لنا ذاكرة

هكذا ساهم تصدير القمح إلى أوروبا في مجاعة كبرى بالمغرب إبان القرن 18

لم يكن السلطان محمد الثالث يدري أن قرار السماح بتصدير القمح إلى أوروبا سيساهم في فتح أبواب المغرب على مصراعيه في وجه مجاعة كبيرة، فبعد هذه الخطوة بسنوات قليلة “بلغ الجوع بالقرويين مبلغه وهم يجوبون الحقول بحثا عن الجذور والكثيرون يتهالكون جوعا”. بحسب ما أفاد القنصل الفرنسي لويس دو شينيي، كما اضطر الفقراء إلى التخلي عن أبنائهم للمحسنين.

ومن المشاهد المروعة لمجاعة القرن الثامن عشر الكبرى، التي وثقها شينيي، بحسب ما نقل عنه محمد الأمين البزاز في “تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر”، أن الموت شرع بالفتك في بالناس، إذ “تم العثور على أسر بكاملها ميتة في الطريق”. فهذا المشهد جاء نتيجة لتضافر عدة عوامل، منها السماح بتصدير قوت المغاربة إلى الأوروبيين.

فتوى التصدير

شهدت البلاد خلال سنة 1766 والفترة التي سبقتها بقليل، مواسم فلاحية جيدة، بسبب الظروف المناخية الجيدة بالإضافة إلى استثباب الأمن والاستقرار إثر توقف الحروب الأهلية، وهو ما شجع السلطان المولى محمد على استصدار فتوى بجواز تصدير القمح ليتمكن من شراء الأسلحة والذخيرة.

يشير البزاز نقلا عن عدد من المصادر إلى أن السلطان استحدث مرسى فضالة لغرض تصدير الحبوب، فتكررت عمليات التصدير خصوصا بين سنتي 1770 و1774، في اتجاه البرتغال وإسبانيا وفرنسا، فتهافت الفلاحون نحو التصدير.

هذا القرار الكبير ساهم في تغيير بنية الاقتصاد بالبلاد، فبدل الاحتفاظ بالفائض من المحصول للسنوات العجاف كما دأب على ذلك الفلاحون، أصبح هذا الفائض يوجه نحو التصدير، وهو ما شكل مجازفة في ظل عدم انتظام التساقطات الذي يجعل المحاصيل عرضة للصدف.

منطق السوق يفرض أن يرتفع ثمن القمح محليا بسبب التصدير المكثف له إلى الأسواق الأوروبية، فرغم أن هذا التصدير اقتصر على منطقة الشاوية إلا أنها كانت تشكل سلة غذاء لكافة مناطق البلاد. في هذا الصدد يقول القنصل الفرنسي شينيي متحدثا عن سنة 1775، “إن محصول القمح لم يكن وافرا في السنة الماضية، والبلاد لا تتوفر على مخزونات منه بسبب النتائج الوخيمة الناجمة عن تصديره في السنوات الماضية، وترى ثمنه اليوم يزيد على ما كان عليه بثلاث مرات”.

المجاعة الكبرى

هكذا بدأت تتهيأ ظروف المجاعة في البلاد، قبل أن تساهم الظروف الطبيعية من التسريع من خطواتها في اتجاه المغرب. فبدأت تظهر ملامح هذا الوجه القبيح منذ 1775 حيث اجتاح الجراد سوس والغرب. كما واصلت الأسعار ارتفاعها وشحت الأقوات، فقرر السلطان حظر تصدير القمح.

عام 1776 ساهمت الظروف الطبيعية في تعبيد الطريق أمام المجاعة الكبيرة، وفي هذا الصدد يوضح البزاز أن السنة لم تكن جافة بقدر ما عرفت أمطارا غزيرة، ففي نواحي الرباط انهالت السماء كالطوفان وهدمت كثيرا من الدور، وتسببت في هلاك عدد من الأشخاص تحت الأنقاض، إلا أن الحبوب كانت وقتئذ نادرة في الأسواق وأسعارها مرتفعة.

وصلت المجاعة أرض المغرب وجثمت على صدور الفقراء والضعفاء قبل الأغنياء فاستبد الجوع بالناس وهلك عددا منهم، فيما اضطر الكثير من الآباء إلى التخلي عن أبنائهم للمحسنين بعدما عجزوا عن إطعامهم وسد جوعهم. أمام هذا الوضع الذي شحت معه موارد الدولة، اضطر السلطان إلى السماح للأوروبيين باستيراد الحبوب مع إعفائهم من أداء الرسوم الجمركية تشجيعا لهم.

وفي سنة 1777 “جاءت الصابة”، بحسب ما قال الضعيف، وتحسنت أحوال الفلاحة ومعها أحوال الناس نسبيا وانخفضت أسعار الحبوب قليلا، لكن هذه الاستراحة لم تدم طويلا، فموسم  1779/1778 تميز بانحباس المطر ونضوب المراعي وهلاك الدواب “وقع موت البقر حتى كاد ينقطع”، يقول الضعيف، وهو ما أكده القنصل الفرنسي لويس دو شينيي بقوله “إن البهائم نفقت بالآلاف ولن يتأتى تعويض هذه الخسائر حتى لو توفر الكلأ لمدة 4 سنوات متتالية”، ثم هجم الجراد لينهب ما بقي من أقوات الناس، فانهارت المحاصيل والتهبت الأسعار، فواصل الجوع تنكيله بالناس ما دفع المخزن إلى توزيغ الغوث واستيراد عدد من المواد الغذائية خصوصا من البرتغال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *