حوارات، خارج الحدود

“​​خمسة أسئلة”.. الارتباك الأوروبي جعله يصدر أزماته والمغرب واع بخطر “الشريك الواحد”

سارعت العديد من المؤسسات الرسمية والمدنية والحزبية والحقوقية، ومعها أصوات شعبية، إلى الصدح باستنكارها وتنديدها بموقف البرلمان الأوربي، الذي صرفه في “تقرير حول تنفيذ السياسة الخارجية والأمنية المشتركة 2022″، يتعلق بحرية الصحافة وحقوق الإنسان في المغرب، معتبرة بإجماع على أنه تدخل “معيب” في الشؤون الداخلية للمغرب.

كما لحق هذا الموقف توجسات من توتر العلاقة مع الاتحاد الأوربي باعتباره شريكا “مهما” للمغرب، وانعكاس ذلك سلبا على السياسات الاقتصادية والقضايا الأمنية بين المغرب ودول الاتحاد. كما أثار تساؤلات حول أسباب التركيز على المغرب واستثناء دول مجاورة، تعيش أوضاعا حقوقية غير أفضل من المغرب.

لنقاش هذا الموضوع، والبحث عن الخلفيات السياسية المختفية وراء هذا القرار، والرد المغربي المناسب على البرلمان الأوربي، تستضيف جريدة “العمق المغربي”، الأستاذ الجامعي في العلاقات الدولية وتحليل الأزمات، ومدير مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات، إدريس لكريني.

كما نستثمر هذه الفرصة للحديث عن العلاقات المغربية الجزائرية، كون الضيف، رئيس منظمة العمل المغاربي، وأحد أبرز المساهمين المغاربة في طرح النقاشات وإحيائها حول الحلم المغاربي.

في البداية، أستاذ إدريس، ما تعليقك على موقف برلمان الاتحاد الأوروبي، وما هي خلفياته؟

قرار البرلمان الأوروبي؛ قرار يتجاوز كل القوانين والمواثيق الدولية التي تؤكد على احترام سيادة الدول، وعلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية لها. ويزداد الموقف خطورة عندما يتم التدخل في قضايا الدفاع عن حقوق الإنسان وتجاوز المؤسسات الدستورية للبلد، والتنكر لمختلف التراكمات والقارات والتشريعات التي أصدرها المغرب في هذا الخصوص.

في الحقيقة، القرار ينم في جزء كبير منه عن رغبة في تحقيق أهداف سياسية واستراتيجية باسم حقوق الإنسان، خصوصا إذا استحضرنا السياق التي يأتي فيه هذا القرار، وبخاصة مع توجه المغرب لإرساء سياسة خارجية تنحو نحو إرساء شراكات متوازنة مع مختلف البلدان الأوربية.

هذا السلوك، يعكس في بعض جوانبه الانتقائية التي طبعت التعاطي الأوروبي مع قضايا حقوق الإنسان، ففي الوقت الذي يتم التنكر فيه لمعاناة المهاجرين والممارسات التي تتجاوز حقوق الإنسان في الفضاء الأوربي، والانتهاكات التي طالت مكافحة الإرهاب، وما يتعرض له المسلمون في أوروبا من تمييز وتضييق، كلها سلوكيات تُبرز أننا أمام انتقائية وأمام تعس في توظيف حقوق الإنسان لأغراض ضيقة.

في المقابل، أظن أن قضايا حقوق وحريات الإنسان، تبقى مفتوحة، نظرا إلى تطورات التي تطال الموضوع، وإلى المشاكل والإشكالات التي تواجه منظومة حقوق الإنسان عالميا بما فيها أوروبا. ومواكبة هذه القضايا أمر طبيعي، فالمغرب يتوفر على مؤسسات داخلية دستورية، ومدنية وحقوقية وحزبية، تحرص على هذه المواكبة، وتصدر قرارات ومواقف بهذا الخصوص، لا تخلو من الجرأة ومن عمق في التعامل.

أعتقد أن مقاربة حقوق الإنسان تتطلب نوعا من الموضوعية واستحضار جميع جوانبها وأطرافها، إضافة إلى استحضار المبادئ الأساسية التي تقوم عليها، خصوصا ما يتعلق بمبدأ عدم التمييز بين مختلف الشعوب والبلدان، فيما يتعلق بالسعي في تعزيز هذه الحقوق الإنسانية.

هل سيكون لهذا الموقف تبعات وخيمة على المغرب خاصة وأن العديد من الدول من داخل الاتحاد الأوربي تعتبر شريكا استراتيجيا للمغرب سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الأمني؟

المغرب كان واعيا منذ سنوات بخطورة وضع البيض في سلة واحدة، أي التركيز والاعتماد على الشريك الأوروبي. طبعا لدواعي منها الاقتصادي المرتبط بالأزمات التي مرت بها أوروبا، وكانت لها انعكاسات على الاقتصاد الوطني، وأيضا حتى على المستوى الاستراتيجي، على اعتبار أن من المبادئ التي تقوم عليها العلاقات الدولية، أنه لا توجد صداقات وعداوات دائمة، بقدر ما توجد مصالح دائمة.

لذلك، المغرب منذ مدة حاول أن يرسي علاقات خارجية في إطار جنوب جنوب، وإرساء شراكات مختلفة مع أطراف الإفريقية، والهند، والدول الأسيوية، وأمريكا اللاتينية، وغيرهم، ثم الانفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية والصين وغيرها من البلدان، وهذه هي الصورة التي خففت بشكل كبير من احتكار هذه العلاقات من طرف الشريك الأوروبي، الذي هو شريك تقليدي في كل الأحوال.

أعتقد أن موقف البرلمان الأوروبي، يبرز مدى التضارب القائم داخل أوروبا نفسها، ويعكس حجم الارتباك الذي يطال الجسم الأوروبي، خصوصا بعد ما جرى في أوكرانيا والمشاكل التي عاشتها أوروبا بفعل موجات الهجرة، وقضايا الإرهاب والتطرف، ومشاكل الفساد التي أثيرت داخل البرلمان الأوروبي الذي يمثل الجهاز التشريعي لهذا الاتحاد.

وكل هذه المشاكل، يمكن أن تفسر هذا الارتباك الواضح الذي أصبح يطال الدول الأوروبية، والتي أصبحت تفقد وزنها داخل الكثير من مناطق العالم. ففي إفريقيا مثلا، نلاحظ أن فرنسا بدأت تتراجع بشكل كبير في مناطقها التقليدية، وكذلك انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتباين الحاصل في مجموعة من القضايا المطروحة، أبرزها الملف الإيراني.

عموما، إن المغرب أعطى رسالة واضحة للاتحاد الأوروبي، مفادها حرصه على تمتين علاقته والاستمرار في شراكته المتوازنة، والتي يوازيها نفس الحرص والصرامة لإرساء علاقات مبنية على حسن التعامل والاحترام وعلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية، لأن الأمر يتعلق بمبدأ أساسي يقوم عليه القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.

في نظرك، ما هو السلوك الذي يجب أن يتخذه المغرب للرد على هذا الموقف؟ وهل الاستنكار والشجب الصادر عن مؤسسات الدولة والحزبية والمدنية وغيرها، كافية في هذا الإطار؟

رد المغرب، سواء على المستوى الرسمي من خلال مجلسي البرلمان أو الهيئات السياسية والمدنية وحتى الشعبية، أمر طبيعي إذا استحضرنا خطورة هذا القرار الذي يحاول أن يصور المغرب كأنه يعيش أوضاعا كارثية في مجال حقوق الإنسان، في تنكر لجميع المكتسبات ولمختلف الفاعلين الذين يشتغلون بموضوعية وبكل مسؤولية في سبيل تعزيز حقوق الإنسان بالمغرب.

لذلك، هذه التوجهات لبعث رسائل إلى أوروبا طبيعية، مفادها أن المغرب ليس بحاجة إلى إملاءات أو دروس يتم إرسالها من موقع التعالي أو بمنطق التفوق الوهمي الذي تعيشه بعض الأطراف الأوروبية، الساعية لِلَجمِ الطموحات التي عبر عنها المغرب في السنوات الأخيرة، خصوصا مع توجهاته في إفريقيا وخيارات الخارجية، والانفتاح على أقطاب أخرى، الأمريكي والصيني وغيرهما.

هذا الرد مهمٌ جدا، لكن أظن أن الرد الأكثر نجاعة هو الانكباب على تعزيز المكتسبات المتعلقة بحقوق الإنسان وتعزيز الحريات والحقوق، وأيضا الانكباب على بناء المؤسسات وتعزيزها ودعم الإصلاحات السياسات، لأن تمتين البيت الداخلي هو المدخل الأساسي لِلَجمِ هذه التدخلات التي يمكن أن تستهدف المغرب في المستقبل.

يلاحظ أن الأزمة بين الجزائر والمغرب في تزايد مستمر، تطورت لتشمل النقاش الكروي والشعبي عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن كنا نلمس تعاطفا بين الشعوب فيما سبق.. ما هي مسببات هذا؟ وكيف يمكن تجاوزها؟

لقد وصلت هذه الأزمة إلى حد غير مقبول ولا يطاق، وتُحيل إلى تخوفات كبيرة من المستقبل الذي أصبح يرهن الأجيال الحالية والقادمة. وهذا مرده إلى حسابات ضيقة وسياسات تحمل نوعا من المغامرة والمجازفة، خصوصا بعدما أعلنت الجزائر من جانب واحد، القطيعة مع المغرب.

هذا الخيار، أعتبره شخصيا بأنه خيار خاطئ من المنظور الاستراتيجي، على اعتبار أنه في الوقت الذي استطاعت فيه الكثير من البلدان في مناطق مختلفة من العالم، أن تطوي خلافاتها وأن تنكب على القضايا الحقيقية، عبر توفير المقومات المتوفرة على قلتها في سبيل تحقيق ازدهار الشعوب المجاورة، ما زلنا نعيش، مع كامل الأسف، في المنطقة المغاربية على إيقاع الهدر والمشاكل المتراكمة، التي تعرض مستقبل المنطقة برمتها لكثير من المخاطر والتهديدات الفعلية.

وتتزايد هذه التهديدات مع وجود قوى دولية إقليمية كبرى تسعى إلى تحقيق أجندتها ومصالحها، باستغلال هذه الفراغات الاستراتيجية وتكريس هذه الفرقة والتحريض عليها، من أجل تحقيق مصالحها الاقتصادية والتجارية، وجعل هذه الدول تابعة لها على المستويات الاقتصادية والعسكرية.

من ناحية أخرى، وعلى عكس بعض البلدان الأوروبية الأخرى، فقد كان لبعض النخب المثقفة وللشعوب المتنورة، والفنانين، والفاعلين المدنيين والسياسيين، دور كبير في التغيير والتأثير على توجهات صانعي القرار والنظم التي كانت سائدة، والتي كرست الحروب التي عاشتها أوروبا لسنوات، وتدعم خياراتها حول الانفتاح وتشبيك العلاقات، لطي الخلافات وتحويلها إلى فرص للإبداع وتجاوز متاهات الحروب.

أما الحال في البلدان المغربية، نجد عكس ذلك، هنا نخب تنتعش وتستمد وجودها من عقيدة العداء والصراعات وافتعال الأزمات، ومع الأسف تمكنت إلى حد كبير في أن تحول هذا الحقد وهذا البغض والكراهية نحو جزء كبير من شعوب المنطقة، واستطاعت مع الأسف أن تدخِل المنطقة في متاهات من الصراعات والحروب الاعلامية التي تمثل تنكرا حقيقيا لكثير من المقومات المشتركة الحضارية والثقافية والإنسانية، والدفاع المشترك لأجل نيل الاستقلال في المنطقة المغاربية في فترات الكفاح ضد المستعمر.

ومع كامل الأسف، لم تسلم الرياضة من هذا الداء، بعدما كانت تمثل متنفسا، وكثيرا ما ساهمت في تلطيف الأجواء، خاصة عندما كان المغاربة يخرجون للتعبير عن فرحتهم إزاء منجزات يحققها المنتخب الرياضي الجزائري، أو العكس، عندما كان يخرج الناس في الجزائر فرحا بإنجازات الأسود، بصورة تعكس هذه الروح والأخوة المشتركة.

واليوم أُقحمت الرياضة في هذه الصراعات، وبدت المناسبات الرياضية وكأنها منابر لتحجير شُحنات الحقد، ومنصات لإعلان الحروب والمواجهات، وهذا أمر خطير، خصوصا أن كثير من رواد شبكات التواصل الاجتماعي، ساهموا في تكريس هذا العداء وفي الترويج للمنطقة كأنها في حرب أو عاشت حروبا في حين أن المنطقة المغاربية لم تعش ولو جزء يسيرا مما عاشته البلدان الأوروبية في السابق.

المسؤولية الكبيرة اليوم، تواجه النخب المثقفة وكل الغيورين على مستقبل هذه المنطقة، لأن المنطق يقول بأن الطبيعة لا تأبى الفراغ، وذلك من أجل تجاوز حالة الصمت والانزواء، إلى الانخراط في النقاشات البناءة، وتضييق الخناق على الخطابات التي تستغل كل المنصات لتكريس العداوات المصطنعة.

هل ستؤجل هذه الأزمة حلم الوحدة المغاربية، خاصة بعد توتر العلاقة المغربية التونسية أيضا، بعد استقبال الأخيرة بشكل رسمي زعيم جبهة البوليساريو ندوة “تيكاد” اليابانية الإفريقية، في غشت 2022؟

الواقع الحالي يحيل إلى الآسى والتذمر إزاء مستقبل البناء المغاربي، هذا البناء الذي كان حلم الأجداد، ويبدو اليوم وبصورة لا مجال للشك فيها، أن الأجداد كانوا أكثر غيرة ومسؤولية وفكرا متنورا واستراتيجيا من جيلنا، على اعتبار أن هؤلاء أسسوا لمبادرات وازنة في إطار لقاءات تمت بالجزائر وتونس والمغرب والقاهرة، في سبيل تحقيق حلم تكتل واع في زمن كان الأجداد واعون بحجم التحديات التي تكبر مع الوقت.

نلاحظ بكل أسف أن بعض البلدان المغاربية، خصوصا تونس التي لم تستطع المحافظة على حيادها في ملف قضية الصحراء، والتي طالما حرص على ذلك الزعماء التونسيين. وتبين على أن الموقف التونسي لم يكن محسوبا، وقد أحرج النخبة التونسية الوازنة، التي تفكر بمنطق البناء المغاربي والوحدة المغاربية.

أعتقد أن مايجري في ليبيا أيضا، أمر ينبغي أن ينظر إليه مغاربيا، لأنه حالة الصراع القائم هناك، كلفته خطيرة على الليبيين، ويمكن أن تزداد في حالة عدم تحمل الدول المغاربية مجتمعة مسؤوليتها. وهذا دون أن ننكر ما قامت به هذه الدول بشكل أو بآخر في سبيل وقف نزيف الأزمة الليبية.

لكن، أعتقد أن البلدان المغاربية، هي المعنية بتطور الأوضاع سلبا أو إيجابا في ليبيا، وتقديم يد العون سيدعم استقرار المنطقة بكل تأكيد، والعكس صحيح، سواء على المستويات الأمنية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، لذلك ما أحوج المنطقة لموقف مغاربي بناء لأن رهان الاستقرار الليبي ينبغي أن يكون مغاربيا أيضا.

في الحقيقة، نحن أمام وضعية نتمنى أن تكون بداية انفراج والبناء الذي يؤسس على أسس متينة لأن الأمور الآن وصلت إلى مستوى من التدهور الذي ربما لم يسبق أن عاشته المنطقة، أخذا بعين الاعتبار لكل هذه التطورات التي أصبحت تنذر بمخاطر كبيرة، خصوصا أن البلدين المركزيين في المنطقة، وهما المغرب والجزائر، مع تطور الأوضاع والصراع قد يعودا نحو سباق محموم بالتسلح وهذا سيكون على حساب قضايا التنمية ورفاه المواطنين وعلى حساب كثير من الملفات التي ما أحوج الشعوب المغاربية إليها.

لذلك، فإن ما وصل إليه الأمر في هذا المستوى، يحتاج إلى مراجعة وحوار وأطراف إقليمية وداخلية تسعى إلى التحسيس بمخاطر ما نتجه إليه في ظل الظروف الحالية، ويمكن تحويل هذه اللحظة الفارقة إلى فرصة لتجاوز الخلافات وتسويتها خصوصا بين الجانب المغربي والجزائري، وهذه دعوى سبق للملك محمد السادس أن وجهها قبل سنوات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *