبشر، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6501 بتاريخ 19/09/2016.

وشدد الباحث في الإعلام والهجرة وحقوق الإنسان على أن المشرع المغربي تصدى لجريمة الاتجار بالبشر بمقتضى القانون 27.14 الذي ضخت مواده قي القانون الجنائي المغربي، وأوجد لها عقوبات مشددة في الحالات التي تعتبر اتجارا بالبشر، أو التي ينتج عنها الاحتجاز أو التشهير أو التعذيب أو الإصابة بعاهة مستديمة.

إحاطة قانونية

يعرف القانون 27.14 الاتجار بالبشر من خلال الفصل 448-1  على أنه “تجنيد شخص أو استدراجه أو نقله أو تنقيله أو إيواؤه أو استقابله، أو الوساطة في ذلك، أو بواسطة التهديد بالقوة أو باستعمالها أو باستعمال مختلف أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع، أو إساءة استعمال السلطة أو الوظيفة أو النفوذ أو استغلال حالة الضعف أو الحاجة أو الهشاشة، أو بإعطاء أو بتلقي مبالغ مالية أو منافع أو مزايا للحصول على موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال”.

وأوضح المحامي السباعي أنه “يعاقب بالسجن من 5 إلى 10 سنوات وبغرامة من 10 آلاف إلى 500 ألف درهم كل من ارتكب جريمة الاتجار بالبشر”، في حين “ترفع عقوبة الاتجار بالبشر إلى السجن من 10 إلى 20 سنة وغرامة من 100 ألف إلى مليون درهم إذا ارتكبت الجريمة بواسطة التهديد بالقتل أو بالإيذاء أو التعذيب أو الاحتجاز أو التشهير، أو إذا كان مرتكب الجريمة حاملا لسلاح ظاهر أو مخفي، أو إذا كان موظفا عموميا استغل وظيفته لارتكاب الجريمة أو تسهيل ارتكابها، أو إذا أصيبت الضحية بواسطة استغلالها في جريمة الاتجار بالبشر بعاهة دائمة أو بمرض عضوي أو نفسي أو عقلي عضال، أو إذا ارتكبت الجريمة من قبل شخصين أو أكثر بصفتهم فاعلين أصليين أو مساهمين أو مشاركين، أو إذا كان مرتكب الفعل معتادا على ارتكابه أو إذا ارتكبت الجريمة ضد عدة أشخاص مجتمعين”، حسب ما ينص الفصل 2-448 و 3-448.

الجهود المبذولة لمحاربة جريمة الاتجار بالبشر

كشف الباحث السباعي أن المغرب وضع سياسة مهمة لتدبير ملف الهجرة، مشيرا إلى أن هناك جمعيات تشرف على التكفل بالمهاجرات ضحايا الاتجار بالبشر، من خلال مساعدتهن وتوجيههن وتمكينهن من المصاحبة النفسية والقانونية.

وأضاف السباعي أن “المغرب عمل على مر السنوات الماضية على تكوين ضباط في السلطة القضائية وقضاة بالنيابة العامة للتصدي لجريمة الاتجار بالبشر، كما تم تكوين مفتشيات الشغل وجمعيات المجتمع المدني، في إطار البرنامج الذي تقوده الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.”

وإلى جانب ذلك، أحدث المغرب لجانا جهوية لحقوق الإنسان من أجل رصد الانتهاكات التي يسقط المهاجرون والمهاجرات ضحية لها، إضافة إلى عمل اللجنة الدائمة التابعة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي يترافع عن مثل هذه القضايا.

وخلص الباحث إلى أن “القانون يوفر الحماية لضحايا الاتجار بالبشر وكذا للشهود في حال تبليغهم عن هذه الجرائم”، مشددا على “ضرورة خلق الثقة بين المؤسسات التي تعنى بقضايا الاتجار بالبشر والضحايا، من أجل تمكينهم من البوح واسترجاع حقوقهم، ومعاقبة المتورطين في الاتجار بهم”.

ضحايا الاتجار بالبشر .. معاناة مركبة تصطدم بجدار الصمت

من جهتها، كشفت إلهام ملهبي، المساعدة الاجتماعية في جمعية صوت النساء المغربيات (جمعية مغربية تأسست في 10 يونيو 2007، بهدف الدفاع عن قضايا المرأة ومحاربة العنف والتمييز القائمين على النوع الاجتماعي)، عن صعوبة تحديد الحالات التي عانت أو لا تزال تعاني من الاتجار بالبشر في صفوف المهاجرات من إفريقيا جنوب الصحراء، وذلك بسبب عدم وعي هؤلاء المهاجرات بخطورة ما يتعرضن له من جهة، ورفضهن البوح به من جهة أخرى.

وأضافت إلهام أن هؤلاء المهاجرات غالبا ما يفضلن الصمت عن معاناتهن التي تظل حبيسة البيوت التي يشتغلن فيها مخافة أن يسقطن في يد الشرطة ويتم ترحيلهن، مشيرة إلى أن معظمهن لا يملكن دراية كافية بقانون مكافحة الاتجار بالبشر، وبالحماية التي يوفرها للضحايا.

واعتبرت إلهام أن ضحايا الاتجار بالبشر من المهاجرات غالبا ما يعشن معاناة مركبة، تتسم بالقهر والتعسف والاحتجاز والعنف، سواء العنف اللفظي المبني على ثقافة عنصرية، أوالعنف الجسدي أو العنف الاقتصادي والاجتماعي في إطار العمل، حيث يعمد أرباب الشغل إلى استغلال فقرهن ودفعهن إلى الاشتغال ساعات طويلة مقابل أجور زهيدة.

وأشارت المساعدة الاجتماعية إلى أن هناك مهاجرات أخريات من ضحايا الاتجار بالبشر ممن صرحن بتعرضهن للاستغلال الجنسي تحت ذريعة توفير الحماية لهن خلال رحلة الهجرة إلى المغرب أو حتى بعد استقرارهن في المملكة، وهو ما يترك أثرا بليغا في نفسية الضحايا اللواتي غالبا ما يرفضن الحديث عما عشنه من تجارب مخافة تسريب قصصهن في أوساط الجماعات التي ينتمين إليها.

التقرير الوطني حول الاتجار بالبشر 

قدمت اللجنة الوطنية لتنسيق إجراءات مكافحة الاتجار بالبشر والوقاية منه بالمغرب، مؤخرا، تقريرها الأول، الذي تضمن مجموعة الإحصائيات والمعطيات التي ترصد جريمة الإتجار بالبشر بالمملكة والجهود المبذولة لمحاربتها.

وكشف التقرير الذي يغطي فترة سنتيْن من عمل اللجنة منذ تنصيب أعضائها في يونيو 2019، أن عدد قضايا الإتجار بالبشر بالمغرب عرف ارتفاعا ملحوظا تجاوز %200 بالنسبة لسنة 2018، و%96 بالنسبة لسنة 2019.

وحسب ذات المصدر، فقد عرف عدد ضحايا الاتجار بالبشر تزايدا مهما خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حيث بلغ 719 ضحية منهم 414  من الذكور، و305 من الإناث، علما أن عدد الضحايا المغاربة بلغ 536 مغربيا، وعدد الضحايا القصر192.

وتصدر الاستغلال الجنسي قائمة أكثر صور الاستغلال شيوعا في إطار الاتجار بالبشر في المغرب، بما مجموعه 283  شخصا، فيما طال الاستغلال بالتسول 56 شخصا، والسخرة 35 شخصا، وذلك إلى جانب صور أخرى من الاتجار بالبشر “لم يرد بشأنها ما يكفي من التوضيحات”، حسب ما جاء في التقرير.

وهبي : تنزيل القانون 27.14 تعترضه جملة من الإشكالات

في تعليقه على الخلاصات التي جاء بها التقرير الوطني الأول حول الاتجار بالبشر، كشف وزير العدل عبد اللطيف وهبي، أن ظاهرة الاتجار بالبشر تنتشر بشكل كبير في المغرب، مؤكدا غياب مؤشرات وطنية دالة على هذه الجريمة حسب تخصص كل متدخل، وعدم وجود آلية وطنية لتحديد ضحايا الاتجار بالبشر لضمان لحماية أنجع لهم.

وتوقف وهبي الذي يرأس اللجنة الوطنية لتنسيق إجراءات مكافحة الاتجار بالبشر والوقاية منه، عند خطورة جريمة الاتجار بالبشر، كما نبه إلى درجة توسعها على المستوى الوطني والدولي وطبيعتها المعقدة من حيث التنظيم والتنفيذ.

واعتبر ذات المتحدث أن تنزيل القانون المتعلق بمحاربة جريمة الاتجار بالبشر تعترضه جملة من الإشكالات، إضافة إلى الصعوبات الكامنة على مستوى التطبيق، من قبيل غياب تملُّك مشترك لمقتضيات القانون  27.14.

وهبي أوضح أن اللجنة الوطنية لتنسيق إجراءات مكافحة الاتجار بالبشر والوقاية منه تقوم بمجموعة من الإجراءات، منها تعزيز قدرات أعضاء اللجنة أو المتدخلين في التعرف على الضحايا المفترضين لجريمة الاتجار بالبشر في القطاعات الحكومية، والمؤسسات القضائية والأجهزة الأمنية، وجمعيات المجتمع المدني، كما تنظم وحدات للتكوين لفائدة مفتشي الشغل.

وخلص وهبي إلى أن العمل المستقبلي للجنة سيركز على تعزيز قدرات كافة المتدخلين في مجال مكافحة الاتجار بالبشر والوقاية منه، وفق منظور وطني موحد، اعتمادا على برامج التكوين والتكوين المستمر، كما ستعمل على تعزيز التواصل والتحسيس بخطورة جريمة الاتجار بالبشر.

وإضافة إلى ذلك، ستعمل اللجنة على إحداث آلية وطنية لإحالة ضحايا الاتجار بالبشر وتوجيههم إلى السلطات المختصة وتوفير الحماية اللازمة لهم، باعتبار أن الاتجار بالبشر هو جريمة تمس بالحقوق الأساسية للإنسان.

* صحافية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *