حوارات، مجتمع، مغاربة العالم

الدكتور يشو: الأمراض الصامتة تهدد المغرب العميق وهجرة الأطباء ليست دائما لأجل المال (حوار)

سجل ياسين يشو، وهو طبيب مغربي مقيم بفرنسا متخصص في العلوم العصبية وجراحة الدماغ، خلال مشاركته في حملة طبية لفائدة المتضررين من موجة البرد بالجنوب الشرقي، (سجل) انتشار “الأمراض الصامتة” بأقاليم تنغير وورزازات وزاكورة، والتي قد تؤدي إلى الوفاة، بسبب غياب التتبع الطبي لهذه الفئة، وانتشار ثقافة “الصبر” وعدم زيارة الطبيب إلا بعد فوات الأوان.

الدكتور يشو خلال حوار مطول مع جريدة “العمق”، أشار إلى أن هجرة الأطباء خارج المغرب، لا يكون دائما بسبب تحسين الوضعية المادية، كما عرج على النواقص المسجلة في التكوين الطبي بالمغرب، والأمراض المرتبطة بالجهاز العصبي المنتشرة وطنيا والتي يجب على المنظومة الصحية أن تتنبه إليها، ومواضيع أخرى تتعرفون عليها من خلال هذا الحوار المصور.

إليكم الحوار الكامل:

من هو الدكتور ياسين يشو؟ وقربنا أكثر من تخصصك الطبي؟

ياسين يشو طبيب وباحث في العلوم العصبية، وجراحة الدماغ مقيم حاليا فرنسا، أنحدر من الجنوب الشرقي، وبالضبط من إقليم زاكورة، حاصل على دكتوراه في الطب، وطالب دكتوراه في العلوم البيولوجية، وبيولوجية الدماغ بنيويورك، وطالب ماجستير في البيداغوجية التعليمية، وحاصل على الماجستير في الوقاية الدوائية وحاصل على ماجستير في التحفيز الدماغي.

في الحقيقة مساري الدراسي والمهني بشكل عام مبني على 3 أسس كبيرة، أولها: العلوم الطبية، وخصوصا كل ما يرتبط بعلم الأمراض العصبية وجراحة الدماغ والأمراض العقلية، أما الأساس الثاني فيرتبط بالبحث العلمي كل ما له علاقة بالبحث العلمي في العلوم الحقة والعلوم الحية وفي البيولوجية وبيولوجية الدماغ وعلم الوراثة وعلاقتها ببعض الأمراض العقلية وخصوصا كل السلوك البيولوجي، وكيف يمكن أن نفهم السلوك البشري فقط من خلال تحليل البيانات البيولوجية للإنسان.

وأيضا كيف يمكن أن نفسر طريقة تفكيرنا وأحاسيسنا وسلوكيتنا ووعينا، سواء سلوكياتنا العنيفة أو “الحميدة”، وكيف يمكن أن نفسر هذه التعامل البشري بطريقة بيولوجية، وما هي المناطق في الدماغ المسؤولة عن هذه السلوكيات البشرية، وكيف يمكن أن نفسر بعض السلوكيات الشاذة في بعض الحالات كعلم الإجرام مثلا.

والأساس الثالث يرتبط بالبيداغوجيا، وهو علوم التدريس وتحسيس الناس حول كيف يمكن أن نستعمل كل ما هو علمي وكل ما يتعلق ببيولوجية الدماغ، وكيف يمكن أن نستعمل هذه المعطيات في التدريس، حتى يكون للتدريس أثر أكثر ويكون لديه براغماتيا تجعلنا نتعلم بشكل أفضل، خصوصا وأننا حاليا نعاني مثلا من شبكات التواصل الاجتماعي، التي تستعمل هذه المحفزات البيولوجية عند الانسان والتي تجعلك ممسكا بالهاتف اليوم كاملا، وبالتالي فيمكن أن نقوم بنفس الشيء ولكن بغاية التدريس ومن أجل التحسيس بالأمراض وما إلى ذلك.

شاركت في حملات طبية لفائدة المتضررين من موجة البرد والثلوج مؤخرا، تحدث لنا عن مشاركتك؟ وما هي أبرز الأمراض المستشرية في هذه المناطق النائية؟

نعم شاركت في حملات طبية لفائدة المتضررين من الثلوج بمنطقة زاكورة، وتنغير وورزازات، أو ما يسمى بـ”مثلث المعاناة”، وفيما يخص نوعية الأمراض التي نجدها في هذه المناطق، فتكون غالبا أمراضا مزمنة، والأمراض التي سببها غياب التتبع الطبي، يعني أن المريض يكشف فقط على مضاعفات المرض، مثلا السكري، وارتفاع ضغط الدم، وليس المرض بحد ذاته، وهو أمر يحز في النفس.

الشخص في منطقة نائية لا يمكن أن يذهب لزيارة الطبيب، وهذا مشكل كبير لأن هذه أمراض صامتة، ويمكن فقط أن تشعر ببعض الأعراض، لكن يجب استشارة الطبيب مرة كل سنة، خصوصا الذين يصلون إلى منطقة الخطر، ويمكنهم أن يصابوا بهذه الأمراض، وهنا يمكن للطبيب أن يوقف تطور المرض وعلاجه، أما الاكتفاء فقط بعلاج الأعراض التي تظهر فهذا أمر خطير.

فمثلا مرض ارتفاع الضغط الدموي، لا يمكن للشخص أن يعرف أنه مصاب به إلا إذا كان يقيس ويراقب ضغطه الدموي، وإن لم يكن هناك مراقبة فلا يمكنه معرفة أنه مصاب، إلا في حالة انفجار شريان في الدماغ ويصاب بالشلل، وآنذاك سيعرف الشخص أنه مصاب منذ 10 سنوات، بهذا المرض ولم يكن على علم بذلك لأنه لم يكن يراقب ضغطه الدموي.

التتبع الصحي منعدم للأسف في هذه المناطق، إضافة الى انتشار ثقافة عدم زيارة الطبيب إلا إذا كنت مريضا، وعدم القيام بالتحاليل بشكل دوري لمعرفة إن كان الشخص بصحة جيدة. هذا التتبع الطبي، أو ما يسمى بطب الأسرة لايزال غائبا في المغرب. هذا بالإضافة إلى مشاكل أخرى في التغذية والنظافة وأمراض وراثية.

أود أن أشير كذلك إلى أن ” الصبر” في هذه المناطق يخلق المشاكل، ومن الضروري أن نتعلم بأنه عندما يحس الشخص بألم ما، فعليه أن يفصح بذلك، والابتعاد عن مقولة “الصبر مزيان” المنتشرة في ثقافتنا، لأنه يجب التعامل مع نظام الإنذار الموجود في جهازنا العصبي، والذي يطلقه كلما كان هناك مشكل في الجسم يلزمه التدخل.

مشكل السكان في هذه المناطق أنهم تربوا على الصبر، وكلما أحسوا بألم ما، يلجؤون للصبر، وأن الأمور ستكون على ما يرام، وينتابه الخوف من أن يقصدوا المستشفى في ورزازات فيتم تحويلهم إلى مراكش، وبالتالي يقررون عدم زيارة الطبيب، وهذا أمر محزن جدا.

أنت طبيب معروف على مواقع التواصل الاجتماعي، وتقدم نصائح ووصلات تحسيسية بالمجان، هل تظن أنه من الواجب على الطبيب أن يتقاسم معرفته على الشبكات الاجتماعية ويساهم في التحسيس ببعض الامراض أو الظواهر؟

لدي ماجستير في علوم التربية، ومن واجبي كمربي إيصال المعلومة للمريض سواء كانت جيدة أو سيئة، فأنا مجبر على ذلك، والطبيب مجبر أن يقوم بتحسيس مرضاه وغير مجبر على ذلك للعموم.

فبالنسبة لمرضاه مجبر لأنه أدى القسم وأيضا بقوة القانون وأخلاقيات المهنة، لأن الطبيب يجب أن يشرح للمريض طبيعة مرضه، ولماذا وصف له هذا الدواء وما هي أثاره الجانبية، وهذ الأمر يقوم به كل الأطباء، فهم يشرحون للمرضى مرضهم ولماذا طلب منه مثلا هذه التحاليل أو إجراء للسكانير.

وإن أخبرك الطبيب بأنك مريض بهذا المرض، فما هي مضاعفاته ونوعه هل هو مزمن أو خطير، وهذه المعلومات بالكامل يجب على الطبيب بقوة القانون وأخلاقيات المهنة أن يُطلع عليها مريضه، ولكن بشكل عام فالتحسيس من واجب وزارتي الصحة والثقافة والدولة بشكل عام.

أقوم بالتحسيس على مواقع التواصل الاجتماعي لأنني مهتم بالبيداغوجيا وعلوم التربية وكيف يمكن لدماغنا أن يستقبل هذه المعلومات، ويميز بينها، وكيف دخلت معلومة بصعوبة وأخرى بسهولة، وما هي الأمور التي تجعل من المعلومة سهلة أو صعبة الدخول للدماغ. وعموما يمكن للطبيب أن يقوم بالتحسيس لمرضاه وأيضا للعموم إن كان يرغب في ذلك.

كيف تنظرون إلى واقع التكوين في كليات الطب بالمغرب، وما الذي يميز مثلا النظام الفرنسي عن المغربي؟

على العموم هو نظام جيد لأنه يخرّج أطباء جيدين والدليل على ذلك أن الأطباء المغاربة يتواجدون في كل بقاع العالم، لكن لا يجب أن ننسى بأن غالبية هؤلاء الأطباء الجيدين يُكوّنون أنفسهم بأنفسهم.

هناك مشاكل يتم تسجيلها، مثل قلة مراكز التدريب، والخصاص في الأساتذة، إذ إن كل أستاذ يدرس من 300 إلى 400 طالب وعدد الطلبة في المراكز الاستشفائية الجامعية يفوق عدد المرضى والأساتذة المكونين.

وأود أن أسجل كذلك بأن هناك أساتذة يحملون مشعل التكوين بالمغرب، وماضون فيه بشكل جيد، ولكن يلزم ذلك إرادة سياسية، لأنها غائبة، ويتجلى ذلك أيضا في انعدام البحث العلمي سواء الطبي أو في التخصصات الأخرى، وذلك لغياب ميزانيات وشركات تستثمر في البحث، علاوة على غياب مراكز البحث، لدينا فقط مختبرات في الكليات وأي إنتاج بحثي في المغرب يكون فقط مجهودا شخصيا للباحث.

الأطباء المغاربة مقارنة بالأطباء الفرنسيين والأمريكيين، متفوقين جدا، خصوصا في التشخيص، ولكن المشكل الكبير في المغرب، متعلق بالبرتوكولات العلاجية، وهو مشكل لا يتحمل فيه الطبيب المسؤولية، لأنه ليس لدينا جمعيات علمية مهنية في بعض التخصصات تعطي بروتوكولات بشكل متجدد، وليس لدينا تكوين طبي مستمر، وحتى التكوين غير مبني على الحس النقدي العلمي.

نتحدث دائما عن هجرة الأطباء خارج المغرب، هل تنوي الاستقرار أنت بفرنسا، وكيف تنظر لهذه الظاهرة، وما هي مسبباتها وكيف يمكن تجاوزها مستقبلا.

أنا هاجرت لفرنسا وأمريكا ليس حبا في هذه الدول، لكن لأن تخصصي غير موجود في المغرب وحتى أبحاثي لا وجود لها بعد في افريقيا، وأتمنى أن أتعلم هذه الأمور هنا وبعدها أنقلها إلى المغرب فهذا سيكون هو المثالي.

هجرة الأطباء والباحثين والأدمغة بشكل عام لا تكون دائما لأجل المال، لكن الطبيب مثلا يبحث عن المكان الذي يمكن أن يعطي فيه أكثر وأن يحظى بقيمة مضافة أكثر، لأوضح أكثر، فتخصصي مثلا لو عدت للمغرب لن تكون لديه قيمة مضافة أو أثر ولكن هنا في فرنسا أو أمريكا أو دولة أخرى يمكن أن تكون لديه قيمة مضافة ويمكن أن أنفع به المغرب أكثر.

ونحن نعرف أنه خلال جائحة كوفيد-19، كان مغاربة الخارج هم الذين ساعدوا بلدهم في وقت الأزمة وأرسلوا مبالغ مهمة من العملة الصعبة، والأطباء المغاربة الممارسين بالخارج يعودون كذلك إلى المغرب وينظمون تداريب ومؤتمرات، ويحاولون نقل ما تعلموه للوطن حتى يستفيد منه أيضا، بهذه الطريقة يساهم في تطوير البلاد أكثر مما سيقوم بذلك لو ظل في المغرب.

كيف تنظر لمستقبل تخصص جراحة الجهاز العصبي بالمغرب؟ وما هي النواقص التي تلاحظها؟

في العالم بأكمله تخصص الجهاز العصبي، سواء العلمي أو الطبي هو تخصص لازال بحاجة للتطور في البحث العلمي، لأن أغلبية الأمراض سواء العصبية أو العقلية وبعض أنواع جراحة الدماغ، لم نجد لها حلا، لكن يمكن أن أقول لك بأن أمراض الجهاز العصبي، هو الجهاز الوحيد الذي لازال غير مفهوم بشكل كلي، لأن هناك أمراضا لازال العلم لم يصل إلى كيفية علاجها وبالكاد تطوير أدوية لعلاجها، لأن خاصية الجهاز العصبي أنه جهاز لا تنمو خلاياه بشكل سريع، يعني الخلايا العصبية عندما تموت لا تنمو بسرعة، وهذا مشكل كبير.

وحاليا نحاول بعدة طرق حل هذا المشكل، وفي 20 سنة الأخيرة، كان هناك تطور كبير ونحن على مشارف نتائجه، لأن جزءا كبيرا من الأمراض في ظرف الـ5 سنوات المقبلة سنجد لها علاجا، ولكن تظل مسألة الوقت وحتى إن وجد العلاج فمتى سيدخل إلى المغرب.

بخصوص النواقص التي يعاني منها هذا التخصص بالمغرب، فلابد أن أسجل غياب التشخيص، إضافة إلى وجود أمراض عصبية وراثية، والمشكل الثقافي في النظرة لأمراض الجهاز العصبي والأمراض العقلية، حيث ينظر لها نظرة ميتافيزيقيا خرافية مثلا لأمراض الصرع والسكيزوفرينية، وبالتالي لا تعالج لأنها لا تسلك الطريق الصحيح وهو عرض المصابين بها على الأطباء.

للأسف لازال انعدام الثقة في العلم والطب مستشريا، وثقافتنا جزء كبير منها يؤمن بالخرافات وهذا مرض خطير، وهنا يجب أن يظهر دور الأساتذة خصوصا في التعليم الابتدائي.

في نظرك ما هي الأمراض المرتبطة بهذا التخصص التي على المغرب أن ينتبه لها؟ على سبيل المثال الجلطة الدماغية، مرض باركنسون، الزهايمر؟

الجلطات الدماغية، هي أعراض بعض الأمراض وهنا أعود لمشكل غياب التتبع الصحي، لأن هذا المرض أكبر مسبب له هو ارتفاع الضغط والتدخين وارتفاع الكولسترول، هو مشكل في العروق التي تكون مرتبطة بالجهاز القلبي والدموي، وفيما يخص الزهايمر وباركنسون فهي أمراض حاليا نحاول أن نجد لها علاجا لأنها تسبب مشكلا كبيرا على المستوى الدولي.

حاليا في غضون 5 إلى 10 سنوات ستكون هناك علاجات فعالة جدا، خصوصا لمرض الزهايمر، وباركنسون حاليا لدينا بعض العلاجات ولكن فقط تطيل فترة تطور المرض، أي أن تطوره يكون بطيئا جدا. بخصوص الزهايمر فأنصح كل شخص وصل عمره 45 و50 عاما أن يظل دائما مرتبطا بكل ما هو اجتماعي وثقافي.

وبكل بساطة يجب أن يظل المخ دائما في حالة نشاط، لأنه لدينا قاعدة في البيولوجيا تقول إن أي عضو لا يشتغل يموت، وبالتالي فالمتقاعدون مثلا يجب أن يكونوا دائما في حالة نشاط، إما بالسفر أو زيارة العائلة أو قراءة الجرائد والقرآن، وكل ما من شأنه أن يشغل المخ ويبعده عن الروتين، بالإضافة إلى التغذية الصحية.

كيف تقيمون سلوكيات بعض الأسر التي تمنح الهواتف واللوحات الالكترونية للأطفال في سن مبكرة؟

الست سنوات الأولى هي أهم وقت في حياة الإنسان، في تلك الفترة تتكون الشخصية، وماذا سيكون عليه الشخص مستقبلا، وفي تلك الست سنوات نقلد الآباء والأمهات وكل من معانا، وتلاحظ مثلا أن الأبناء بعمر سنتين أو 3 سنوات يقلدون دائما ما يقوم به آباؤهم.

ففي تلك الفترة من حياتنا نحاول تقليد كل ما هو اجتماعي، وهي أهم فترة من الضروري على الطفل أن يتواصل مع الناس، وإذا تم تكسير هذا التواصل بمنحه الهاتف، فإن ذلك يمنحه محفزات “الدوبامين”، ولن يعد بحاجة للعلب أو التعلم، لأنه يجد سعادته فقط في الهاتف.

وهذا ما نلاحظه فعندما تنزع الهاتف من يدي الطفل يبدأ في الصراخ، وهو تحفيز بيولوجي مثير، وبالتالي فهو لا يجد السعادة إلا في الهاتف، لأنه في نظره يمنحه كل شيء، وأنت كأب أحسن ما يمكن أن تمنحه إياه هو ذلك الهاتف، لأنك لا تمنحه أمورا أخرى ليجد فيها سعادته.

وأنا هنا لا أقول بأن الهاتف ليس لديه جوانب إيجابية، منها الاحتكاك بالتكنولوجيا منذ الصغر، ولكن أهم شيء هو الجانب الاجتماعي الذي يفقده، وينتج عن ذلك طفل لا يعرف التواصل مع الناس، ويراهم غرباء، لأنه أمضى 6 سنوات من حياته أمام الهاتف، ولا يعرف التعامل معهم ولا التعلم منهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *